ينبوع الطاقة الروحية 1 من 2 – ديمتري أڤييرينوس

ينبوع الطاقة الروحية

1 من 2

ديمتري أڤييرينوس

المدرِّسة 1: ما هو شعورك وأنت ترقص؟
بيلي: لا أدري. أحس نوعًا من الارتياح.
أحس أولاً بالتيبس نوعًا ما، لكني حالما
أنطلق… فكأني عندئذ أنسى كل شيء.
و… كأني أختفي. كأني أختفي. كأني
أحس تغيرًا في جسمي كله. ثم تسري
هذه النار في جسمي. أكون حاضرًا فقط.
أطير كالعصفور. مثل الكهرباء… أجل،
مثل الكهرباء.
[1]

كيف لِمَن شاهد بيلي إليوت، فيلم ستيڤن دَلْدري الساحر، أن ينسى صورة ذلك الصبي الموهوب، الملهَم، ذي القدمين المجنحتين، يكاد أن يطير، محمولاً على طاقة هائلة تتدفق من داخله في يُسْر عجيب وتذلِّل على طريق تفتُّح موهبته، واحدًا بعد الآخر، كل عراقيل وسط اجتماعي متخلف يعتبر رقص الباليه "تخنثًا" والملاكمة "رجولة"!

غير أن هناك العديد من الناس ينتظرون أن يأتي أحدهم و"يلهمهم"، يأخذ بيدهم ويقول لهم ما يفعلون وكيف يفعلونه، – وإلا فهم يظلون على قلق و/أو عطالة. ولا نقول هنا إن اللقاء بأناس ملهَمين وملهمين يجب ألا يؤخذ على محمل الجد؛ إنما انتظار مجيء "الإلهام" من الخارج هو ما يؤخذ على أولئك الناس، لأن هذا الموقف السلبي ينطوي، من جهة، على قلة ثقة في موارد الحياة ودروسها المتواصلة، وعلى استخفاف بالقدرات الهائلة الكامنة في الإنسان، من جهة ثانية.

هناك ينبوع دائم من النور الطاقة والإلهام في متناول كل إنسان، ينبوع لا ينضب أبدًا. وهذا الينبوع الذي لا يتناقص دفقُه، لا مع الزمن ولا مع تقادُم السن، بل على العكس يزداد جريانُه حريةً وغزارةً بمجرد أن نتعلم إزالة السدود من مجراه (والأفضل: عدم وضع سدود أصلاً!)، – ينبوع الطاقة والإلهام هذا موجود فينا. على كلٍّ منا أن يكتشف في نفسه هذا الينبوع، هذا الانبجاس الأبدي، وإلا صرنا متكلين على الآخرين لتحفيزنا أو قيادتنا – حتى إن بعضهم يتكل في حياته النفسية على شخص بعينه، فيود أن يكون دومًا في صحبته؛ لكنه، مهما فعل، لا يصبح بذلك أفضل من ذي قبل أو، في أحسن الأحوال، لا يكون التغير فيه ملموسًا.

أين ترانا نكتشف ينبوعًا لا ينضب من الحيوية والإلهام إنْ لم نكتشفه في أنفسنا؟! ألسنا مع أنفسنا دومًا؟ وهل في مقدور المرء أن يهرب من نفسه؟! هذا الينبوع موجود، حاضر هنا – إنما يجب علينا أن نتعلم استمداد ما يكمن فيه من نور وطاقة وإلهام.

* * *

سُئل علاَّمة بوذي: "مَن هو البوذا؟" فأجاب: "الوعي اليقظ…" البوذا ليس الشخص التاريخي (سدهرتا گوتاما) بالضرورة، كما أنه ليس روحًا تحيا في عالم قصيٍّ، محلقة في "وعي كوني" متعال. البوذا حاضر هنا، وهو "أقرب إليه [الإنسان] من حبل الوريد"[2]، بالتعبير القرآني البديع. كلمة "بوذا" Buddha تعني حرفيًّا "مَن حقَّق الإشراق" (من كلمة بودهي buddhi السنسكريتية التي تفيد هذا المعنى)؛ أي أنه "المستنير"، مَن استيقظ وعيُه كاملاً على ينبوع الإلهام والطاقة. إنه، بالمصطلح المسيحي، "المسيح الحي فينا" الذي حرك بولس الرسول ليقول: "ما أنا أحيا بعدُ، بل المسيح يحيا فيَّ."[3] حين سألت سيدةٌ متزمتة المرشدَ الصوفي حضرة عناية خان: "هل تؤمن، مثلنا، بأن المسيح سيعود في آخر الزمان؟"، أجابها: "وهل ذهب يومًا حتى يعود؟!" هذا المسيح في الداخل سُمِّي في التصوف المسيحي بـ"المشير الحكيم الأوحد". وهذه الحقيقة، إذا لم تؤخذ على محمل حصري، حقيقة مطلقة تنسحب على كل إنسان، لأن "الوعي اليقظ"، بالقوة أو بالفعل، هو صاحب المشورة الأوحد في حياتنا. فلننظر الآن إلى الأمر بمزيد من التأني.

مورد الإلهام في كل مكان: كأنْ أشعر بأني ملهَم حين أكون في الطبيعة، حين أسير في البرية أو بين أشجار غابة مثلاً – صحيح؛ لكني لا أشعر بهذا الإلهام فعلاً إلا يوم يكون وعيي منفتحًا، حساسًا، مستقبلاً في حضرة الأشجار والأزهار البرية، حين يكون مصغيًا إلى لغة جوهرها الباطن، وليس إلى مادتها الظاهرة وحسب. فإذا اتفق لي، في يوم آخر، أن أكون مهمومًا أو قلقًا، ينعدم إلهام الأشجار والزهور في نظري. بعضهم لا يرى من الأشجار، مثلاً، غير الحطب! بالمثل، حين يتكلم مرشد أو مُحاضر ملهَم، قد تسري فينا عدوى إلهامه، شريطة أن نكون حساسين، مستقبلين لما يقول، وبالأخص لما لا يقول؛ وبعبارة أخرى، شريطة أن يكون وعينا منفتحًا.

ما هو الفارق بين حال الاستقبال وبين عدمه؟ يتطلب الاستقبال أن يكون الوعي (أو منطقة معينة منه على الأقل) منفتحًا على نحو ما؛ وإذ ذاك يبدو أنه يستمد الإلهام والحكمة في كل مكان ومن كل شيء. أما إذا لم يكن الوعي منفتحًا، فمهما تكلم المرشد أو المُحاضر وقال من الأشياء الملهمة، لن يكون لكلامه أيُّ وقْع علينا ولن يحرِّك فينا ساكنًا. إذا ظن الناس أن الكلام صادر عن شخص متفتح روحيًّا، قد يقولون: "ما أصحَّ ما يقول، أنا موافق عليه!"، ثم لا يلبثون أن "يحرِّفوا الكَلِمَ عن مواضعه" ويطوِّعوه بحيث يتلاءم وآراءَهم وأفكارَهم المسبقة. هذا ما حدث – وما انفك يحدث – في جميع الأديان والمذاهب الروحية والفلسفات العالية. كلنا لا يرى ولا يسمع ولا يفهم إلا ما تعوَّد رؤيته وسماعه وفهمه. إذا لم تبلغ حدة وعينا درجة معينة يستطيع عندها أن يستقبل الإلهام فلن نتلقى أي إلهام يأتينا من الخارج.

* * *

نحن جميعًا، من حين لآخر، مستقبلون لشيء ما – وهذا أمر جيد: نتلقى الإلهام من السير في مكان جميل، من التماس مع إنسان ناضج روحيًّا، من التفكر في حقيقة عميقة تَردُ في كتاب قيِّم، من الجلوس هنيهات في مكان حرام جميل غنيٍّ بالطاقة؛ لكن إلهامنا في هذه الحالات إلهام مؤقت، سريع الزوال. ثم إننا يجب ألا نكثر من الجلوس في "أماكن العبادة"، لأننا سرعان ما ندمنه نفسيًّا إدماننا على التبغ والمسكرات، بحيث يغدو في نظرنا مألوفًا، فيتلاشى "سحرُه" بعد مدة. أما إذا كنا منفتحين، لا على أشياء بعينها، لا على اللحظات التي نقضيها في معبد أو غابة، ولا على كلام شخص بعينه، – إذا كنا في حال انفتاح على السر، فهذا استيقاظ لوعينا لا يحول ولا يزول. قد تتفاوت درجة الانفتاح من شخص لآخر ومن سنٍّ لآخر، لكنْ مهما تكن درجة يقظة الوعي فإن الطاقة تسري. قد نصرف هذه الطاقة، لكنْ بما أنها تسري من تلقاء ذاتها فإنها تتجدد تجددًا مستمرًّا. فلنستمع إلى ج. كريشنامورتي:

لدى غالبيتنا القليل جدًّا من الطاقة؛ ونحن نصرفها في النزاع، في الصراع. نبدِّدها بطُرُق شتى – لا نبددها جنسيًّا وحسب، بل إن جزءًا كبيرًا منها يُهدَر في تناقضنا وفي تجزئة نفوسنا التي تجلب النزاع. والنزاع في الحاصل هو هدر كبير للطاقة. "الڤولتاج" يتناقص. وليست الطاقة الفيزيائية فقط ضرورية، بل الطاقة النفسية أيضًا، مترافقةً مع ذهن يكون عظيم الجلاء، منطقيًّا، سليمًا، غير ملتو، ومع قلب خال من أي شعور كان، من أي انفعال، لكنه مترع بفيض من المحبة والرحمة. وهذا كله يعطي حدةً وشغفًا عظيمين. وأنت في حاجة إلى ذلك، وإلا فلن تستطيع أن تقلع في رحلتك إلى ذاك الشيء الذي يُسمَّى التأمل. تستطيع أن تجلس متربعًا، وتتنفس، وتفعل أشياء عجيبة، لكنك لن تبلغه أبدًا.

نحن نصرف الكثير من الطاقة في أمور تافهة شتى: النزاع، بالطبع، هَدْر للطاقة؛ ولكن إلى جانب النزاع، هناك مَلاهٍ وتَسالٍ عديدة تنهك قوانا: التوافه التي نتفوه بها، الوقائع اليومية الطارئة التي تأسر أذهاننا، ثرثرتنا الذهنية التي لا تتوقف، وهلم جرًّا. إذا فحصنا عن حياتنا اليومية مخلصين، لا بدَّ لنا من رؤية هَدْر الطاقة هذا: الرغبات الصغيرة (كأنْ يطمح المرء إلى تبوأ منصب ما)، أو السعي في نيل التقدير والامتنان، أو ربما الرغبة في لفت نظر أحدهم/إحداهن، الاهتمام لنيل المزيد من الاعتراف بإنجازاتنا، إلخ – وما أكثر الأشياء السطحية التي تستقطب انتباهنا! هذا كله طاقة مهدورة. النزاع، إذن، يستهلك مقدارًا هائلاً من الطاقة؛ وكذلك الاحتكاكات الطفيفة حتى: سوء الفهم، الامتعاض، التعصب للرأي، القلق، المخاوف، الهموم، إلخ. هذا النوع من الطاقة (إذا جاز لنا أن نعتبره "طاقة" أصلاً!) لا يمت إلى الروح بصِلة، لأنه مولِّد لما نتواضع على تسميته بالشقاء؛ إذ إنه يحُول بيننا وبين تذوُّق شيء من السلام والطمأنينة والسعادة. أما الطاقة الروحية فهي، على العكس، تجلب مواهب الروح، حسَّ التناغم، العطف على الآخرين، النقاء، الجمال، الحكمة…

فكيف يمكن لطاقة من طبيعة روحية غير محدودة، لا تزال خبيئة، كامنة، أن تنبجس وتسري سريانًا حرًّا؟ ربما كان علينا أن نبدأ بالتملص من قبضة الجسم وإحساساته. نحن نحسب أن الذهن المشدود إلى المخ هو نحن، فنتماهى معه identify with it. ألا يجدر بنا أن نتساءل إنْ كان الأمر كذلك فعلاً؟ إن هذا الذهن الأدنى (الفكر، وهو غير العقل) هو الذي يحثنا على الاستزادة، على الصراع، فيزرع فينا الخوف. لماذا؟ لأنه يقوم على الذاكرات، على الخواطر الماضية، على الأفكار المسبقة، على الرضوض النفسية المؤلمة التي نخاف أن تتكرر. أما حين تنفد هذه الذاكرات العقيمة والأحكام المسبقة فتتم ولادة جديدة. كل طفل وليد فهو بريء وفاتن لأن الذهن المشدود إلى المخ ليس عبئًا عليه بعد. هذا الذهن ليس قطعًا ينبوع الطاقة الروحية الحق، بل قد يصبح، في أحسن الأحوال، مركَبة vehicle متقنة من مركَباتها؛ غير أنه حاليًّا يستقطب انتباهنا حتى التماهي معه. فهل نستطيع عن التماهي معه فكاكًا؟

تحذِّرنا السيدة بلاڤاتسكيا من أن إشباع النزوات الحسية، وحتى الذهنية، يقود، لا محالة، إلى فقدان القدرة على التمييز. النزوة الحسية غالبًا ما يعزِّزها الذهنُ الأدنى بأن يهيئ سُبُل إشباعها. ففي لحظة الالتذاذ الحسي يتدخل الذهن قائلاً: "أريد المزيد، لا أريد لغيري أن ينال نصيبًا أكبر من نصيبي!" أو حين نطلب الشكر والامتنان على عطاء، نحس بجرح إذا لم يقدِّر الآخرون ما نفعل. فهل نستطيع، على سبيل التمرين، أن نعيش مدة ما من غير أن يشكر بعضُنا بعضًا ونرى ما يحدث؟ ثم لماذا لا نعتبر العطاء فعلاً طبيعيًّا تلقائيًّا؟ لماذا نقتات بما يقول الآخرون عنا؟ لماذا نحرص دومًا على اعترافهم بجدارتنا؟

حسب المرء أن يولي هذه اللحظات من التفكر شيئًا من الانتباه حتى يتبين له في سهولة فراغُ إشباع الرغبة الأرعن من أي محتوى ذي بال. لكنه، عندما يتراخى انتباهُه، سرعان ما "ترجع حليمة لعادتها القديمة"! حس التمييز (بالسنسكريتية: ڤيڤيكا viveka) هو الفحص الدائم عن محتوى أذهاننا وفرز الزائف فيه من الحقيقي نسبيًّا؛ إنه الوضوح الداخلي فيما يتعلق برغباتنا وانفعالاتنا وملذاتنا الحسية ومتعنا الذهنية، وبالتالي، فهم مؤدى العلاقات والعبارات والخبرات من كل نوع.

* * *

في مستهل أوپنشاد إيشا آيةٌ تقول إن "هذا" – أي عالم التجلِّي، الطبيعة، كل ما يتحرك ولا يتحرك، الصخور، الأرض، الجوامد، ما هو غير حي في الظاهر، كما وكل ما يبدو حيًّا ومتحركًا، أنتم، نحن، البعوضة والفيل، كل شيء، – هذا الكون كله مقام قدرة إلهية، طاقة روحية، حاضرة في كل مكان، من غير حدود. وتضيف الأوپنشاد: "اختبرْ بتعفف" – أي لا تندفع للاستيلاء على الأشياء، ماديًّا أو ذهنيًّا؛ فأنت لا تملكها، بل هي مقام "ذاك" الآخر، الحقيقة المطلقة. فلا نكوننَّ جشعين أو نفعيين، كثيرًا أو قليلاً، وبذا يمكن لنا أن نتماسَّ وهذه الطاقة اللانهائية. ومع أن أغلب الناس في عالمنا المعاصر قد لا يستسيغون هذه النصيحة لأنها، على حدِّ زعمهم، تقيد "حريتهم"، لا مناص من وجود خصلة التعفف هذه في السلوك. لقد كتبت السيدة بلاڤاتسكيا:

التأمل، العفة، التزام الواجبات الأخلاقية، الخواطر الحميدة، الأعمال الصالحة، الكلام الطيب، كما وحسن النية حيال الجميع ونكران الذات، هي الوسائل الأنجع لتحصيل العلم والاستعداد لقبول الحكمة الأسمى.

لا يجوز للمرء تجاهُل الحياة الأخلاقية إذا كان يتوق إلى إيجاد هذه الطاقة اللانهائية، منبع كل إلهام. فالحياة اللاأخلاقية هي التعبير عن الذهن المشدود إلى المخ، هي الوعي السطحي للأنيَّة الظاهرة ego، بذاكراتها ومعرفتها ورغباتها وملاهيها، بصلفها ومخاوفها وأمانيها. لذا فعلى حسِّ الأنية (بالسنسكريتية: أهمكارا ahamkāra) أن يتراجع ويُخلي الساحة لشَساعة الحياة. وبحسب كريشنامورتي، لا تأمُّل ثمة من دون "استقامة" rectitude. فلنستعمل الكلمة التي نستحبُّها: التعفف، الاستقامة، الحياة الأخلاقية، الانضباط، ضبط النفس، إلخ – فالكلمة الدالة غير مهمة، بل مدلولها.

لماذا تصر كل مدرسة روحية جديرة بهذا الاسم على التزام الأخلاق؟ – ولا نقصد هنا الأخلاق الاتباعية أو الأعراف السائدة، لأن أخلاقيات شعب بعينه، في عصر أو مجتمع بعينه، قد لا تكون "أخلاقية" فعلاً، بل مجرد "تسوية" تلائم مصلحة وقتية. ما يعنينا هنا هو الأخلاق الحقيقية. فما هو الأخلاقي حقًّا؟ الأخلاقي حقًّا هو ما يمت بصلة إلى وحدة الحياة، إلى اختبار عدم الفصل بين أشكال الحياة جميعًا. تعليم الـراجا يوگا rāja-yoga ("يوگا الملوك") يعتبر الأخلاق أساس التأمل السليم، ولهذا السبب يوصي باتباع ياما yama ونياما niyama (النواهي والأوامر الأخلاقية) قبل الدنو من مجال التأمل. كذلك فإن الدرب المثمَّن إلى الخلاص من الألم في البوذية يقتضي اتباع "العيش السوي"، أي اتباع وسائل الارتزاق الصحيحة التي لا تضر الآخرين، وكذلك "التفكير السوي" و"الكلام السوي" إلخ. وما عظة المعلم الناصري الكبرى على الجبل[4]، التي نفذت إلى قلب المهاتما گاندهي مباشرة[5]، غير زبدة الأخلاق الحقيقية فيما يتعدى الثقافات والأزمنة.

وإذن، فمن غير مراقبة النفس والتزام السلوك الأخلاقي المستقيم، يغدو بلوغُ الطبيعة الروحية العميقة ضربًا من المحال. إذا ظننَّا، على غرار كثيرين، أن التأمل منفصل عن الحياة اليومية فإن مآلنا الإخفاق لا محالة. فهؤلاء يتعاطون "التأمل" عشرين دقيقة صباحًا، ومثلها مساءً، يكررون ألفاظًا بعينها لتهدئة الذهن فينة، ثم يعودون إلى حالهم المزرية بقية الوقت. لكن التأمل الحق هو التماس مع ينبوع الطاقة العميق الكامن في طبيعتنا الروحية. فهل يتاح لنا مثل هذا التماس إذا بقينا أسرى شخصيتنا الظاهرة؟

لا بدَّ لنا من أن نتذكر أن الحياة اللاأخلاقية، السطحية، للذهن المشدود إلى المخ هي علة اضطرابات نفسية لا حصر لها. فلا ننشغلنَّ بهذه العلة المزمنة – علة "الأنية" – لأن من شأن "الأنا" أن تتسلَّل من كل ثغرة في التماسك الداخلي وأن تكدِّر صَفْوَ كل شيء. حين تصادف مرشدًا حقيقيًّا، على سبيل المثال، يعتمل فيها نزاع قتَّال، ترمز إليه شخصيتا كلٍّ من يهوذا الإسخريوطي وديڤدتَّا (التلميذ الذي تآمر على البوذا). بذا فإن الأنية تحوِّل كل شيء إلى مشكلة وتختلق خلافًا حيث لا خلاف، بل مجرد اختلاف. إذا ظللنا على إصرارنا على إهمال هذا الأمر، وشئنا في الوقت نفسه تحقيق السلام والصمت عبر التأمل، فإننا في الواقع نطلب المحال. الأنية والصمت الداخلي كفرسَي رهان، لا يلتقيان. ومنه فمن دون الأخلاق، ثمرة الصمت الداخلي، يستحيل التأمل، أي سلوك السبيل إلى هذه الطاقة العميقة المتجددة.

نسوق مثالاً على ذلك مقطعًا من حوارية مأخوذة من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ للمخرج پيتر بروك (1979)، عن سيرة ذاتية بالعنوان ذاته للمعلِّم الروحي القفقاسي جورج إيڤانوڤتش گورجييف، جاء فيها:

الشيخ الفقير الهندي: گوگو… گوگو… لقد كدحتَ وتألمتَ سنوات طوال، لكنك لم تعرف قط كيف تشتغل على جعل رغبة فكرك تصير رغبة قلبك.
الأمير لوبوڤدسكي:
مَن أنت؟! كيف تعرفني إلى هذا الحد؟!
الشيخ الفقير الهندي: أية أهمية لِمَن أكون أو ما أكون! ألعل الفضول هو علة إخفاق حياتك الكبرى؟ هل هو من القوة بحيث لا تزال تريد أن أشرح لك مَن أنا وكيف أعرفك؟
الأمير لوبوڤدسكي:
… أجل، يا أبتِ، أنت على حق. لقد شهدتُ عجائب كثيرة وسعيتُ في تعليلها، لكن هذا لم يقدني إلى فهم حقيقي. أجل، أنا خاو… لقد فات الأوان… ليست بي رغبة فعلية في الحصول على جواب عن هذا السؤال… أرجوك، صادقًا، أن تغفر لي.
الشيخ الفقير الهندي: لعل الأوان لم يفت بعد. إذا شعرت، بكيانك كله، أنك خاو حقًّا، عندئذ أنصح لك أن تحاول كرَّة أخرى. وسوف أساعدك، على شرط واحد: أن تموت واعيًا عن الحياة التي عشتَها حتى الآن، وأن تمضي إلى المكان الذي سأدلك عليه.

* * *

في عالمنا المعاصر النفعي، آلت فكرة التعفف أو ضبط النفس إلى الإهمال. لكننا إذا فعلنا دومًا على غرار ما يفعل العالم من حولنا، فنحن ضالون روحيًّا لا محالة. علينا، بالطبع، أن نكتشف المقصود من "ضبط النفس". ضبط النفس ليس قطعًا قهرَها أو قمعَها. إن كل جهد ينحو نحو تجاوُز الأنية الظاهرة إلى الإنسان المتحقق يستثير حتمًا مقاومة، لأن مجرد وجود قرار واع بمعرفة النفس يعاكس "الثقالة" la pesanteur (في اصطلاح سيمون ڤايل) الأصلية الملازمة لكل حركة طبيعية. إن الذاكرات تشتمل أيضًا، في بُعدها اللاواعي الجمعي (ك.گ. يونگ)، على ذاكرة الطبيعة الموروثة فينا، بكل ما فيها من غرائز عمياء ("عمياء" بمعنى أنها آليات لا تنقاد لسيطرة الأنية) مافتئت الطبيعة تلبيها منذ تشكُّل أول خلية حية حتى اليوم. لذا فإن كل جهد مبذول لقهرها والتحرر من سطوتها يجابَه بمقاومة مساوية له ومعاكسة في الاتجاه.

هي ذي حوارية ثانية من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ يخاطب فيها الشيخُ متقدِّمُ الدير گورجييف الذي وصل إلى الدير بعد مكابدة عناء طويل:

الشيخ المتقدم: لقد وجدتَ مكانك، يا بني. لقد جئتنا كالحَمَل، لكن لا تنسَ أن فيك ذئبًا أيضًا. أصغ: هل ستكون قادرًا على السماح لهاتين القوتين المتضادتين أن تتعايشا فيك؟ أصغ إليَّ جيدًا، فهذا لن يحصل من تلقاء ذاته. ولا يكفي المرء أن يتفكر فيه، أن يحلم به، أن ينتظر. فالذئب، في أية لحظة، قد ينقض على الحمل ويفترسه. […]

من هنا فإن السيطرة على النفس من قبيل الوهم لأن حيل النفس اللاواعية أدهى بكثير من ذكائنا الذهني. لذا لا يجدي على المدى الطويل قهرُ النفس على فعل شيء، – حيث كلما كان القهر أقوى كان ضغط المقاومة أشد والإخفاق أكثر إحباطًا، – ويجدي "استئناس" الأنية بقبول وجودها وعقد صداقة حميمة معها.

من هنا لا توصي الحكمة أبدًا بإرغام النفس على القيام بأي أمر أو بتبكيتها على كسل أو تقصير. فليبدأ المرء بالحري، كما ينصح گورجييف، باختيار هدف صغير جدًّا يعاكس عادةً من العادات المستحكمة فيه، وليوجِّه نحوه طاقته، في رفق وانتباه، وليكرِّس في سبيله كلَّ ما بوسعه، حتى إذا أفلح في بلوغه تذوَّق شيئًا من فعل الإرادة الحقيقية – صفة الإنسان – وخرج عن تأثير الآليات الطبيعية وتكرارية استجاباتها الغريزية. وبالتمرس على هذه العملية، تتحول الطاقة المختزَنة من هذا الجهد إلى "طبيعة ثانية" تحيِّد ضغط الطبيعة الأولى الموروثة من غير أن تستثير فيها مقاومة تُذكَر. الفرس البرية الأصيلة صعبة المراس في البداية، لكنها حين تُستأنَس تصير رفيقة مخلصة لصاحبها، تستجيب لأقل أوامره وتتفانى في خدمته. النفس هي هذه الفرس.

* * *

الانتباه! – كلمة تُجمِع عليها تعاليمُ الحكمة كلها، قديمها وحديثها. ينمو الانتباه من خلال مراقبة هادئة لكل ما يجري، داخليًّا وخارجيًّا. وليس المقصود هنا المراقبة المحمومة للنفس، بحيث تصير وحدها محلَّ الانتباه، لأن هذا يؤدي إلى حالة من الانكفاء المتشنج. يجب علينا ألا نفقد قدرتنا على الاسترخاء والارتياح والفرح والتناغم. ومنه فإن الأسلوب الأسلم هو الاكتفاء بالرصد العام، للداخل والخارج في آنٍ معًا. فالطبيعة البشرية ليست قابلة للدرس بالنظر إلى النفس مواجهةً وحسب، وإنما بالنظر إلى الطبيعة البشرية بعامة أيضًا. يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من رصد الآخرين في العلاقة، شريطة أن يرصد رصدًا غير شخصي، رصدًا موضوعيًّا، لا بأن يقول، مثلاً: "انظروا إلى فلان، إنه غيور!"، بل برؤية آلية الغيرة كيف تعمل فيه؛ فإذا كانت تعمل على هذا النحو في فلان من الناس فقد تعمل فيَّ على النحو نفسه أيضًا. قد لا تكون الغيرة ظاهرة فيَّ مؤقتًا، لكنها في موقف آخر، أو في تجسد آخر، مادام حسُّ الأنية طاغيًا، ستظهر حتمًا. إن الأهواء والطباع الشخصية كلها ليست إلا فروعًا من شجرة واحدة هي حس الأنية. فقد لا أكون اليوم جشعًا لأنه اتفق لي أن أكون في وضع ميسور، كل ما أرغب فيه متاح لي؛ لكني حالما تنقلب بي الحالُ حتى يُبرز جشعي ناجذيه! لذلك، حين نرصد الآخرين، لا يجوز أن نشير إليهم بالإصبع، بل أن نتعلم منهم ما يمكن أن يحدث لنا نحن أيضًا، أن نتعلم كيفيةَ عمل الذهن وسهولةَ خداع المرء نفسَه. وفي الوقت نفسه، هناك الرصد الهادئ لنور الشمس، للظلال، للعشب، لكل ما هو خارجي وداخلي. فالرصد يشحذ حدَّة الذهن، يبقيه متيقظًا.

* * *

الإصغاء كذلك هام جدًّا، لأنه الوسيلة إلى انفتاح الذهن وإفراغه من محتواه. الأصح هنا من قولنا: "أصغي إلى الموسيقى" – والإصغاء إلى الموسيقى سهل نسبيًّا – هو تعلُّم محض الإصغاء: فن الإصغاء إلى كل شيء – إلى الحياة السارية في الشجرة، إلى كلام الآخرين وإلى المسكوت عنه فيه خصوصًا. فالانتباه يتضمن الإصغاء التام. في مدرسة فيثاغورث في كروتونا، كان المريد المستجد يتعلم، طوال مرحلة تحضيرية تصل مدتها إلى خمس سنوات، لَجْمَ لسانه تمامًا، فيصبح من "المستمعين" akousmatikoi، يحرَّم عليه النقاشُ ورؤيةُ المعلم ومخاطبته مواجهةً، فلا يجاز له الاستماعُ إليه إلا من وراء ستارة، ويؤمَر بالتفكر فيما يصغي إليه وما يتلقاه منه ومن المريدين الناضجين من تعليم[6]. وكان مثل هذا التقليد متبَعًا في المذهب اللاثنوي (ڤيدنتا Vedanta) الهندي أيضًا. ذلك أن الإصغاء التام يُفرغ الذهن من محتواه. والإصغاء في انتباه هو الإصغاء إلى أعماق النفس؛ وهذه يجب الإصغاء إليها لا بالعقل وحسب، بل بالقلب والعقل جميعًا: فهذا التزاوج السرَّاني بينهما في الإصغاء التام هو الذي يمكِّننا من حدس المصدر الذي يأتي منه الكلام ومن معرفة صحة التحقق الروحي للمتكلِّم.

نسوق، بهذا الصدد، حوارية ثالثة من لقاءات مع رجال أفذاذ بين گورجييف والپروفسور سكريدلوف، من جهة، وإخوة من أخوية "سارمُنگ" العالمية، من جهة ثانية:

الأب جيوڤاني: الإيمان لا يوهَب للإنسان. فهو ليس ثمرة الفكر. الإيمان يولد من المعرفة المباشرة. على سبيل المثال، إذا توسل إليَّ أخي نفسه أن أعطيه عُشر فهمي لما استطعت. ذلك أنه يعدم المعرفة والخبرة اللتين اكتسبتُهما إبان حياتي. فكأنك تريد أن تُشبع أحدهم خبزًا بالنظر وحسب!
أحد الإخوة:
ثمة قانون: "خاصية ما يُفهم تتوقف على خاصية المتكلم".
الأب جيوڤاني: في أخويتنا أخَوان: أحدهما يدعى الأخ عقل، ويدعى الآخر الأخ سيز. وهما، مرة أو مرتين كلَّ سنة، يجيئان لزيارتنا، ومجيئهما دومًا حدث عظيم.
أخ آخر:
عندما يتكلم الأخ سيز تخال إنك تسمع شدو طيور الجنة. أما كلام الأخ عقل فهو يكاد أن يكون عكس ذلك: إنه يتلعثم، ولا تتميز كلماتِه. لكنْ بمقدار قوة الانطباع الذي يخلِّفه الأخ سيز فإنه سرعان ما يتلاشى ولا يبقى منه شيء. أما الأخ عقل فهو يكاد لا يترك انطباعًا، لكن ما يقوله يخترق القلب وينحفر فيه.
أخ ثالث:
وهكذا استنتجنا أن مواعظ الأخ سيز مصدرها فكره ولا تؤثر سوى في فكرنا، في حين أن مواعظ الأخ عقل مصدرها كيانه وتؤثر في كياننا.
الأب جيوڤاني: الفكر والمعرفة شيئان متباينان جذريًّا. لذا على المرء أن يطلب المعرفة. فهذه وحدها تقود إلى الله ربِّنا.

في أوپنشاد بريهادارَنيَكا، في أثناء سرد قصة، تُطرح أسئلةٌ من نوع: "كيف يمكن اكتشاف الحق المستتر، الذات الأبطن من كلِّ شيء، الآتمن؟" ويجيب الحكيم المرشد: "يوعى الآتمن Ātman من خلال النظر والسماع والتفكر والتأمل." باتِّباع هذا التعليم في الحياة، في تؤدة ورفق، يأتي الصمت من الداخل. وإذ ذاك قد يتفق للمرء أن يتحدث مع صديق، لكنه يحيا من الداخل في صمت مستتب. ومع المراس، يصير استتباب فترات الصمت أيسر وأكثر طبيعية وتلقائية، ويعكس صمتُ اللسان صمتَ الذهن الأدنى المشدود إلى المخ. إنه الصمت عن الذات المنفصلة، الصمت المحض الذي يُدعى أحيانًا في الأدبيات الروحية بـ"الصمت الأكبر".

* * *

التفكر في مسائل الحياة العميقة جزء من العمل الذي يفضي إلى التأمل. فالمسائل العميقة ذات خاصية كلِّية، والنظر فيها وتدبُّر معانيها يضفي على الذهن صفة مختلفة. لكن معظمنا، حين يهتم لمشكلة جماعية، أو حتى لقضية عالمية، غالبًا ما يفعل ذلك من منظار شخصي وحسب. هناك فارق كبير بين سؤالي: "كيف يمكن لي أن أخلص من الشقاء والأسى؟" وبين سؤالي: "ما السبيل إلى الخلاص من الألم؟" إذا كان ثمة سبيل إلى الخلاص فهو سبيل لجميع الناس؛ ولهذا يجب على مقاربتنا للمسألة أن تكون تفكرًا حقيقيًّا فيها، لا مجرد تفتيش عن مخرج "شخصي" ضيق.

حين أتت امرأة شابة إلى البوذا ضارعةً أن يعيد الحياة إلى ابنها الميت، قال لها: "جيئيني بحفنة من بذور الخردل من منزل لم يمت فيه أحد." وبعد بحث مُضْن، عادت إليه خالية الوفاض. لا، لم يكن البوذا عديم الإحساس، بل كان يشير عليها بالنظر إلى المشكلة من منظار كلِّي، لا من منظارها هي، لا بوصفها "مشكلتها" هي فقط. مشكلة الموت هي مشكلة الافتراق عمَّن نتعلق بهم، أو بالأدق، عن صورتنا عنهم، وهي مشكلة عالمية. فإذا خبرنا الحياة في يقظة أعمق وأشمل، في حساسية ووضوح داخلي أكبر، تمتعنا بغنى داخلي أوفر، بطاقة وبإلهام لا ينضبان، لأن هذين من خواص الذهن المتجدد دائمًا. التجدد الداخلي شيء خارق! وحين يتجدد الذهن يمتلئ بالحيوية ويتصف تلقائيًّا بالفضيلة والطيبة والرحمة.

فلا نكتفينَّ من الأفكار بقشورها الخارجية، لأن الفكرة العالية تحتمل التعمق حتى تخوم الصمت، حتى الاستغراق التأملي. كثير من الناس يطالبون بـ"تعلُّم" التأمل؛ ولعل بينهم أناسًا متعطشين فعلاً إلى الحياة الروحية. ولكن ما المقصود بـ"التأمل" فعلاً؟ وهل يمكن "تعليمه" أو "تعلُّمه"؟

هذا ما سنحاول أن نتلمسه في جزء ثان من هذا المقال[7].


[1] Tutor 1: What does it feel like when you’re dancing?
Billy:
Don’t know. Sorta feels good. Sorta stiff and that, but once I get going… then I like, forget everything. And… sorta disappear. Sorta disappear. Like I feel a change in my whole body. And I’ve got this fire in my body. I’m just there. Flyin’ like a bird. Like electricity… Yeah, like electricity.
From Billy Elliot (2000), by Stephen Daldry

[2] القرآن الكريم، سورة ق 16.

[3] رسالة القديس بولس إلى الغلاطيين 2: 20.

[4] راجعْها في إنجيل متى 5-7.

[5] راجع: قصة تجاربي مع الحقيقة (سيرة المهاتما غاندي بقلمه)، بترجمة منير البعلبكي، بيروت، طب 7: 2007، ص 89.

[6] راجع: أكرم أنطاكي، "أبيات فيثاغوراس الذهبية"، معابر، الإصدار الثاني: http://www.maaber.org/second_issue/spiritual_traditions_1.htm.

[7] راجع الجزء الثاني، سماوات: http://samawat.org/articles/source_of_spiritual_energy_2_dna.