علم الحروف – رونيه گينون

علم الحروف*

guenon_1

رونيه گينون**

في التوطئة لدراسة في "تبرير الله في القبالة"[1]، بعدما قال الكاتب إن "القبالة تنطلق من فرضية أن اللسان العبري هو اللغة الكاملة التي علَّمها الله للإنسان الأول"، تراه استنسَب إبداء تحفُّظه على "الادعاء الموهوم القائل باحتفاظ العبرية بعناصر اللغة الطبيعية صافيةً، بينما لا يمتلك القائمون عليها من هذه اللغة غير نتف وتحريفات". غير أن قوله هذا لا يحول دونه والتسليم بأنه "يبقى من المرجح أن تكون الألسنة القديمة قد تفرعت عن لغة قدسية واحدة ألَّفها ملهَمون"، وبأنه "لا تزال ثمة جزمًا كلمات تعبِّر عن ماهية الأشياء ونِسَبها العددية"، وبأن هذا "يصح على فنون العِرافة أيضًا". فاستحسنَّا أن نزيد هذه المسألة تدقيقًا، وإن كنا نود لفت النظر، بادئ ذي بدء، إلى أن كاتبنا قد نظر إلى الأمر من منظار "فلسفي" بالأخص، بينما نعتزم نحن، جريًا على عادتنا دومًا في الواقع، الوقوف عليه من الصعيد المُسارَري initiatique والنقلي traditionnel.

النقطة الأولى التي يجدر لفت الانتباه إليها هي التالية: إن التأكيد على أن اللسان العبري هو بعينه لغة الوحي البدئي، وإنْ كان يبدو تأكيدًا ظاهريًّا exotérique ليس في اللب من مذهب القبالة، إلا أنه في الواقع يستر ببساطة أمرًا أعمق بكثير. والدليل على ما نذهب إليه هو أننا نقع على هذا التأكيد بعينه بخصوص ألسنة أخرى، وأن هذا التأكيد على "القِدَم" primordialité، إن صح التعبير، لا يجوز تسويغه، مأخوذًا على حرفيَّته، في الحالات كلها، بما أنه ينطوي على تناقض بيِّن. هذا التأكيد يجري بالأخص على اللسان العربي؛ لا بل إنه لَرأي واسع الشيوع نوعًا ما في البلدان الناطقة به أنه كان اللغة الأصلية للإنسانية[2]. لكن الأمر اللافت للنظر – وهو ما جعلنا نعتقد بأن الحالة عينها تنطبق على اللسان العبري – هو أن هذا الرأي العامي واهي الأساس وفاقد الحجة، من حيث إنه على تناقض صريح مع التعليم النقلي الحقيقي للإسلام القائل بأن "لسان آدم" كان اللغة السريانية، التي لا تمت إلى البلد المسمى "سوريا" حاليًّا، ولا إلى أية ألسنة متفاوتة في القِدَم بقيت محفوظةً في ذاكرة بني البشر حتى يوم الناس هذا. فـ"اللغة السريانية" هذه، حَسب تأويل هذا اللفظ، هي لغة "الشمس الإشراقية" تحديدًا؛ إذ إن لفظ سوريا Sūriā هو في الواقع اسم الشمس باللغة السنسكريتية، وهذا دليل، على ما يبدو، على أن جذر هذا الاسم سور sur (وهو واحد من الجذور المشيرة إلى النور) ينتمي بعينه إلى هذه اللغة الأصلية. إنها، إذن، "سوريا" القديمة التي قال عنها هوميروس إنها جزيرة واقعة "فوق أورتيجيا"، مما يُطابق بينها وبين تولا Tula الشمال الأقصى Hyperborée، و"فيها منقلَبات الشمس"[3]. وعاصمة هذا البلد، حسب [المؤرخ اليهودي][4] يوسيفُس، كانت تُسمَّى هليوپوليس Héliopolis، "مدينة الشمس"[5]، وهو اسم أطلِقَ أيضًا فيما بعد على المدينة المسماة أوْن On في مصر الفرعونية، مثلما كان اسم طيبة Thèbes أولاً من أسماء عاصمة أورتيجيا. وإنه لَمِن المفيد دراسة تناقُل هذه الأسماء على التتالي، وغيرها كثير، فيما يخص نشأة المراكز الروحية الثانوية لمختلف الفترات التاريخية، وهي نشأة وثيقة الصلة بنشأة الألسنة التي قُدِّر لها أن تُستعمَل كـ"مركَبات" للأشكال النقلية الموافقة لها. وهذه الألسنة هي وحدها اللغات التي يجوز أن تُدعى بـ"اللغات الحَرام" langues sacrées ["لغات الخواص"]؛ إذ تقوم صحة مناهج القبالة بالدقة على التمييز الأساسي بين اللغات الحَرام وبين "ألسنة العوام" أو الألسنة الدنيوية، شأن هذه المناهج كشأن عمليات مشابهة نقع عليها في منقولات أخرى.

فنقول ما يلي: كما يتكون المركز الروحي الثانوي على صورة المركز الأعلى والقديم، كما شرحنا ذلك في دراستنا عن ملك العالم[6]، يجوز لنا أن نرى إلى اللغة الحَرام، أو "القدسية" hiératique إذا شئتم، على أنها صورة أو صدى للغة الأصلية، التي هي اللغة الحَرام المثلى والتي هي "الكلمة المفقودة" أيضًا، أو بالأدق، المحتجبة عن إنسان "عصر الظلام"[7]، مثلما أضحى المركز الأعلى محتجبًا عن بصره وبعيدًا عن متناوله. إلا أننا لسنا بتاتًا هنا بإزاء "نتف وتحريفات" [كما جاء في الدراسة أعلاه]، بل على العكس، بإزاء تكييفات نظامية حتمتْها ظروفُ الزمان والمكان، أي بالمختصر، حَسب تعليم سيدي محيي الدين بن عربي في مستهل الباب الثاني من الفتوحات المكية، اضطرار كل نبي أو ناقل وحي إلى استعمال لسان يفهمه سامعوه، لسان أخص تلاؤمًا بالتالي مع عقلية شعب بعينه في حقبة بعينها. وعلة ذلك هي عينها علة تنوع الأشكال النقلية؛ وهذه العلة هي التي تستتبع، كمعلول مباشر، تنوعًا في اللغات التي يُقيَّض لها أن تُستعمَل كوسائل للتعبير عن كلٍّ من هذه الأشكال. وبالتالي، فإن اللغات الحَرام كافة هي التي ينبغي النظر إليها على أنها حقًّا صنيعة "ملهَمين"، وإلا لما جاز لها أن تضطلع بالدور الذي أنيط بها أساسًا. أما فيما يخص اللغة البدئية، فأصلُها "غير بشري" لا محالة، كما هو أصل المنقول القديم نفسه؛ وتتسم كل لغة حَرام بهذه الخاصية، من حيث إنها، في مبانيها وفي معانيها، صدى لهذه اللغة البدئية. إلى ذلك، يمكن لهذا الأمر أن يُترجَم بطُرُق مختلفة، ليست لها الأهمية نفسها في كل حالة على حدة، لأن مسألة التكييف تدخل هنا مرة أخرى بالحسبان: تلك هي، على سبيل المثال، حالُ الشكل الرمزي للعلامات المستعمَلة للكتابة[8]، وكذلك حال التوافق بين الأعداد والحروف، وبالتالي بين الأعداد والكلمات المؤلَّفة من هذه الحروف، وبالأخص في اللسانين العبري والعربي.

من العسير قطعًا على أهل الغرب أن يستبينوا ماهية اللغات الحَرام في حقيقتها لأنهم، في الظروف الحالية على الأقل، ليسوا على صلة مباشرة مع أي واحدة منها. وبوسعنا أن نذكِّر بهذا الصدد بما سبق وألمعنا إليه في مناسبات أخرى بشأن صعوبة استيعاب "العلوم النقلية" sciences traditionnelles، وهي أكبر بكثير من صعوبة استيعاب التعاليم من رتبة ميتافيزيقية صرف، وذلك بسبب طابع هذه العلوم التخصصي الذي يربطها ربطًا لا تُفصَمُ عُراه بهذا الشكل النقلي بعينه أو ذاك، بما لا يسمح بنقلها كما هي عليه من حضارة إلى أخرى، تحت طائلة جعلها مبهمة كل الإبهام، أو التوصل بها إلى نتائج موهومة، لا بل خاطئة تمامًا حتى. كذا فَلِفَهم مرمى رمزية الحروف والأرقام كلها فهمًا فعليًّا، يجب عيش هذه الرمزية، إذا جاز القول، بكل تطبيقاتها في ظروف الحياة المألوفة حتى، كما هو متاح في بعض بلدان الشرق؛ غير أنه من رابع المستحيلات ادعاء إقحام اعتبارات وتطبيقات من هذا القبيل على اللغات الأوروبية، التي لا تناسب هذه الأغراض بتاتًا والتي لا تقابل حروفَها قيمٌ عددية أصلاً[9]. فالمحاولات التي شاء بعضهم أن يتنطع لها على هذا الصعيد من الأفكار، خارج نطاق أي معطيات نقلية، هي بالتالي ضالة زائغة من نقطة انطلاقها؛ وحتى لو اتفق لبعضهم أحيانًا أن يتوصل إلى بضع نتائج صحيحة، في مجال حساب النيم[10] على سبيل المثال، فإن هذا لا يبرهن على صحة العمليات المتَّبعة ولا على شرعيتها، وإنما ينمُّ فقط عن وجود نوع من الملَكة "الحدسية" (لا جامع بينها طبعًا وبين الكشف العقلي intuition intellectuelle الحق) عند واضعي هذه العمليات موضع التطبيق، كما يحصل في الواقع مرارًا في "فنون العرافة"[11].

في شرح سيدي محيي الدين على المبدأ الميتافيزيقي لعلم الحروف، ينظر الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية إلى الكون مرموزًا إليه بكتاب مسطور: هذا هو نفسه رمز كتاب العالم Liber Mundi المعروف عند أصحاب وردة الصليب، وكذلك رمز سِفْر الحياة Liber vitæ الوارد ذكره في رؤيا يوحنا[12]. وإن القلم الإلهي هو الذي سطَّر أصلاً حروف هذا الكتاب جمعًا لا على التفصيل؛ وهذه "الحروف العاليات" هي الأعيان الثابتة أو المُثُل الإلهية[13]. وإذ إن كل حرف هو في الآن نفسه عدد، يُلحظ التوافقُ بين هذا التعليم وبين المذهب الفيثاغورثي. وهذه الحروف العاليات نفسها، التي هي مجموع المخلوقات، إذ تكثَّفتْ أصلاً في علم الله الكلي، تنزَّلت من بعدُ، بالنَّفَس الإلهي، إلى السطور السفلى، فكوَّنت الكون المتجلِّي وصوَّرتْه. وهنا لا مناص لنا من إجراء مقارنة مع الدور الذي تلعبه الحروف، بالمثل، في عقيدة سِفِر يصيره ספר יצירה في نشأة الكون؛ فلعلم الحروف أهمية تكاد أن تكون هي نفسها في كلا القبالة العبرية والتصوف الإسلامي[14].

انطلاقًا من هذا المبدأ، يُفهم من دون مشقة التوافقُ القائم بين الحروف وبين مختلف أجزاء الكون المتجلِّي، وبالأخص أجزاء عالمنا. إذ إن وجود توافقات وقرانات بين الكواكب والبروج من هذا القبيل معروف، فلا نتوقف عنده، مكتفين بالإشارة إلى أنه يُحكِم شدَّ الوثاق بين علم الحروف والنجامة astrologie بوصفها من علوم "الكونيات"[15]. إلى ذلك، وبموجب المقايسة التكوينية بين "الكون الصغير" microcosme و"الكون الكبير" macrocosme، يوافق كلٌّ من هذه الحروف عضوًا من أعضاء بدن الإنسان؛ وبهذا الخصوص، نشير تلميحًا إلى وجود تطبيق علاجي لعلم الحروف، حيث يُستعمَل كلُّ حرف استعمالاً بعينه لشفاء الأدواء التي تصيب العضو الذي يوافقه خصوصًا.

يستتبع ما قلناه لتوِّنا أنه يجب النظر في علم الحروف تبعًا لرُتَب مختلفة، يجوز إرجاعها إجمالاً إلى "العوالم الثلاثة"[16]: فعلم الحروف، محمولاً على معناه الأعلى، هو معرفة الأشياء كلها في عين مبدئها، بصفتها "أعيانًا ثابتة" تتعالى عن التجلِّي برمته؛ وعلى معناه "الأوسط"، إذا صح التعبير، علم الحروف هو علم التكوين، أي معرفة صنع العالم المتجلِّي أو تشكيله؛ وأخيرًا، على معناه الأدنى، هو معرفة خواص الأسماء والأعداد، بصفتها تعبِّر عن طبيعة كل موجود، وهي المعرفة التي تتيح بواسطتها، في جملة ما تتيح، على سبيل التطبيق وبفضل التوافق بين الأسماء والأعداد وبين الموجودات، ممارسة عمل من رتبة "السحر" على الموجودات نفسها وعلى الأحداث التي تخصُّها. فبالفعل، حسبما يشرح ابن خلدون في مقدمته، تتمتع الطِّلَسْمات المكتوبة، إذ هي مؤلَّفة من العناصر [الحروف] نفسها المكوِّنة لكلية الموجودات، وبحُكْم خاصيتها هذه، بقدرة التأثير على هذه الموجودات. ولهذا فإن معرفة اسم موجود ما، بما هو تعبير عن طبيعته، تمنح سلطانًا عليه؛ وهذا هو أحد تطبيقات علم الحروف الذي عادةً ما يشار إليه باسم السيمياء[17]. ومن الحري ملاحظة أن السيمياء تتخطى بكثير مجرد عمليات "العرافة" كافة: إذ يمكن أولاً، بحساب الأعداد الموافقة للحروف والأسماء، التوصل إلى التنبؤ بأحداث بعينها[18]؛ إلا أن هذا ليس سوى الدرجة الأولى، درجة المبتدئين إذا جاز القول، إذ يمكن من بعدُ إجراء تحويلات [فلكية] على نتائج هذا الحساب من شأنها أن تؤدي إلى تعديل موافق في الأحداث ذاتها[19].

وهاهنا أيضًا يجب التمييز بين درجات جد مختلفة، كما هي حال المعرفة نفسها التي ليست السيمياء إلا تطبيقًا عمليًّا من تطبيقاتها: فعندما يمارَس هذا العملُ في عالم المحسوسات فحسب، نكون في الدرجة الدنيا، وفي هذه الحالة فقط يجوز الكلام على "السحر". ولا يصعب تذهُّن أننا نتعامل مع أمر من رتبة مختلفة تمامًا حين نكون بإزاء عمل له وَقْع في العوالم العُلوية: ففي هذه الحالة، نكون بالطبع بإزاء عمل من رتبة "المُسارَرة" initiation بالمعنى الأتم للكلمة؛ ووحده الذي بلغ درجة "الكبريت الأحمر" قادر على العمل فعليًّا في العوالم كافة. وتسمية "الكبريت الأحمر" هذه تشير إلى مُماثَلة، ربما قد تفاجئ بعض الناس، بين علم الحروف والكيمياء[20]: فَكِلا هذين العِلمين، بالفعل، إذ يؤخذان على معناهما العميق، ليسا في الواقع غير علم واحد؛ وما يعبِّران عنه كلاهما، وإنْ في مظاهر جد مختلفة، ليس سوى سيرورة المُسارَرة بعينها التي تكرِّر بدقة متناهية سيرورة التكوين، حيث إن التحقُّق التام لإمكانات أحد الموجودات يحصل بالضرورة مرورًا بأشواط تحقُّق الكون الكلِّي نفسها[21].


* Voile d’Isis, février 1931 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 50-56.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] Cf. F. Warrain, La Théodicée de la Kabbale, éd. Vega, Paris.

[2] شائع كذلك قولهم إن العربية هي "لغة أهل الجنة"؛ وتأويله، بغض النظر عن سذاجته إذا أخِذَ على محمل حرفي، أن اللغة التي نطق بها آدم، "أبو البشر"، أي اللغة الأصلية التي نطقت بها إنسانيتنا في دورها الحالي، هي عينها اللغة التي سيُنطَق بها في نهاية هذا الدور. (المحرِّر)

[3] راجع: هوميروس، الأوديسة، النشيد 15: 403-405. أورد گينون في الأصل الفرنسي أن الجزيرة المذكورة هي أوجيجيا Ogygie، بينما الصحيح أنها أورتيجيا Ortygie، لأن أوجيجيا، كما ورد مرارًا في النص الهوميري، هي الجزيرة التي احتجزت فيها الإلهة كاليپسو بنت أطلس البطل عوليس طوال سبع سنين على أمل أن يُغرَم بها وينسى موطنه إيثاكي (النشيد 7: 244 وما بعده). أما جزيرة تولا، الواقعة في أقصى الشمال، فهي، حسب مصادر گينون، المركز الأعلى الذي انطلق منه الإشعاع الروحي للمنقول القديم في بداية دور الإنسانية الحالي. (المحرِّر)

[4] ما بين معقوفتين […] من إضافة المدقق توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[5] هي الحصن الشمسي عند أصحاب وردة الصليب، مدينة الشمس عند [الراهب الدومينكاني توماسو] كمپانيلا، إلخ. وإلى هذه الـ"هليوپوليس" الأولى ينبغي في الواقع إرجاع رمزية طائر الفينكس [العنقاء] الدورية.

[6] Cf. René Guénon, Le Roi du monde, Gallimard, 1958.

[7] إشارة إلى الـكالي يوگا Kali-yuga، عصر الدم والحديد والنار، رابع (وآخر) أعصر دور إنسانيتنا الحالي الذي بدأ منذ أكثر من 5000 عام حَسب العقائد الهندوسية. (المحرِّر)

[8] يمكن أن تطرأ على هذا الشكل تعديلات تُوافق عمليات إعادة تكييف نقلية لاحقة، كما حصل للسان العبري بعد الأسْر البابلي؛ وهنا نتكلم على "إعادة تكييف" réadaptation، لأنه من المستبعد أن تكون الكتابة العبرية القديمة قد ضاعت حقًّا إبان فترة السبعين عامًا القصيرة من السبي، حتى إننا لَنعجب من عدم انتباه الناس عمومًا إلى ذلك. وقد طرأت وقائع من النوع نفسه لا محالة، في حقب متفاوتة في القِدَم، على كتابات أخرى، وخصوصًا على الأبجدية السنسكريتية، وإلى حدٍّ معين، على رسوم الكتابة الصينية.

[9] كلام گينون هنا غير دقيق تمامًا؛ فهو لا ينطبق، مثلاً لا حصرًا، على اللغة اليونانية القديمة التي كان لكل حرف من حروفها قيمة عددية، على غرار حروف الأبجدية الفينيقية التي اشتُقتْ منها، ولا على اللسان الفرنسي القديم الذي أتاحت إمكاناته العددية لمتنبِّئ مثل نوستراداموس وضع "رباعياته" عملاً بأحكام علم قريب الشبه من الزايرجة الشهيرة المنسوبة للسبتي، الصوفي المغربي. (المحرِّر)

[10] هو الحساب الذي يستنبط طباع فلان من الناس ومصيره، غالبًا أو مغلوبًا، من حروف اسمه؛ وهو مذكور، كما يورد ابن خلدون في المقدمة، في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو، الأمر الذي يؤكد وجود هذا العلم عند الإغريق. (المحرِّر)

[11] يبدو أننا نستطيع أن نقول القول نفسه في النتائج التي يتحصل عليها التنجيم الحديث، البعيد كل البعد عن النجامة النقلية الحق، على الرغم من المظاهر "العلمية" لمناهجه؛ فالنجامة النقلية، التي ضاعت مفاتيحها فعلاً على ما يبدو، لم تكن قط مجرد فنٍّ من "فنون العرافة"، وإنْ كانت قابلةً طبعًا لتطبيقات من رتبة العرافة، لكنْ بصفة ثانوية و"طارئة" تمامًا.

[12] [رؤيا 21: 27.] لقد سبق لنا أن أشرنا في مناسبة أخرى إلى الصلة بين رمزية "سِفْر الحياة" هذه وبين رمزية "شجرة الحياة" [رؤيا 22: 19]، حيث تمثل أوراق الشجرة وحروف الكتاب على حدٍّ سواء جميع موجودات الكون ("العشرة آلاف موجود"، وفق منقول الشرق الأقصى).

[13] "الحروف العاليات"، حسب تعريف الجرجاني، "هي الشئون الذاتية الكامنة في غيب الغيوب، كالشجرة في النواة" (التعريفات). (المحرِّر)

[14] تجدر الإشارةُ أيضًا إلى أن "كتاب الكون" هو في الآن نفسه "الرسالة الإلهية"، "إمام" الكتب الشريفة كافة؛ والكتب النقلية ليست سوى ترجمات لهذه الرسالة الإلهية إلى الألسنة البشرية: ذلك مؤكد تأكيدًا صريحًا في ڤيدا Veda الهنود وفي القرآن الكريم؛ كما أن فكرة "الإنجيل الأزلي" تبيِّن أيضًا أن هذا التصور نفسه ليس غريبًا تمامًا عن المسيحية أو أنه، على الأقل، لم يكن غريبًا عنها دومًا.

[15] ثمة توافقات أخرى أيضًا: مع العناصر [الإسطقسات]، والصفات المحسوسة، والأفلاك السماوية، إلخ؛ وحروف الأبجدية العربية الـ28 ذات علاقة بالطبع بمنازل القمر.

[16] المقصودة هي: العالم الجسماني والعالم النفساني والعالم الروحاني. (المحرِّر)

[17] لفظ سيمياء لا يبدو عربيًّا محضًا؛ إنه آتٍ على الأرجح من كلمة سيميا sêmeia اليونانية التي تعني "إشارات"، مما يجعله معادلاً لاسم جيمطرِية גימטריה‎ [حساب الجُمَّل] القَبالي، ذي الأصل اليوناني أيضًا والمشتق لا من جومطريا geometria [هندسة]، كما يقال في الغالب، بل من غراماتيا grammateia (من غراماتا grammata، "حروف" باليونانية).

[18] يمكن التوصل أيضًا، في بعض الحالات، اعتمادًا على حساب من النوع نفسه، إلى حل مسائل من رتبة عقيدية؛ وهذا الحل يتبدى أحيانًا على هيئة رمزية شديدة اللفت للنظر.

[19] كما في الزايرجة مثلاً (راجع مقدمة ابن خلدون، آخر المقدمة السادسة من الفصل الأول من الكتاب الأول). (المحرِّر)

[20] من ألقاب سيدي محيي الدين بن عربي "الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر".

[21] إنه لَمِنَ العجب، على أقل تقدير، أن نلحظ أن الرمزية الماسونية نفسها، التي تلعب فيها "الكلمة المفقودة" والبحث عنها دورًا هامًّا، تخص درجات المُسارَرة بألفاظ مستقاة في وضوح من علم الحروف: "تهجئة"، "قراءة"، "كتابة". و"المعلم" [الماسوني]، الذي من ألقابه لقب "لوح التسطير"، لو أنه كان ما يجب أن يكونه حقًّا، لما تمكن من قراءة "سِفْر الحياة" فحسب، بل لاستطاع أن يسطِّر فيه أيضًا، أي أن يعاون واعيًا على تحقيق خطة "مهندس الكون الأعظم" – ومنه، نستطيع أن نحكم على المسافة الفاصلة بين حيازة هذه الرتبة اسمًا وبين حيازتها فعلاً.

في سفري الكوني – لورا بوسي وترين كسوان طوان

في سَفَري الكوني*

ماذا لو أن مخططًا كونيًّا هو الذي جعل ظهور الإنسان ضروريًّا؟ وماذا لو أن فكرة النفس هي التي تفسر تعضِّي الكائنات الحية؟ يرى كلٌّ من عالمة الأعصاب لاورا بوسِّي وعالم فيزياء النجوم ترينْ كسْوان طوان بأن هذا النوع من الأسئلة الميتافيزيقية بات اليوم يبرز في العلم.

هو ذا حوار أقل ما يقال فيه إنه غير متوقع، على أقل تقدير بين عالِمين محترمين[1]. ففي أجواء "لقاءات فاس" شبه السحرية، المخصص معظمها هذا العام [2009][2] للصلات بين العلوم والروحانيات، يوغل عالمُ فلك وعالمةُ أعصاب في تخوم اختصاص كلٍّ منهما. وهما، بعيدًا، بل بعيدًا جدًّا عن المذهبين الوضعي positivisme والعلموي scientisme، لا يترددان في الاستشهاد بالبوذية والمسيحية، بالقديس توما [الأكويني] وپسكال.

منذ سنين وترينْ كسْوان طوان يُنعم النظر في قبة النجوم. إنه يستكشف شَساعة الكون؛ يرصد ضوءًا ولد مع الانفجار الأعظم، لكنه لم يصل إلينا إلا اليوم؛ يحلل تحولات كيميائية مادية جرت منذ مليارات السنين وآلت إلى استيلاد الحياة والإنسان؛ تراه ذاهلاً عن نفسه أمام جمال الكوسموس. أما لاورا بوسِّي فتفضل، من ناحيتها، خفض بصرها إلى مستوى الأرض. فهي، وقد درست البيولوجيا، تنتشي أمام تنوع الكائنات الحية اللانهائي؛ وبوصفها عالمة أعصاب، تراها تعاين غنى الحياة البشرية الذي لا ينضب – حياة هي، في آن معًا، حيوانية ومخية.

تراهما معًا يتخذان موقف بليز پسكال وهو يتأمل خاشعًا، عند بدايات العلم الحديث، اللانهائي في الكِبَر واللانهائي في الصِّغَر؛ مثله، يحاولان الربط بين الأبحاث الأكثر مُعاصَرة وبين الاستفسارات الوجودية؛ ومثله أيضًا، يراهنان على المعنى. فحتى لا تكون عالمة الأعصاب مضطرة إلى تكبُّد دكتاتورية المخ، تراها تردُّ الاعتبار إلى مفهوم النفس القديم؛ أما فيزيائي النجوم، فلا يخشى تأويل التناغم الكوني بعبارات ميتافيزيقية.

dico_amoureux_ciel_etoiles

histoire_naturelle_ame

ترينْ كسْوان طوان، أستاذ علم الفلك في جامعة ڤرجينيا بالولايات المتحدة، هو مؤلف كتب عديدة في التبسيط العلمي وفي التأمل الكوسمولوجي، نذكر منها: اللحن السري (1988)، سُبُل النور: فيزياء المضيء-المظلم وميتافيزياؤه (2007)، معجم عشاق السماء والنجوم (2009)[3]. أما لاورا بوسِّي، الاختصاصية في الصرع وفي الأمراض العصبية التنكسية، منظِّمة المعارض، مؤرخة العلوم، فهي واضعة كتاب جريء في التاريخ الطبيعي للنفس (2003)[4]. وهما معًا، على الرغم من خلافاتهما، لا يترددان في تجديد التحالف القديم بين الإنسان والكون، بين العلوم والمعتقدات.

* * *

لاورا بوسِّي: مسعيانا العلميان متعاكسان ويدرسان موضوعين متعارضين. أتصور أنك في طفولتك كنت تعشق النظر إلى النجوم. أما أنا فكنت أيبِّس نباتات في كتب عن الأعشاب وأصرف الساعات الطوال في المروج راصدةً أشكال الحشرات المذهلة التنوع، عجيج الحياة ذاك. التساؤل الفلسفي عند البيولوجي مختلف عنه عند الفيزيائي: بينما تنطلقون أنتم من الوحدة، ننطلق نحن من التنوع؛ أنت تنظر إلى الكون ينحو نحو الواحد الفرد l’Un، أما أنا فأنكب على الفريد l’Unique بوصفه مختلفًا عن سائر الآخرين جميعًا.

ترينْ كسْوان طوان: أما أنا، فعلى العكس، بوصفي أستروفيزيائيًّا، حينما أحلل إلكترونًا أو پروتونًا، أكون قد فهمت جميع إلكترونات الكون وپروتوناته – إذ إنها تتصف بالخواص نفسها.

ل.ب.: إله الفيزيائيين، بالفعل، يركز على الواحد والسرمدي، بينما يرمي إله البيولوجيين الكريم إلى التنوع، الكثرة، المدة، التغير الدائم: إنه يخلق التفرُّد individuation، أي ما يجعل كل كائن حيٍّ مطلق الفرادة، وفي الوقت نفسه مشابهًا لغيره من أفراد نوعه؛ إنه يبتكر التمايز différenciation، أي ما يجعل البيضة الملقحة تتفتق عن متعضِّية organisme، مؤلفة من أعضاء مترابط بعضها مع بعضها الآخر و"عضوية" organisé في أدق أجزائها؛ إنه ينبسط في تراتبية من الأشكال الحية، من درجات التفرُّد، حيث الإنسان، واعيًا تاريخَه ومالكًا موهبةَ اللغة، هو أكثر الأفراد فردية.

ت.ك.ط.: لا أظن أن هناك تناقضًا. فاختصاصانا يلتقيان كلما اندهش فرد، في أعمق أعماق كيانه، وهو يعاين جمال الكون وتناغُمه. فالكون، من غير راصد يعاينه، لا معنى له. في الأستروفيزياء [فيزياء النجوم]، باتت مسألة موضع الإنسان في الكون تتلقى إضاءة جديدة منذ بعض الوقت. ولنذكِّر بأن الفلك والكوسمولوجيا كانا، على مرِّ القرون، قد اختزلا تدريجيًّا نصيب الإنسان من الكوسموس. فمع كوپرنيكوس وگاليليه، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت الأرض قد فقدت موقعها المركزي من الكون ونُحيت إلى رتبة مجرد كوكب يدور حول الشمس. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، فهم الأستروفيزيائيون أن شمسنا ليست إلا نجمًا واحدًا من بين مئات مليارات النجوم الأخرى التي تؤلف درب التبانة، مجرتنا، وأن هذه، بدورها، ليست إلا مجرة واحدة من بين مئات مليارات المجرات الأخرى التي يكتظ بها الكون القابل للرصد.

لكن المفارقة هي أن موضع الإنسان، منذ بضعة عقود، قد رُدَّ الاعتبارُ إليه، لا بفضل خطابات أخلاقية أو دينية، بل بفضل العلم نفسه. ففي الخمسينيات، اكتشف الأستروفيزيائيون أننا مجبولون من غبار النجوم، وأنه يوجد فعلاً تحالف عميق بين الإنسان والكون. فهم، إذ درسوا التحولات الكيميائية التي حصلت منذ الانفجار الأعظم Big Bang، منذ حوالى 14 مليار سنة، تبين لهم أن هذا الانفجار ما كان ليستطيع أن يصنِّع بالاندماج النووي غير الهدروجين والهليوم، وهما عنصران أبسط بكثير من أن تستطيع الحياة والوعي أن ينشآ منهما. فمن حسن الحظ أن الكون ابتكر النجوم؛ فقد استأنفت النجوم سيرورة الاندماج النووي، التي كانت قد انقطعت عند الانفجار الأعظم، وانتهت إلى توليد سائر عُدة العناصر التي تؤلف العالم، بما في ذلك الكائنات الحية. هناك استمرارية فعلاً بين الأشياء والكائنات: الكون مهدنا، وليس فضاء غريبًا ومعاديًا.

ترين كسوان طوان

وفي السبعينيات، ظهر واقع مبلبل جديد، حوَّل هو الآخر رؤيتنا لموضع الإنسان في الكون. فقد تبين أن الكون عُوير، منذ ولادته، معايرة دقيقة للغاية، مع ثوابت فيزيائية، مثل سرعة الضوء وكتلة الإلكترون وثابتة پلانك (التي تعيِّن مقاييس الذرة)، ومع شروط ابتدائية، مثل نسبة تمدُّد الكون ومحتواه من الكتلة والطاقة إلخ. والحال، لو كانت هذه الثوابت وهذه الشروط الابتدائية مختلفة، وإنْ بمقدار ضئيل جدًّا، لكانت ولادة النجوم وكيمياؤها النووية وظهور الحياة، وبالتالي الإنسان، ضربًا من المحال المحض، ولما كنا هنا أصلاً للكلام عليها!

ل.ب.: هذا ما يُسمى "المبدأ الأنثروپي" principe anthropique…

ت.ك.ط.: نعم، لكن بالإمكان فهم هذا المبدأ بطريقتين. فبحسب صيغة ضعيفة للمبدأ الأنثروپي[5]، تكتفي بمعاينة ائتلاف الكون والحياة، الكون مصنوع بحيث جُعِلَت الحياةُ ممكنةً فيه. أما أنا فأراهن على الصيغة القوية للمبدأ الأنثروپي: لقد عُوير الكون منذ البدء لكي يظهر الإنسان (أو أي شكل آخر من أشكال الوعي خارج الأرض)؛ لقد كان الكون "يعلم" على نحو ما بأن الإنسان قادم لا محالة.

فما قولنا في هذه المعايرة الدقيقة للغاية؟ قد نعزوها إلى المصادفة. وفي هذه الحالة، لا بدَّ من التسليم بوجود "أكوان متعددة" multivers: ماعدا كوننا، توجد لانهاية من الأكوان الموازية له، وكلها يتصف بتوليفة للثوابت الفيزيائية وللشروط الابتدائية خاسرة، بحيث تكون عديمة الراصدين، ماعدا كوننا نحن، الذي منه، بمحض المصادفة، خرجت التوليفة الرابحة، وكأننا نحن "جائزة اليانصيب الكبرى"، إذا جاز التعبير. أما إذا استبعدنا فكرة الأكوان المتعددة (وهي فكرة لا يمكن التحقق من صحتها لأننا لن نستطيع أبدًا رصد أكوان أخرى)، وافترضنا أنه لا يوجد إلا كون واحد، كوننا، لا مناص لنا من التذرع بمبدأ خالق عاير الثوابت الفيزيائية والشروط الابتدائية للكون منذ أصله. وأنا هنا لا أتكلم على الإله الملتحي لهذا الدين أو ذاك، بل على مبدأ حبا الكونَ راصدًا يعاين جماله وتناغُمه. إذ إن كونًا فارغًا وعقيمًا كون عديم المعنى. وعندي أن هذا المبدأ الخالق يتجلى في القوانين الفيزيائية التي أرصدها وأدرسها في الطبيعة. إنها رؤية حلولية panthéiste على طريقة اسپينوزا وأينشتاين. فأنا أراهن على الضرورة، وبالتالي على المعنى والرجاء، لا على المصادفة. وآخر المكتشفات العلمية، بدلاً من أن تحرِّم علي ذلك، تشجعني على المضي في هذا الاتجاه.

ل.ب.: مسعيانا، مرة أخرى، يفترقان. أنت تدرك في تناغم الكون مبدأ خالقًا، إلهًا غير شخصي، ليس غير واحد مع العالم. أما أنا فأتساءل عما هو أكثر ذاتية، شخصية، فرادة، مع أننا نشترك فيه جميعًا: الحياة، الموت، الوعي، هذه المظاهر المختلفة التي كانت في الماضي مجتمعة في فكرة "النفس"؛ وهذا التصور عن النفس هو بالضبط ما أردت أن أردَّ الاعتبار إليه. فهذا المفهوم بالفعل قد طواه النسيان: نسيه العلماء طبعًا – سواء كانوا بيولوجيين أو علماء أعصاب أو علماء نفس –، كما نسيه فقهاء الدين. بيد أن مفهوم النفس ظل تصورًا رائدًا للفكر والعلم الغربيين، منذ أفلاطون حتى القرن التاسع عشر. ولقد تساءلت مطولاً عن خسوف النفس هذا الذي يخفي شيئًا ما، وتبين لي أننا، إذ تخلينا عن هذا المفهوم، فقد أوصدنا بابنا دون فهم مفاهيم الجسم والحيوان والحياة والموت والشخص.

لاورا بوسي

لقد طرح كل من أفلاطون وأرسطو نموذج النفس المثلثة، وحذا حذوهما في ذلك جالينوس والمنقول الطبي برمته: نفس نباتية، يشترك فيها النبات والحيوان، متوضعة في الكبد ومسئولة عن التغذية، نفس حساسة أو شهوانية، موضعها القلب، نشترك فيها مع الحيوان، ونفس مفكرة وعاقلة، تقيم في المخ. وعلى أساس هذه النفوس (أو قوى النفس) الثلاث التي تتداخل تداخُل الدمى الروسية، تصور القوم تناغمًا للكون برمته، يختصره سلَّم الكائنات، من الحجر إلى الإنسان وفق تدرجات غير محسوسة.

نموذج النفوس الثلاث هذا – وهو أقل سذاجة مما يبدو عليه – لا يزال يتخلل إلى حدٍّ كبير طُرُقنا في التفكير. فنحن نتكلم فعلاً على أشخاص "في حالة نباتية"[6]، لا يُعترَف لديهم إلا بالنفس الدنيا؛ وحين دخلتْ على الطب أولى فنون الإنعاش réanimation – عملية "نفث النفْس من جديد"[7] –، بُدئ بالعمل على القلب. وأخيرًا، فإن نموذج النفوس الثلاث يؤكده علم الجنين المعاصر، الذي يميز ثلاث وريقات إنتاشية، يتشكل منها جهاز الهضم (الأدمة الباطنة endoderme)، الجهاز القلبي-الدوراني والجهاز الحركي [العضلات] (الأدمة المتوسطة mésoderme)، والجهاز العصبي والجلد (الأدمة الظاهرة ectoderme). وإني لأشعر بالضيق حيال إنكار "النفوس الدنيا" الذي يمارَس اليوم، كأنْ نعيِّن موضع النفس كلها، الحياة كلها، في المخ، كما نفعل، على سبيل المثال، حينما نستعمل معايير "الموت المخي". فهذا النموذج المخي المركزي encéphalocentrique للنفس، الذي مافتئ ينتشر منذ الخمسينيات في أعقاب ظهور زرع الأعضاء، شديد المثنوية ويعزو دور البطولة إلى إنسان-آلة يتوضع نَفَسُ الحياة الوحيد لديه في المخ. فما إن "ينطفئ" المخ حتى يسارع القوم إلى استعمال أعضاء الجسم الأخرى كقطع تبديل، فتُزرع في جسم مريض ذي مخٍّ لا يزال يعمل. أما مفهوم النفس المثلثة القديم فيتيح لنا، على العكس، ألا نتنكر لحيوانيتنا، كما يتيح توسيع مفهوم الشخص البشري ليشمل جسمه الحي برمته، بدلاً من أن نختزله إلى مخِّه، وحتى إلى قشر مخِّه cortex فحسب.

ت.ك.ط.: لا ريب بتاتًا أن أعقد أشياء الكون وأكثرها غموضًا هو هذه الكتلة الرمادية الواقعة بين أذنينا. فالمخ شيء أكثر تعقيدًا بما لا يقاس من نجم أو مجرة، يمكن لقوانين بسيطة نسبيًّا أن تصف عملهما. هذا المخ هو محل النفس – وأسميها الوعي – المسئولة عن خيارنا الحر، عن كوننا نفكر ونحب ونخلق بطريقة مختلفة دومًا.

ل.ب.: مع أني أوافقكَ بالطبع على دور المخ بوصفه العضو الرئيس للتفرد، أود أن أذكِّر بأن المخ جزء لا يتجزأ من متعضِّية حية وأن الذات الحية، الموهوبة الحريةَ والغائية، تقيم في المتعضِّية ككل، لا في مخ موضوع داخل مرطبان! فأنا مصرة على معارضة مثنوية "نفس-جسم" من النمط الديكارتي، وعلى التصدي للمقاربة الاختزالية réductionniste والآلوية mécaniste للحي. وحتى إذا لم يكن هناك ارتباط مباشر بين عمل العالِم وبين الخطاب الديني، ربما كان البيولوجي أقرب بكثير مما يظن عمومًا من المنقول المسيحي الذي يتأسس على مفهومَي التجسد والقيامة. كان القديس توما، اللاهوتي الكبير، يصف النفس بأنها "صورة غاطسة في المادة". من هذا المنظار، فإن الإنسان برمته، في وحدته النفسجسمية، هو الذي يجب أن يُحلَّل، وليس روحًا غير مادي أو برنامج كمپيوتر. فالبيولوجيا وعلم الوراثة الحديث يؤكدان أن كل إنسان كائن فرد، غير قابل للاستبدال، فريد حتى في بنية كل خلية من خلاياه، في جينومه[8]. الاتساق الحي للمتعضِّية ليس آليًّا، بل ينبسط في الزمن وفي تفاعل معقد مع العالم.

ت.ك.ط.: بصفتي بوذيًّا، أعتبر مثلكِ أن جوهر الإنسان ليس خلاياه العصبية وأن ثمة شيئًا غير المادة الصرف. إنه حدس، لكنْ لا شيء في العلم الحالي يمنعني من تصديقه. يصعب علي أن أتصور أن المحبة التي نكنُّها لأولادنا أو الانفعال الذي يعتمل فيَّ وأنا أمام تلسكوپي في مواجهة جمال الكون لا ينتجان إلا عن تيارات كهربائية وكيميائية. لكني أبقى علميًّا، وإذا برهن العلم ذات يوم أن الفكر والانفعالات والمحبة مشتقة من تيارات كهركيميائية فسوف أتقبل حُكمه.

ل.ب.: أعتقد أن العلم لن يتوصل أبدًا إلى تفسير المخ تفسيرًا تامًّا – ولا إلى تفسير الكون أيضًا. العلم سيرورة متواصلة: يقترب المرء ولا يبلغ أبدًا. كلما توصل إلى إجابات ترى أسئلة أخرى تنطرح. نفي تعقيد الأشياء التي لا نعرفها، كما يفعل العديد من العلماء الاختزاليين، يبدو لي من قبيل الضلال. يدهشني فقرُ النظريات في علوم الحياة في القرنين العشرين والواحد والعشرين بالمقارنة مع النظريات التي طُرحت في القرن التاسع عشر. إذ ليس من الممكن، ولا من المفيد، تفسير الفن والروحانيات بالعلوم العصبية.

ت.ك.ط.: الحوار بين العلم والدين لا يزال يتلمس سبيله. لكن خطوة حاسمة تم اجتيازها، منذ بضعة عقود، حين اكتشف العلم الجامد والآخذ بالحتمية déterministe للقرن التاسع عشر حدوده نفسها. وبذا أعيدَ إطلاقُ الاستفسار الوجودي حول مآل الإنسان وإمكان وجود مبدأ خالق، وهو ليس وشيك الانطفاء.

سجَّل الحوار: ميشال إلتشانينوف

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* « Dans mon Cosmic Trip », dialogue entre Laura Bossi et Trinh Xuan Thuan, propos recueillis par Michel Eltchaninoff, Philosophie Magazine, numéro 33, octobre 2009, pp. 28-31.

[1] مبالغة "إعلامية" لا نجد أي مسوغ لها! إذ إن هذا النوع من اللقاءات بين علماء ينتمون إلى اختصاصات ومناهج مختلفة للتباحث في رؤاهم وآمالهم بات شائعًا، بل شائع جدًّا، منذ بداية الثمانينيات – ناهيكم عن اللقاءات الدورية بين علماء وفلاسفة وفنانين وممثلين عن مختلف الأديان. الجديد في الأمر، بنظرنا، أن مدينة فاس المغربية هي التي باتت تستضيف سنويًّا لقاءات من هذا المستوى الراقي. أفلا يحق لنا أن نتطلع إلى أن تكون دمشق وحلب واللاذقية موئلاً للقاءات مماثلة؟ (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[3] Cf. Trinh Xuan Thuan, La Mélodie secrète (Fayard, 1988) ; Les Voies de la lumière : Physique et métaphysique du clairobscur (Fayard, 2007) ; Dictionnaire amoureux du ciel et des étoiles (Plon, Fayard, 2009).

[4] Cf. Laura Bossi, Histoire naturelle de l’âme (PUF, 2003).

[5] من كلمة أنثروپوس anthropos اليونانية التي تعني "الإنسان". (المحرِّر)

[6] المقصودون هم الأشخاص الداخلون، لأسباب مختلفة، في غيبوبة أو سبات عميق coma يتصف بفقدانهم وظائف العلاقة (الوعي، الحركة، الحساسية)، مع احتفاظهم بوظائف الحياة النباتية (التنفس، الدوران). (المحرِّر)

[7] من اللاتينية: re، "مرة ثانية"، و anima، "نفْس"؛ والمقصودة هي الوسائل الطبية المختصة بإعادة توازن الوظائف الحيوية السوية (التنفس، الدوران، نظم القلب، إلخ) وبالحفاظ عليها. (المحرِّر)

[8] "الجينوم" génome هو مجموع الجينات gènes التي تحملها الجسيمات الصبغية chromosomes الخاصة بنوع بعينه. (المحرِّر)

المبدأ الكلي (ندره اليازجي) – ديمتري أڤييرينوس

المبدأ الكلِّي

لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث

المحور النفساني

ديمتري أڤييرينوس

لا ريب أن القرن العشرين هو قرن الثورة في عالم الفيزياء بامتياز. والفصل الثالث من كتاب المبدأ الكلي* بعنوان "الفيزياء الحديثة، مضامينها وتطبيقاتها في علم النفس" هو الذي ينبري فيه المؤلف لتحليل الأسباب العميقة الكامنة خلف سعي الطرائق العلمية والاجتماعية الحديثة في توسيع منظورها الإپستمولوجي والفلسفي فيما يمكن التمثيل له بتجاوز الفيزياء الحديثة للنظرة النيوتُنية-الديكارتية إلى العالم – تلك النظرة القائمة على ثنوية dualism الروح والمادة، الذات والوجود، التي تتصور هندسة الكون وفق نموذج إقليدس: مكان مطلق يسيل فيه زمان مطلق، مستقل عنه، وتحكم حركةَ الأجسام السابحة فيه (التي يمكن ردُّها جميعًا إلى لبنات بناء أساسية) قوانينُ الجذب الثقالي gravity، بما يجعلها تنصاع لسببية حتمية deterministic causality لا حياد عنها. فقد كان الكون، تبعًا لذاك التصور، أشبه بآلة ضخمة منفصلة الأجزاء، تدور من تلقاء ذاتها، مما أوجد مسوغًا كافيًا لفكرة توصيف للعالم "موضوعي"، أي مستقل عن وعي الإنسان.

holism

لقد كان لآراء ديكارت في الفصل بين العقل والعالم أثرٌ حاسم على تطور العلوم بعده، ولاسيما الطب وعلم النفس والطبابة النفسية؛ فظل الاتجاه السائد في علم النفس، وقد استمد طريقته من الفيزياء النيوتُنية، يرسي قواعده على المذهب التجريبي empiricism الذي يتنكر لكل معرفة غير متحصَّل عليها من طريق التجربة. فقد قام علم النفس القديم، ممثَّلاً بالمذهب السلوكي behaviorism، على اعتماد مقترَب تجريبي صارم، يفترض وجود راصد معزول وأداة رصد محايدة، غير متفاعلة مع الظاهرة المرصودة، نجم عنه إرجاع الإنسان ككل إلى بنية زمكانية، "موضوعية" هي الأخرى، تنتظمها سببيةٌ حتميةٌ لا سبيل إلى الإفلات منها، فنظر بالتالي إلى البنى الحية، بما في ذلك بُعدها النفسي، نظرته إلى مجرد آلات تستجيب للمنبِّهات الخارجية استجابة آلية؛ بينما كان من نتائج النظرية التحليلية psychoanalytical theory الفرويدية اختزالُ المنظومة النفسية psyche إلى كتل بنائية من تصوُّر فرويد (الأنا، الأنا الأعلى، الهو)، وإرجاع الپاثولوجيا النفسية psychopathology إلى أسباب في غاية المحدودية (اختلال الدافع الجنسي حصرًا)، واعتبار المحلِّل منفصلاً عن المحلَّل، شأنه شأن الراصد الفيزيائي في رصده للظواهر الخارجية.

بيد أن طبيعة النفس العصية على التعيين والتحديد، وعجز النموذج الاتِّباعي السائد عن تفسير العديد من الخبرات الإنسانية العميقة وحشره إياها في زمرة الاضطرابات الفصامانية schizoid، ما كان لهما أن يسمحا لعلماء النفس بالمضي في هذا المنحى؛ فبدأت صيحات الاحتجاج تعلو، يطلقها مَن أبوا على الإنسان أن يكون مرتَهنًا لسلوك خارجي "لائق" ليس، في الأعم الأغلب، إلا محاكاة لنمطية اجتماعية ضيقة تسلبه كل أصالة وإبداع وتبتليه بالعُصاب neurosis، وبدأ علماء النفس الظواهريون-الوجوديون phenomeno-existentialists والعبرشخصيون transpersonal، على غرار كارل يونگ وعلم نفسه المركب complex psychology، يستلهمون الحِكَم المشرقية، من حيث إنها قد سبرتْ عالَم النفس منذ القديم وعرفتْ مداخله ومخارجه – حيث إن الحكمة ذاتها هي صفة مَن عرف نفسه – وقدمتْ تصورًا متكاملاً محكمًا عن ماهية الوعي الإنساني ومنزلة الإنسان من الطبيعة والكون.

ولقد أمدتنا الفيزياء الحديثة، من جهتها، بهيكل تصوُّري كلاني holistic عن بنية كلية شاملة يلتقي ووجهةَ نظر الحِكَم المذكورة في العصور والمذاهب كافة، ويتفهم الخبرات النفسية والروحية التي يكابدها أفراد يتجاوزون بها أبعاد شخصيتهم المحدودة. وهكذا انصرف عدد من الباحثين إلى إبراز نتائج الثورة التي أحدثتْها الفيزياء الحديثة بنظريتيها الكبريين – نظرية النسبية relativity والميكانيكا الكوانتية quantum mechanics – في مفاهيمنا وتصوراتنا عن العالم (وثوق الارتباط بين الزمان والمكان، الطبيعة المزدوجة، الجسيمية والموجية، لظواهر العالم الأصغر، مبدأ هايزنبرغ في اللاتعيٌّن indetermination واللاحتمية)، مؤكدين على ضرورة إعادة نظر جذرية فيها، بما أمكن له أن ينعكس على علم النفس انعكاسًا مباشرًا.

تتلخص النظرة الجديدة في اعتبار الكون جملة سيرورات عضوية متناسقة، عصية على التقسيم من حيث الجوهر (اللهم إلا على نحو محض تصوُّري وتصنيفي)، تؤلف فيما بينها منظومات ذاتية التوازن self-regulating systems على مستويين اثنين: مستوى العلائق الداخلية السارية فيها، ومستوى ارتباطها بالمنظومات الأخرى جميعًا. وتعلِّمنا الفيزياء الكوانتية "احتمالية" العالم الأصغر وانتظامه في "أحوال" لا تخضع للسببية الحتمية، إنما تحكمها قوانين إحصائية تحدد الاحتمالات الممكنة لوقوع أحداث تتعلق بدينامية الجملة الفيزيائية ككل. وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أن فهم الجزء متعذر بمعزل عن الكل.

لقد قوَّضت الفيزياء الحديثة التصور القديم للذرة السائد أيام ديموقريطس، بوصفها مادة صلبة صماء، فاستعيض عنه بنماذج دينامية متحولة تحولاً موصولاً، وأصبحت المادة بعامة ذات طبيعتين (موجية وجسيمية)، وتوحَّد الزمان والمكان في متَّصل continuum واحد لا ينفصل عن المادة السابحة فيه؛ كذلك، أصبح الراصد observer في الفيزياء الكوانتية مشاركًا في إيجاد الظاهرة التي يرصدها، بما يجعل فهم العالم بمعزل عن الوعي الإنساني المدرك له أمرًا متعذرًا.

ينسحب المنظور السابق على علم نفس جديد، يتعاون فيه الكون والإنسان على بناء المنظومة النفسية للفرد، ويصبح الإنسان، إذا جازت الاستعارة، "جسيميًّا" corpuscular، خاضعًا للسببية الحتمية في سلوكه الظاهر (البدني والفكري)، لكنه "موجي" wave-like في الوقت نفسه، غير خاضع لها في إرادته الحرة ومواهبه الوجدانية والعقلية والحدسية. وفي هذا السياق، تصبح الإرادة الحرة هي الوجهة أو السيَّالة الطاقية التي يتخذها الوعي نحو غاية تنسجم مع القصد الباطن.

يتقاطع هذا التصور مع حكمة الڤيدنتا اللاثنوي advaita vēdanta الهندية التي ترى في الإنسان توليفًا بين صورة مادية وحقل قوة للطاقة الفاعلة. فمذهب الڤيدنتا، في منهاجه التأملي، يعتمد الاستغراق في النفس سبيلاً إلى تنمية التركيز وتوجيه الذهن إراديًّا نحو ما يتخطاه في الإنسان والكون. وبذلك يسقط التناقض المزعوم بين القائلين بالإرادة الحرة (التخيير) والآخذين بالجبرية المطلقة (التسيير)، ويجتمع المفهومان في تصوُّر كلاني واحد، بحيث يحتِّم الذهن المشتت على الإنسان أن يسلك سلوكًا "جسيميًّا"، بينما يفسح له الذهن الحاضر، المستغرق في موضوع تأمُّله، المجال حرًّا للإفصاح عن طبيعته العقلية "الموجية".

وهكذا نجد، على الصعيد النفسي، عين الوضع الذي وصفه هايزنبرغ بمبدأ اللاتعيُّن الذي يتعذر وفقًا له تحديد وجود القُسيم الأولي elementary particle في موقع معين إذا عُرفت سرعتُه بدقة، فيصير الحديث بخصوصه عن احتمال أو "ميل إلى الوجود". كذلك شأن السلوك الإنساني الذي يتعذر ضبطُه وفق حتمية خطِّية نظرًا لاتصافه بخاصية "موجية" هي أبعد ما تكون عن السببية الحتمية، ويصبح فيه اللقاء الخلاق بين إنسان وآخر ضربًا من "التفاعل الداخلي" كلما وجَّه أحدهما (أو كلاهما) إرادته الحرة نحو صاحبه. ويعبِّر المؤلف عما سبق بقوله:

هكذا نجد أنفسنا نواجه علم نفس اجتماعي-كوني متنوع يشتمل موضوعُ مادته بالضرورة على الأنماط الديناميكية للتفاعل البشري والعمليات العضوية الوظيفية المتضمنة في تكوين هذه الأنماط. (ص 67)

ويعقد المؤلف مقارنة بين فرويد ويونگ، باعتبار الأول ممثلاً للنظرة النيوتُنية الخطية-الميكانيكية والثاني ممثلاً للنظرة اللاخطية-الدينامية (التي لا تتنكر للنظرة الأولى بل تحتويها)، حيث يقدم يونگ، بفكرته عن لاوعي جمعي (أو "خافية جمعية" collective unconscious)، إلماعًا إلى الحلقة التي تشد الإنسان إلى الإنسانية جمعاء، فتصله عن طريق هذه بالكون بأسره. وبذا تصبح النظرة إلى النفس نظرةً إلى

[…] منظومة ديناميكية […] هي عضو مندرج في منظومات أوسع […] تُعرَّف بأبعادها المادية والاجتماعية والحضارية والثقافية. (ص 87)

والواقع أن الفيزياء الحديثة، بفضل الثورة التي أحدثتْها في مفهوم الزمن، قد تتيح تطوير مفهومها الجديد ليشمل علم النفس الذي لا بدَّ أن تتجسد فيه، من الآن فصاعدًا، فكرتا الزمن الخطية linear واللاخطية nonlinear، ممثَّلتين بزمن الواعية (= الوعي أو الشعور) وزمن الخافية (= اللاوعي أو اللاشعور)، بما يؤلف بين وجهتَي النظر السببية causal واللاسببية acausal في تفسير بعض الظواهر النفسية (كظاهرة التزامن synchronicity التي درسها يونگ بالتعاون مع عالم الفيزياء ڤولفگنگ پاولي[1]، على سبيل المثال لا الحصر).

جدير بالذكر أن من السبل المتاحة لتطوير علم النفس استلهام ما تقول به الفيزياء الكوانتية بخصوص العلاقة بين المراقِب (= الراصد) والمراقَب (= المرصود)، بحيث يصبح اللقاء الشخصي الودي بين المعالج والمتعالج، في تفاعل يشمل كلِّية المنظومة النفسية عند كليهما، أساسًا مكينًا للعلاج النفسي؛ وبذلك يتحقق التوازي بين وجهة النظر هذه وبين وجهة نظر الحكمة المشرقية في العلاقة الدينامية بين الحكيم ومريده[2].

الحق أن النتائج المترتبة عن مثل هذا التصور للنفس البشرية هائلة وبعيدة المدى؛ لكنْ لا بدَّ لها، كيما تؤتي ثمارها، من أن تؤلف بين الفلسفة والأخلاق وعلم النفس والدين والمباحث الميثولوجية من منظور عبرمناهجي transdisciplinary، بما يؤسس لمنهاج نفساني علمي، نظري وتطبيقي، يشتمل أيضًا على الأبعاد العليا للطبيعة الإنسانية والحياة إجمالاً، فلا يأخذ بالحسبان فقط ما هو متحول وزائل في الإنسان، بل وما يضرب فيه بجذوره عميقًا في الأبدية[3].


* ندره اليازجي، المبدأ الكلي: لقاء الحكمة القديمة والعلم الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، طب 2: 1989.

[1] راجع: ألان كومبس ومارك هولند، التزامن: العلم والأسطورة والألعبان، بترجمة ثائر ديب، دار مكتبة إيزيس (آفاق 1)، دمشق، 2000. (المحرِّر)

[2] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "الشيخ والمريد"، سماوات: http://samawat.org/articles/guru_chela_dna. (المحرِّر)

[3] نشير هنا، استكمالاً للموضوع، إلى ضرورة اطلاع القارئ المهتم على فصول "معالم الشخصية المتكاملة" و"فلسفة القلق" و"المعرفة سبيل إلى التكامل النفسي" من كتاب ندره اليازجي تأملات في الحياة والإنسان وعلى فصلَي "الشعور بالنقص" و"النزعة الإنسانية والشمولية في الفلسفة" من كتابه وحدة الفكر الإنساني. (المحرِّر)

تأثير الحضارة الإسلامية في الغرب – رونيه گينون

تأثير الحضارة الإسلامية

في الغرب*

رونيه گينون**

أكثر الأوروبيين لم يقدِّروا المدد الذي تلقُّوه من الحضارة الإسلامية حق قدره، ولا هم فهموا طبيعة اقتباساتهم عن هذه الحضارة في الماضي، حتى إن بعضهم بلغ به الأمر حدَّ تجاهُل كل ما يتعلق بها تجاهلاً تامًّا. وهذا متأتٍّ من أن التاريخ، كما يتعلمونه، يشوِّه الوقائع ويبدو كما لو أنه قد حُرِّف عن سابق إصرار حول كثير من النقاط. فهذا التعليم يغالي في إظهار قلة مبالاته حيال الحضارة الإسلامية، ومن عادته أن ينتقص من جدارتها كلما تسنت له الفرصة لذلك.

ومنه أهمية لفت النظر إلى أن تعليم التاريخ في جامعات أوروبا لا يُبرز التأثير المذكور[1]؛ فالحقائق التي يجب أن تقال بهذا الصدد، على العكس، سواء تعلق الأمر بالتدريس أو بالكتابة، تُستبعَد استبعادًا مقصودًا، ولاسيما فيما يخص أهم الأحداث. فعلى سبيل المثال، إذا كان معلومًا عمومًا أن الأندلس ظلت تحت الحكم الإسلامي طوال عدة قرون، لا يقال أبدًا إن هذا ينسحب على بلاد أخرى، مثل صقلية والجزء الجنوبي من فرنسا الحالية. ويميل بعضهم إلى عزو سكوت المؤرخين هذا عن تلك الحقائق إلى أحكام مسبقة دينية بعينها – فليكن؛ ولكنْ ما القول يا ترى في المؤرخين الحاليين (الذين أغلبهم لا دين له، هذا إنْ لم يكن يعادي الأديان كلها) حين يثنُّون قول أسلافهم ما يناقض الحقيقة؟ ومنه يجب أن تُرى في ذلك تبعة من تبعات غرور أهل الغرب واعتدادهم بأنفسهم، وهما عيبان يحولان بينهم وبين الاعتراف بحقيقة ديونهم للشرق وبأهمية هذه الديون.

أغرب ما في الأمر بهذا الصدد هو رؤية الأوروبيين يزعمون أنهم الورثة المباشرون للحضارة الإغريقية، في حين أن حقيقة الوقائع تدحض هذا الزعم. فالواقع المستخلَص من التاريخ نفسه يثبت جزمًا أن علوم الإغريق وفلسفتهم انتقلت إلى الأوروبيين عبر وسطاء مسلمين. بعبارة أخرى، فإن التراث العقلي للإغريق لم يبلغ الغرب إلا بعد أن أشبعه الشرق الأدنى درسًا وتمحيصًا، ولولا العلماء والفلاسفة المسلمون لبقي الأوروبيون على جهل مطبق بهذه المعارف مدة طويلة للغاية، هذا لو توصلوا إلى الاطلاع عليها أصلاً.

يجدر بنا لفت النظر إلى أننا نتكلم هنا على تأثير الحضارة الإسلامية، لا العربية خاصة، كما يقال في بعض الأحيان عن خطأ؛ إذ إن أغلب الذين مارسوا هذا التأثير في الغرب لم يكونوا عربًا أقحاحًا، وإذا اتفق للسانهم أن يكون اللسان العربي، فتلك فقط نتيجة من نتائج اعتناقهم الإسلام دينًا.

وبما أن السياق ساقنا إلى الكلام على اللسان العربي، ترى بوسعنا أن نسوق برهانًا أكيدًا على امتداد هذا التأثير عينه في الغرب في وجود عدد من المصطلحات ذات الأصل والجذر العربيين أكبر بكثير مما يُظن عمومًا، وقد اندمجت في اللغات الأوروبية كلها تقريبًا واستمر استعمالها حتى أيامنا هذه، مع أن أوروبيين كثيرين ممن يستخدمونها يجهلون أصلها الحقيقي جهلاً تامًّا. وبما أن الكلمات ليست غير ناقل للأفكار ووسيلة لتخريج الفكر، فمن السهولة بمكان أن يُستنتَج من هذه الوقائع منطقيًّا انتقالُ الأفكار والتصورات الإسلامية نفسها.

فالواقع أن تأثير الحضارة الإسلامية طال، إلى حدٍّ كبير للغاية وعلى نحو محسوس، جميع المجالات، من علوم وفنون وفلسفة إلخ. ولقد كانت الأندلس آنذاك وسطًا هامًّا جدًّا بهذا الخصوص والمركز الرئيس لإشعاع هذه الحضارة. بيد أنه ليس في نيتنا أن نتناول كل واحد من هذه المجالات بالتفصيل، ولا أن نعيِّن نطاق امتداد تأثير الحضارة الإسلامية، بل أن نشير فقط إلى وقائع بعينها نعدُّها هامة بصفة خاصة، مع أن الاعتراف بهذه الأهمية يقتصر على قلة قليلة من الناس في عصرنا.

فيما يتعلق بالعلوم، بوسعنا أن نميز بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية. فبخصوص الأولى، نعلم يقينًا أن بعضها نقلته الحضارة الإسلامية إلى أوروبا التي اقتبسته عنها اقتباسًا تامًّا. فالكيمياء، مثلاً، احتفظت دومًا باسمها العربي، وهو اسم يعود بأصله في الواقع إلى مصر القديمة، وذلك على الرغم من أن المعنى الأول والعميق لهذا العلم بات يجهله العصريون جهلاً تامًّا، وكأنما ضاع عليهم[2].

أما الأسطرونوميا astronomie [= علم الأفلاك][3]، على سبيل مثال آخر، فإن المصطلحات الفنية المستعمَلة فيه في الألسنة الأوروبية كافة لا تزال، في معظمها، عربية الأصل، كما أن أسماء العديد من الأجرام السماوية مافتئت هي أسماءها العربية، يستعملها علماء الفلك على حالها في البلدان كافة. وهذا عائد إلى أن اطلاع الغرب على مؤلفات علماء الفلك الإغريق القدماء، مثل بطليموس الإسكندري، تم عبر ترجمات عربية، وذلك بالتوازي مع اطلاعه على مؤلفات أخلافهم المسلمين. كما أن من السهل عمومًا تبيان أن معظم المعارف الجغرافية المتعلقة بأبعد أمصار آسية أو إفريقية اكتسبها طوال زمن مديد مستكشفون عرب ساحوا في العديد جدًّا من هذه الأقاليم. وبوسعنا أن نورد العديد من الوقائع الأخرى من هذا النوع.

وفيما يتصل بالمخترعات، التي ليست غير تطبيقات للعلوم الطبيعية، فقد اتبعت هي الأخرى طريق الانتقال نفسه، أي الوساطة الإسلامية؛ وقصة "الساعة المائية" التي أهداها الخليفة هارون الرشيد للإمبراطور شارلمان لا تزال قيد الذاكرة إلى الآن.

فيما يخص العلوم الرياضية، يجدر بنا أن نوليها انتباهًا خاصًّا من هذه الناحية. ففي هذا المجال الواسع، لم ينتقل العلم الإغريقي فحسب إلى الغرب بواسطة الحضارة الإسلامية، بل والعلم الهندي أيضًا. فلقد اختص الإغريق بتطوير الجومطريا géométrie [= الهندسة] بالذات، وحتى الأرثماطيقي arithmétique [= علم العدد] كانت، بنظرهم، مرتبطة بالنظر في الأشكال الهندسية الموافقة. وهذه المنزلة التي أنزلوا الهندسة تظهر عندهم بوضوح، كما في كتب أفلاطون مثلاً. غير أن ثمة فرعًا آخر من الرياضيات، تابعًا لعلم العدد، غير معروف في الألسنة الأوروبية باسم يوناني، شأن العلوم الأخرى[4]، وذلك لأن قدماء الإغريق كانوا يجهلونه. هذا العلم هو الجبر algèbre، الذي كانت الهند منبعه الأول والذي تبيِّن تسميتُه العربية تبيانًا كافيًا كيفية انتقاله إلى الغرب.

هناك واقع آخر تحسُن الإشارة إليه هنا، على كونه أقل أهمية، من حيث إنه يؤيد ما ذهبنا إليه، ألا وهو أن الأرقام التي يستعملها الأوروبيون معروفة في كل مكان على أنها أرقام "عربية"، وإنْ يكن أصلها الأول هنديًّا في الواقع؛ إذ إن علامات الترقيم التي استعملها العرب أصلاً لم تكن غير حروف الأبجدية نفسها.

فإذا تركنا الآن الفحص عن العلوم لنفحص عن الفنون، للحظنا، فيما يخص الأدب والشعر، أن الكثير من الأفكار المقتبَسة عن الكتاب والشعراء المسلمين استُعمِلت في الآداب الأوروبية، حتى إن بعض الكتاب الغربيين ذهب حتى تقليد أعمالهم تقليدًا بحتًا. بالمثل، بوسعنا أن نقتفي بعض آثار التأثير الإسلامي في صنعة المعمار، وذلك بصفة أخص في العصر الوسيط: بذا فإن تصالُب القوسين [القوطي]، الذي ثبُتت خصوصيتُه إلى حدِّ أن أسلوبًا معماريًّا برمته قد تسمى باسمه، يعود بأصله، بلا مِراء، إلى المعمار الإسلامي، وذلك على الرغم من اختلاق العديد من النظريات الطريفة لستر هذه الحقيقة. فهذه النظريات يدحضها وجود تواتُر عند البنائين أنفسهم يصر دومًا على انتقال معارفهم اعتبارًا من الشرق الأدنى. ولقد كانت هذه المعارف تتصف بخاصية سرية تضفي على فنِّهم معنى رمزيًّا، كما كانت وثيقة الصلات للغاية بعلم العدد، وقد أسنِدَ مصدرُها الأول دومًا إلى بناة هيكل سليمان.

sixpartite_rib_vault-scheme

مهما يكن من أمر الأصل البعيد لهذا العلم، لا يصح أن يكون قد انتقل إلى أوروبا العصر الوسيط بواسطة غير واسطة العالم الإسلامي [إبان حروب الفرنجة]. ويجدر بنا أن نقول بهذا الخصوص إن هؤلاء البنائين، المؤتلفين في سلك الصنعة الذي كان يختص بشعائر خاصة، كانوا يعدُّون أنفسهم "غرباء" في الغرب ويتسمُّون بهذه التسمية، حتى في مسقط رأسهم؛ وقد بقي هذا اللقب حتى يوم الناس هذا، مع أن هذه الأمور أمست غامضة ولم يعد مطلعًا عليها من الناس سوى عدد ضئيل.

في هذا العرض السريع، لا مناص من أن نخص بالذكر مجالاً آخر هو مجال الفلسفة، حيث بلغ التأثير الإسلامي في العصر الوسيط من الخطورة قدرًا لم يعد معه بمستطاع أي من خصوم الشرق الأكثر ضراوة أن يتجاهل قوته. وبوسعنا القول محقين بأن أوروبا في ذلك الوقت لم يكن عندها أي سبيل آخر لتحصيل معرفة الفلسفة الإغريقية؛ فالترجمات اللاتينية لكتب أفلاطون وأرسطو التي كانت مستعمَلة آنذاك لم تتم عن الأصول الإغريقية مباشرة، إنما تمت فعلاً عن ترجمات عربية سابقة، مذيلةً بشروح الفلاسفة المسلمين من ذلك العصر، مثل ابن رشد وابن سينا إلخ.

إن فلسفة ذلك العصر، المعروفة باسم الفلسفة "المدرسية" scolastique، تصنَّف عمومًا إلى إسلامية ويهودية ومسيحية. بيد أن الفلسفة الإسلامية هي المنبع الذي استقت منه الفلسفتان الأخريان، وبالأخص الفلسفة اليهودية التي ازدهرت في الأندلس والتي كانت عربية اللسان، كما يمكن لنا أن نتبينه من مصنفات في أهمية مصنفات موسى بن ميمون[5] الذي ألهم الفلسفة اليهودية اللاحقة على مدى قرون عدة حتى اسپينوزا، حيث لا يزال بالإمكان الوقوع عنده على بعض أفكار الفيلسوف القرطبي.

ولكن لا ضرورة للاستمرار في تعداد وقائع يعرفها جميع مَن عندهم بعض إلمام بتاريخ الفكر. إذ من المستحسن، ختامًا، دراسة وقائع أخرى، من رتبة مختلفة تمامًا، يجهلها أغلب العصريين كل الجهل وليس لديهم، في أوروبا بالأخص، أدنى فكرة عنها، في حين أن هذه الأمور، من وجهة نظرنا، ذات فائدة أهم بكثير من جميع المعارف الظاهرة للعلم وللفلسفة. ونقصد بذلك التصوف، بكل ما يلتحق به ويتفرع منه من معارف مشتقة، هي عبارة عن علوم مختلفة كل الاختلاف عن العلوم التي يعرفها العصريون.

ففي الواقع، ليس عند الأوروبيين، في أيامنا هذه، ما من شأنه أن يذكِّر بهذه العلوم؛ لا بل إن الغرب، أكثر من ذلك، يجهل كل شيء عن المعارف الحقيقية، من نحو التصوف ونظائره، في حين كان الأمر على غير ذلك تمامًا في العصر الوسيط؛ وفي هذا المجال أيضًا، يبدو التأثير الإسلامي آنذاك على أنصع ما يكون وأوضحه. فمن السهل جدًّا، في واقع الأمر، اقتفاء آثار هذا التأثير في أعمال ذات معان متعددة كانت الغاية الفعلية منها شيئًا آخر تمامًا غير مجرد صنعة الأدب.

لقد بدأ بعض الأوروبيين أنفسهم يكتشفون شيئًا من هذا القبيل، بالأخص لدى توفرهم على درس قصائد دانتي، لكنْ من غير أن يتوصلوا إلى فهم طبيعتها الحقيقية فهمًا كاملاً. فمنذ بضعة أعوام، قام المستشرق الإسباني دون ميگيل أسين پلاثيوس بوضع مؤلف عن التأثيرات الإسلامية في أعمال دانتي[6]، أثبت فيه أن العديد من الرموز والعبارات التي استعملها الشاعر الفلورنسي قد سبقه إلى استعمالها بعض الصوفية المسلمين، ولاسيما سيدي محيي الدين بن عربي. لكن ملحوظات هذا العلامة، بكل أسف، لم تبيِّن أهمية الرموز المعمول بها.

وهناك أيضًا كاتب إيطالي، توفي مؤخرًا، هو لويجي ڤالِّي، درس أعمال دانتي دراسة أعمق قليلاً، فخلص إلى أن مؤلف الكوميديا الإلهية لم يكن وحده مَن استعمل الطرائق الرمزية المستعمَلة في الشعر الصوفي الفارسي والعربي؛ ففي بلد دانتي وبين معاصريه، كان جميع هؤلاء الشعراء أعضاء في تنظيم سري يدعى "أوفياء المحبة" Fedeli d’amore، كان دانتي نفسه أحد رؤسائه. ولكن حين حاول لويجي ڤالِّي أن ينفذ إلى معاني "لغتهم السرية" الاصطلاحية، تعذر عليه هو الآخر أن يتميز الخاصية الحقيقية لذاك التنظيم أو للتنظيمات الأخرى ذات الطابع نفسه التي تألفت في أوروبا في العصر الوسيط[7]. أما الحقيقة فهي أن شخصيات مجهولة بعينها كانت تقف من وراء هذه الجمعيات وتلهمها، وكانت معروفة بأسماء مختلفة، أهمها اسم "إخوان وردة الصليب". إلى ذلك، لم تكن لدى هؤلاء الأفراد قواعد مكتوبة بتاتًا ولم يؤلفوا جمعية قط، كما لم تكن تجمعهم بتاتًا لقاءات محددة، وكل ما يمكن لنا أن نقول فيهم هو إنهم بلغوا مقامًا روحيًّا يجيز لنا أن نسميهم "صوفية" أوروبيين، أو على أقل تقدير متصوفة حصَّلوا مرتبة عالية من مراتب التصوف. ويقال أيضًا إن "إخوان وردة الصليب" هؤلاء، الذين كانوا "يتسترون" بسلك صنعة البنائين الذين تكلمنا عليهم، علَّموا الكيمياء وغيرها من العلوم المماثلة للعلوم التي كان ازدهارها في العالم الإسلامي آنذاك على أشده. والحق إنهم كانوا يشكلون حلقة من حلقات السلسلة الواصلة بين الشرق والغرب، عاقدين صلة دائمة مع الصوفية المسلمين، وهي صلة ترمز إليها الأسفار المنسوبة إلى مؤسِّسهم الأسطوري[8].

بيد أن هذه الوقائع كلها لم يطلع عليها التاريخ العادي الذي لا تطال استقصاءاته ما هو أبعد من ظاهر الوقائع، في حين أن هاهنا مخبأ المفتاح الحقيقي، إذا جاز التعبير، الذي يتيح حل كثير من الألغاز التي تظل بغيره دائمة الغموض وتبقى رموزها عصية على الفك.


* Études traditionnelles, XII-1950, pp. 337-344 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 76-87. نُشر هذا المقال المكتوب بالعربية رأسًا في مجلة المعرفة.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن موقف الاستشراق إجمالاً من الحضارات الشرقية، عمومًا، ومن الحضارة الإسلامية، خصوصًا، قد تطور كثيرًا منذ الوقت الذي كُتِبَ فيه هذا المقال (ثلاثينيات القرن العشرين)، فأصبح أكثر موضوعية وتواضعًا. (المحرِّر)

[2] أغلب الظن أن اسم "الكيمياء" alchimie مشتق من اسم كِمي Kémi (= "أرض السواد") الذي كان يُطلَق على مصر القديمة. والواقع أن تسمية الغرب لهذا العلم بالـ"هرمسية" hermétisme يشير إلى أنه علم مصري الأصل (حيث إن هرمس المثلث بالحكمة Hermès Trismégistos هو المقابل الإغريقي للإله المصري تحوت Thoth)، ما لبث أن اتخذ، في فترة ازدهار حضارة الإسكندرية على الأغلب، شكلاً إغريقيًّا، وانتقل من بعدُ على هذا الشكل، في العصر الوسيط، إلى كلٍّ من العالمين الإسلامي والمسيحي، وإلى الثاني عن طريق الأول تحديدًا، كما يبرهن عليه العديد من المصطلحات العربية والمعربة التي اعتمدها الهرمسيون الأوروبيون، وذلك على غرار جابر بن حيان الذي يقال إنه درسه على الإمام جعفر الصادق الذي أخذه عن النبي إدريس (= هرمس = أخنوخ) عبر سلسلة غير منقطعة من العارفين. (المحرِّر)

[3] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر)

[4] الواقع أن اعتماد إخوان الصفاء، مثلاً لا حصرًا، المصطلحات اليونانية معربةً لتسمية أنواع العلوم الرياضية الأربعة (العدد والهندسة والفلك والموسيقى)، بالإضافة إلى الجغرافيا، يؤكد جزمًا أخذ الحضارة الإسلامية إياها عن الإغريق (راجع: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، الرسائل 1-5 من القسم الرياضي، مج 1، دار صادر، بلا تاريخ). (المحرِّر)

[5] راجع: إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون: حياته ومصنفاته، لجنة التأليف والترجمة والنشر (نسخة بالأوفست عن طبعة القاهرة، 1935)، ص 57 وما يليها. (المحرِّر)

[6] Cf. Miguel Asín Palacios, La escatología musulmana en la Divina Comedia, seguida de la Historia y crítica de una polémica, Tercera edición, Instituto Hispano Árabe de Cultura, Madrid, 1961.

[7] Cf. René Guénon, L’ésotérisme de Dante, Paris, Gallimard, 1957.

[8] راجع: أكرم أنطاكي وديمتري أڤييرينوس، "قصة أسطورة: الوردة+ الصليب"، سماوات: http://samawat.org/essays/rosa_crucis_aaantaki_dna. (المحرِّر)

الخلق والتجلي – رونيه گينون

الخلق والتجلِّي*

رونيه گينون**

سبق لنا أن لفتنا النظر، في مناسبات عدة، إلى أن فكرة "الخلق" création، – إذا كان المراد فهمها بمعناها الصحيح والدقيق، ومن غير أن يُسرَف في مدلولها إلى حدٍّ قد يزيد عنه أو ينقص، – لا تصادَف في الواقع إلا في منقولات تنتمي إلى خط واحد، هو الخط المؤلف من اليهودية والمسيحية والإسلام. ولما كان هذا الخط هو خط الأشكال النقلية التي يصح القول فيها بأنها "دينية" بحصر المعنى، لا بدَّ أن يُستنتَج من ذلك وجودُ صلة مباشرة بين هذه الفكرة وبين وجهة النظر الدينية نفسها. ففي كل مكان آخر، من شأن كلمة "خلق"، إذا ما تمسكنا باستعمالها في حالات بعينها، أن تؤدي حتمًا تأدية شديدة الغلط فكرةً مختلفةً يفضَّل لتأديتها إيجادُ تعبير آخر. على كل حال، ليس هذا الاستعمال على الأغلب، في واقع الأمر، إلا نتيجة واحد من هذه الالتباسات أو هذه المماثَلات المغلوطة التي كثيرًا ما يقع فيها أهل الغرب في كل ما يتعلق بالمذاهب المشرقية. بيد أنه لا يكفي تفادي الوقوع في هذا الالتباس، إنما يجب إيلاء حرص مماثل لتجنُّب غلط آخر معاكس، ألا وهو الإصرار على رؤية تناقُض أو تضاد ما بين فكرة الخلق وبين هذه الفكرة الأخرى التي ألمحنا إليها لتوِّنا والتي أصح مصطلح بحوزتنا لتأديتها هو "التجلِّي" manifestation؛ وهذه النقطة الأخيرة هي التي نعتزم التوسع فيها في هذا المقال.

إن بعض القوم، بالفعل، إذ يقرُّون بأن فكرة الخلق غير موجودة في المذاهب المشرقية (ماعدا الإسلام الذي لا يجوز، بطبيعة الحال، إقحامُه ضمنها بهذا الصدد)، سرعان ما يزعمون، ومن غير أن يحاولوا التوغل في عمق الأمور، بأن غياب هذه الفكرة إنما هو علامة على وجود نقص أو خلل، ليخلصوا من ذلك إلى أن المذاهب المقصودة لا يجوز أن تُعتبَر تعبيرًا ملائمًا عن الحقيقة. ولئن صح هذا على أهل الفريق الديني، حيث غالبًا ما يغالى في التأكيد على "حصرية" مؤسفة، تراه يصح كذلك على بعضهم من أهل الفريق المناوئ للدين ممن يصرون أن يستخلصوا، من المعاينة نفسها، نتائج معاكسة تمامًا: فهؤلاء، بطبيعة الحال، إذ يهاجمون فكرة الخلق هجومهم على جميع الأفكار الأخرى من رتبة الدين، يتظاهرون بأنهم يرون في غيابها نفسه نوعًا من التفوق؛ وهم، بالطبع، لا يفعلون ذلك في الواقع إلا بدافع الرفض والمعارضة، وليس البتة دفاعًا حقًّا عن المذاهب المشرقية التي لا يكترثون بها بتاتًا. أيًّا ما كان الأمر، فإن هذه المآخذ وهذه المدائح عديمة القيمة وغير مقبولة على حدٍّ سواء، من حيث إنها جميعًا تصدر في الحاصل عن الغلط إياه، إنما مستغَلاً تبعًا لنوايا متعاكسة، طبقًا للميول الخاصة بالذين يرتكبونه؛ والحقيقة هي أن حجة كلا الفريقين واهية لا سند لها، وأن الحالتين تعكسان عدم فهم يكاد أن يكون متساويًا عند كليهما.

ولا يبدو سبب هذا الضلال المشترك، إلى ذلك، عصيًّا على الاكتشاف: فالذين لا يتخطى أفقهم العقلي التصورات الفلسفية الغربية يتخيلون عادة أنه حيثما لا يمت الأمر إلى الخلق، وحيث يبدو مع ذلك جليًّا، من ناحية أخرى، أنه لا يتعلق بنظريات مادية، لا يمكن الوقوع إلا على "الحلولية" panthéisme. بيد أنه معلوم إلى أي حدٍّ باتت هذه الكلمة، في زماننا، غالبًا ما تُستعمَل خبط عشواء: فهي عند بعضهم تمثل فزاعة حقيقية، حتى إنهم يظنون أنفسهم مَعفيِّين من الفحص الجدي عن الشيء الذي يسارعون إلى تطبيقها عليه (واستعمال تعبير "الوقوع في الحلولية" بهذا الشيوع دليل مميِّز بهذا الخصوص)، في حين أن بعضهم الآخر – على الأرجح لهذا السبب بالذات أكثر منه لأي دافع آخر – يتبنونها عن طيب خاطر، وهم متأهبون تمامًا لاتخاذها نوعًا من الراية التي يلوحون بها. ومنه، من الواضح نوعًا ما أن ما قلناه لتوِّنا يرتبط وثيق الارتباط، في فكر كلا الفريقين، بتهمة "الحلولية" التي تُرمى بها عمومًا تلك المذاهب المشرقية بعينها والتي يعفينا تبياننا المتكرر لضلالها التام، بل وحتى لعدم معقوليتها (بما أن الحلولية في واقع الأمر نظرية ضد ميتافيزيقية أساسًا)، من لزوم الوقوف عندها مرة أخرى أيضًا[1].

بما أن المناسبة ساقتنا إلى الكلام على الحلولية، سننتهزها لنبدي على الفور ملحوظة، تتصف هنا بشيء من الأهمية، بخصوص كلمة معينة من عادة القوم أن يقرنوها بالتصورات الحلولية: هذه الكلمة هي كلمة "صدور" émanation التي يصر بعضهم – للأسباب عينها أيضًا ومن جراء الالتباسات عينها – على استعمالها للإشارة إلى التجلِّي حين لا يتبدى في صورة الخلق. بيد أن هذه الكلمة، على الأقل حين توصف بها المذاهب النقلية الأرثوذكسية حصرًا، يجب إقصاؤها إقصاءً مطلقًا، ليس بسبب هذا الاقتران المؤسف فقط (وسيان إنْ كان له في الواقع ما يبرِّره عمقيًّا إلى حدٍّ ما أو لا، فالأمر لا يهمُّنا فعليًّا)، لكنْ بالأخص لأنها، بحدِّ ذاتها وبحدِّ مغزاها الاشتقاقي، لا تعبِّر حقيقةً عن شيء آخر غير محض استحالة. وبالفعل، فإن فكرة "الصدور" هي حصرًا فكرة "خروج"؛ لكنما يجب عدم النظر في التجلِّي من أي وجه على هذا النحو، إذ ما من شيء يمكن له حقًّا أن "يخرج" من المبدأ: فلو قُيِّض لأي شيء أن يخرج منه، لما عاد يجوز لهذا المبدأ، إذ ذاك، أن يكون لانهائيًّا، ولَتحدَّد بواقع التجلِّي بالذات؛ فالحقيقة هي أنه لا يوجد خارج التجلِّي، ولا يمكن لشيء أن يوجد خارجه، إلا العدم المحض. وحتى لو أراد القوم النظر إلى "الصدور"، لا من حيث المبدأ الأعلى اللانهائي، لكنْ من حيث الوجود Être – المبدأ المباشر للتجلِّي – وحسب، لأثار هذا المصطلح اعتراضًا، وإنْ يكن مختلفًا عن الاعتراض السابق، فهو ليس أقل حسمًا: فلو اتفق للموجودات أن "تخرج" من الوجود لكي تتجلى، لما جاز القول بأنها موجودات حقًّا، ولعدمت حصرًا كل كون existence، حيث إن الكون، أيًّا ما كانت كيفيته، لا يمكن له أن يكون شيئًا آخر غير تطبُّع بالوجود؛ وهذه النتيجة، فضلاً عن كونها بوضوح غير معقولة بحدِّ ذاتها (كما في الحالة الأخرى)، تتناقض أصلاً مع فكرة التجلِّي نفسها.

أما وقد سقنا هذه الملحوظات، سنقول بصريح العبارة إن فكرة التجلِّي، كما تنظر إليها المذاهب المشرقية نظرة ميتافيزيقية بحتة، لا تتعارض بتاتًا مع فكرة الخلق؛ بل الصحيح أن الفكرتين تعودان فحسب إلى مستويين مختلفين وإلى وجهتَي نظر مختلفتين، بحيث تكفي معرفة موقع كلٍّ منهما في مكانها الحقيقي حتى يتبين أنه لا يوجد بينهما أي تنافُر. فالاختلاف هاهنا، كالاختلاف على العديد من النقاط الأخرى، ليس في الحاصل إلا الاختلاف إياه بين وجهتَي النظر الميتافيزيقية والدينية؛ ولئن صح أن وجهة النظر الأولى من رتبة أعلى من الثانية وأعمق، لا يقل صحة أنها لا يجوز بتاتًا أن تعطل الثانية أو أن تُناقضها؛ وحسبنا برهانًا على ذلك أن كلتاهما جميعًا يمكن لهما فعلاً أن توجدا سوية ضمن الشكل النقلي نفسه (ستكون لنا على كل حال عودة إلى ذلك لاحقًا). فالأمر، من حيث العمق، ما هو إذن إلا اختلاف ليس، على كونه من درجة أكثر تشديدًا بسبب التباين الواضح جدًّا بين المجالين الموافقين، أكثر خرقًا للمألوف ولا أكثر إحراجًا من الاختلاف بين وجهتَي النظر المتباينتين اللتين يجوز شرعًا اتخاذ كلٍّ منهما في مجال بعينه، وذلك تبعًا لدرجة عمق التوغل فيه. تخطر ببالنا هنا، مثلاً، وجهتا نظر من نحو وجهتَي نظر شنكراتشاريا ورامانوجا بخصوص الـڤيدنتا[2]؛ فالصحيح أن عدم الفهم أصر، هناك أيضًا، أن يجد تناقضات لا أساس لها من الصحة في الواقع؛ لكن ذاك بالذات ليس من شأنه إلا أن يجعل المقايسة أدق وأتم.

إلى ذلك، يجدر التدقيق في معنى فكرة الخلق بالذات، من حيث إنها، هي الأخرى، تفسح في المجال أحيانًا لشتى ضروب سوء الفهم: إذا كان فعل "خَلَقَ" مرادفًا لـ"أوجَد من عدم"، وذلك تبعًا للتعريف المقبول بالإجماع، ولكنْ غير الموضح كفاية ربما، يجب قطعًا أن نعني به، قبل كل شيء، عدم وجود شيء خارج المبدأ؛ بعبارة أخرى، فإن المبدأ، وإنْ يكن "خالقًا"، غني بذاته، فلا حاجة له إلى الاستعانة بنوع من "الجوهر" substance الواقع خارج ذاته والمتصف بكون مستقل إلى حدٍّ ما، الأمر الذي يبقى في الحاصل – والحق يقال – غير قابل للتصور. ومنه، نرى على الفور أن العلة الأولى لوجود مثل هذه الصياغة هي التأكيد صراحة أن المبدأ ليس البتة مجرد "ديميورغوس" Démiurge ["إله مصوِّر"[3]] (وهنا لا حاجة للتمييز إنْ كان المقصود هو المبدأ الأعلى أو هو الوجود، لأن ذلك يصح على كلتا الحالتين على حدٍّ سواء)؛ غير أن هذا لا يعني بالضرورة أن كل تصوُّر "ديميورجي" هو تصوُّر مغلوط جذريًّا؛ لكنه، على كل حال، تصوُّر لا يجوز أن يطبَّق إلا على مرتبة أدنى بكثير تُوافق وجهة نظر أضيق بكثير؛ تصوُّر، إذ لا يقع إلا في طور معين ثانوي من السيرورة الكوسموغونية[4]، تراه لا يعود يمس المبدأ ولا ومن وجه. والآن، إذا تقيد القوم بالكلام على "الإيجاد من عدم" من غير مزيد من التدقيق، كما جرت العادة، فثمة خطر آخر لا مناص من تفاديه: ألا وهو النظر إلى هذا "العدم" بوصفه نوعًا من المبدأ الذي، وإنْ يكن سلبيًّا أغلب الظن، يصدر عنه بالفعل الكونُ المتجلِّي؛ إذ إن في ذلك عودة إلى ضلالة تكاد أن تكون مشابهة للضلالة التي أرادوا الاحتراس منها بنسبتهم إلى "العدم" ذاك نوعًا من "الجوهرية"؛ وهذه الضلالة، بمعنى ما، قد تكون أفدح حتى من الأخرى، من حيث إنه ينضاف إليها تناقُض صوري، هو عبارة عن إضفاء حقِّية ما على "العدم"، أي في الحاصل على عدم الوجود. فإنْ زعم القوم، تفاديًا لهذا التناقض، أن "العدم" المقصود ليس العدم المحض، بل إنه ليس عدمًا إلا بالنسبة إلى المبدأ، لارتكبوا بذلك أيضًا غلطًا مزدوجًا: فهم يفترضون هذه المرة، من ناحية، وجود شيء يتصف بالحقِّية فعلاً خارج المبدأ، وعندئذ لا يعود هناك أي اختلاف حقيقي مع التصور "الديميورجي" نفسه؛ وهم يتجاهلون، من ناحية أخرى، أن الموجودات ليست صادرة بتاتًا عن هذا "العدم" النسبي عبر التجلِّي، من حيث إن المنتهي لا يكف أبدًا عن كونه معدومًا بحتًا في مرأى من اللانهاية.

في ما قيل لتوِّه، وفي كل ما قد يقال غيره بخصوص فكرة الخلق أيضًا، ثمة، من حيث الطريقة التي يُنظَر بها في التجلِّي، شيء ناقص، لكنه مع ذلك أساسي للغاية: إنه بالذات مفهوم الإمكان possibilité الذي لا يظهر فيها؛ لكن هذا – فليُلحظْ جيدًّا – ليس مأخذًا البتة، ومثل هذه النظرة، على كونها ناقصة، ليست بذلك أقل شرعية، لأن مفهوم الإمكان هذا، في حقيقة الأمر، لا موجب لتدخُّله إلا حين تُتَّخذ وجهةُ النظر الميتافيزيقية، بينما ليست وجهة النظر هذه، كما سبق لنا أن قلنا، هي المتخَذة حين يُنظر في التجلِّي على أنه خلق. فالتجلِّي – ميتافيزيقيًّا – يفترض سلفًا بالضرورة وجود ممكنات معينة قادرة أن تتجلى؛ لكنه إذا انبثق هكذا عن الإمكان، لا يجوز أن يقال بأنه يأتي من "العدم"، لأن من الواضح أن الممكن ليس "معدومًا". رُبَّ معترض يقول: ألا يناقض ذلك بالدقة فكرة الخلق ["الإيجاد من عدم"]؟ والجواب سهل للغاية: جميع الممكنات محتواة في الممكن الكلِّي الذي ليس إلا واحدًا مع المبدأ بذاته؛ وإذن ففيه بالذات، في المحصلة، تكون هذه الموجودات محتواة حقًّا على حالها الدائمة ومنذ الأزل؛ ولو كان الأمر على غير ذلك في الواقع، لكانت عندئذ في حقيقة الأمر "عدمًا"، ولما صح الكلام أصلاً على "ممكنات". ومنه، إذا كان التجلِّي ينبثق عن هذه الممكنات أو عن بعضها (ولنذكِّر هنا أنه، فضلاً عن ممكنات التجلِّي، لا بدَّ أيضًا من النظر في ممكنات عدم التجلِّي، في المبدأ الأعلى على الأقل، ولكنْ ليس بعدُ حين يقتصر الكلام على الوجود)، فهو لا يأتي من شيء يكون خارج المبدأ؛ وذلك بالضبط المعنى الذي أقررنا به لفكرة الخلق مفهومةً حقَّ فهمها، بحيث إن وجهتَي النظر ليستا عمقيًّا قابلتين للتوفيق بينهما وحسب، بل هما حتى على توافُق تام. إلا أن الفارق بينهما يتلخص في أن وجهة النظر التي تعود إليها فكرة الخلق لا تنظر في أي شيء يتعدى التجلِّي، أو على الأقل لا تنظر إلا في المبدأ من غير مزيد من التعمق، لأنها مازالت بعدُ وجهة نظر نسبية، بينما من وجهة النظر الميتافيزيقية، على العكس، يكون ما هو ضمن المبدأ، أي الإمكان، هو الأساس في الواقع، وهو ما يهم أكثر بكثير من التجلِّي بحدِّ ذاته.

يجوز قولنا، في المحصلة النهائية، بأننا بصدد تعبيرين مختلفين عن حقيقة واحدة، شريطة أن نضيف، بالطبع، أن هذين التعبيرين يوافقان وجهين أو وجهتَي نظر هما في واقع الحال مختلفتين حقًّا؛ ولكن يحق للمرء عندئذ أن يتساءل إنْ لم يكن أتم هذين التعبيرين وأعمقهما كافيًا تمامًا، وما هي علة وجود التعبير الآخر: إنها، بادئ ذي بدء وعلى وجه العموم، علة وجود كل وجهة نظر ظاهرية exotérique بالذات، بوصفها صياغة للحقائق النقلية المقتصرة على ما لا غنى عنه للبشر قاطبة وفي الوقت نفسه متاح لهم من غير تمييز. ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بالحالة الخاصة التي نحن بصددها، قد توجد دوافع "سانحة"، إذا جاز القول، تخص أشكالاً نقلية بعينها، وذلك بسبب الظروف العَرَضية التي يجب أن تتكيف معها والتي تتطلب احتراسًا صريحًا من أي تصوُّر لأصل التجلِّي بكيفية "ديميورجية"، في حين أن اتخاذ حيطة مشابهة قد يكون غير ضروري مطلقًا في مكان آخر. غير أن المرء، حين يلحظ أن فكرة الخلق ملازمة بالدقة لوجهة النظر الدينية حصرًا، قد يسوقه هذا إلى التفكير في ضرورة وجود شيء آخر أيضًا؛ وهذا ما بقي علينا أن نفحص عنه الآن، حتى إذا لم يكن ممكنًا لنا التوسع في جميع القضايا التي قد يتيح هذا الجانب من المسألة الدخول فيها.

سيان إنْ كان المقصود هو التجلِّي منظورًا إليه ميتافيزيقيًّا أو كان الخلق، فإن الاتكال التام للموجودات المتجلِّية على المبدأ، في كل ما هي عليه حقًّا، مؤكَّد عليه، في وضوح وصراحة على حدٍّ سواء، في كلتا الحالتين؛ إنما مقدار الدقة التي يُنظَر بها في هذا الاتكال في كلٍّ منهما هو الذي يُظهر فارقًا مخصوصًا، يوافق بدقة شديدة الفارق بين وجهتَي النظر المذكورتين. فهذا الاتكال، من وجهة النظر الميتافيزيقية، هو في الوقت نفسه "تطبُّع" participation: فالموجودات كلها، بمقدار ما فيها من الحقِّية في ذاتها، متطبِّعة بالمبدأ، بما أن كل حقِّية مستمَدة منه أصلاً؛ إلى ذلك، لا يقل صحة أن هذه الموجودات، بوصفها عَرَضية ومحدودة، شأنها شأن التجلِّي بأسره التي هي جزء منه، معدومة بالنسبة إلى المبدأ، كما قلنا أعلاه؛ لكن ثمة في هذا التطبُّع شيء من قبيل الصلة مع المبدأ – وبالتالي، صلة بين المتجلِّي وغير المتجلِّي – هي التي تتيح للموجودات تخطِّي شرط النسبية الملازم للتجلِّي. أما وجهة النظر الدينية فهي، على العكس، تصر بالحري على العدمية التي تتصف بها الموجودات المتجلِّية، وذلك لأن وجهة النظر هذه، بحُكم طبيعتها، ليس من شأنها أن تقودها إلى ما يتعدى شرط التجلِّي؛ وهي تتضمن النظر إلى الاتكال من منظار يوافقه عمليًّا موقف العبودية servitude، على حدِّ الاصطلاح العربي الذي لا يؤديه معنى الكلمة الفرنسية المقابلة له، أغلب الظن، إلا تأدية ناقصة نوعًا ما بهذا المؤدى الديني حصرًا، لكنه يؤديه بما يكفي للسماح بفهمه فهمًا أفضل مما تفعل كلمة adoration (التي تقابل في الواقع بالأحرى مصطلحًا آخر مشتقًّا من الجذر [العربي] نفسه: العبادة)؛ مهما يكن من أمر، فإن حال العبد، منظورًا إليها على هذا النحو، هي حصرًا شرط "المخلوق" حيال "الخالق".

ومادمنا قد استعرنا لتوِّنا مصطلحًا من لغة المنقول الإسلامي، فلنضف ما يلي: لا يجرؤ أحد جزمًا على التشكيك في أن الإسلام، من حيث وجهه الديني أو الظاهر، يقول بالخلق، على أقل تقدير بقدر ما يمكن للمسيحية نفسها أن تقول به؛ ومع ذلك، فهذا لا يحول بتاتًا دون الإسلام، في وجهه الباطن ésotérique، ووجودَ مستوى معين تختفي فكرة الخلق اعتبارًا منه. كذا فإن هناك عبارة يكون الصوفي (وليُنتبَه جيدًا إلى أن المقصود هنا ليس مجرد متصوف) تبعًا لها منزهًا عن الخلق: "الصوفي لم يُخلَق"؛ ومؤدى هذا القول هو أن حاله تتعدى شرط "المخلوق". فالصوفي، بالفعل، بوصفه قد تحقق بـ"الهوية المطلقة" Identité Suprême، وبالتالي، اتحد فعلاً بالمبدأ غير المخلوق، لا يمكن له بالضرورة أن يكون إلا "غير مخلوق". إن وجهة النظر الدينية، هاهنا، قد تم تخطيها بما لا يقل ضرورة، لتحل محلها وجهة النظر الميتافيزيقية البحتة؛ ولكن إذا كان جائزًا لوجهتَي النظر كلتيهما أن تتوازيا على هذا النحو في المنقول إياه، كلٍّ منهما على المرتبة التي تناسبها وفي المجال الموافق لها حصرًا، فذاك يبرهن بكل وضوح أنهما غير متعارضتين أو غير متناقضتين من أي وجه.

نحن نعلم أن من المحال أن يوجد تناقُض فعلي، إنْ ضمن المنقول الواحد وإنْ بين هذا المنقول وبين المنقولات الأخرى، بما أن هذه كلها ليست إلا تعبيرات متنوعة عن الحقيقة الواحدة. فإذا عنَّ لأحدهم أن يرى بينها تناقضات ظاهرية، أفليس عليه أن يستنتج من ذلك، بكل بساطة، أن ثمة في الأمر شيئًا لا يفهمه حق فهمه أو يفهمه فهمًا ناقصًا، بدلاً من أن يدعي رمي المذاهب النقلية نفسها بعيوب ليست موجودة، في الواقع، إلا من جراء قصوره العقلي هو؟

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, X-1937, pp. 325-333 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 88-101.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] بخصوص الحلولية، راجع: ابن عربي، "الرسالة الوجودية"، بتقديم ديمتري أڤييرينوس: "التصوف والحلولية"، سماوات: http://samawat.org/texts/epistle_of_unity_ibn_arabi. (المحرِّر)

[2] كلمة ڤيدنتا Vēdanta السنسكريتية تعني "غاية الڤيدا" وتشير إلى تأويل الحقيقة الكلية، المعبَّر عنها في أسفار الڤيدا، في ضوء الأوپنشاد؛ والڤيدنتا هو أحد المذاهب الستة الكبرى في المنقول الهندوسي. يُعَد شنكراتشاريا ("المعلم شنكرا"، 788-820) صاحب مذهب أدڤيتا advaita ("التوحيد المنزِّه" أو اللاثنوي) في الڤيدنتا الذي يشدد على الوحدة بين الذات أو الروح الفردية (آتمن Ātman) وبين الحق المطلق (برهمن Brahman)؛ أما رامانوجا (ت 1137)، فهو صاحب مذهب ڤششتادڤيتا vishishtadvaita ("التوحيد المشبِّه") الذي يعلِّم أن المرء، إذا سلَّم أمره لمشيئة الحق، يستطيع أن ينال ببركته الخلاص. بعبارة أخرى، يقول شنكرا، بالمصطلح الإسلامي، بوحدة الحق والخلق (= "وحدة الوجود" الأكبرية) من منطلق خبرته العرفانية (جنيانا jñāna)، بينما يقول رامانوجا بالاثنينية من منطلق خبرته التعبدية (بهكتي bhakti). كتب كلاهما، في ضوء مذهبه، شروحًا على أسفار الـبرهماسوترا والأوپنشاد والـبهگڤدگيتا. (المحرِّر)

[3] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. والديميورغوس dêmiourgos: تسمية تشير في الأفلاطونية والغنوصية إلى الإله الأدنى الذي شكَّل العالم وصوَّره. (المحرِّر)

[4] الكوسموغونيا kosmogonia: من اليونانية، كوسموس kosmos، "العالم"، وغونوس gonos، "نشوء"؛ والمقصودة هي السيرورة المتدرجة لنشأة الكون على أطوار ومراتب. (المحرِّر)

علم الكف في التصوف الإسلامي – رونيه گينون

علم الكف في التصوُّف

الإسلامي*

رونيه گينون**

أتيحَ لنا في مناسبات عدة أن نبيِّن إلى أي حدٍّ صار تصوُّر "العلوم النقلية" sciences traditionnelles، في الأزمنة الحديثة، غريبًا بنظر أهل الغرب، وإلى أي حدٍّ بات صعبًا عليهم فهمُ طبيعتها الحقيقية. ولقد وقعنا، مؤخرًا، على مثال على عدم الفهم هذا في دراسة مخصصة لمحيي الدين بن عربي، استغرب كاتبها أن يجد عند الشيخ الأكبر، إلى جانب المذهب الروحي الخالص، استطرادات عديدة في النجامة astrologie، في علم الحروف وحساب الجُمَّل، في الهندسة الرمزية، وفي أمور أخرى عديدة من الرتبة عينها، يبدو أنه ارتأى أنها لا تمتُّ بقربى إلى هذا المذهب. والواقع أنه وقع في التباس مزدوج: إذ إنه قدَّم أيضًا الجانب الروحي حصرًا من تعليم سيدي محيي الدين بالذات على أنه "سرَّاني" mystique، في حين أنه تعليم ميتافيزيقي ومُسارَري initiatique أساسًا[1]؛ فلو كان المقصود عبارة عن "سرَّانية"، لما كان له بالفعل متاتٌ بقربى إلى أي "علوم"، مهما تكن. بينما، على العكس، بمجرد أن يتعلق الأمر بعقيدة ميتافيزيقية، فإن هذه العلوم النقلية (التي يجهل كاتبنا قيمتها، في واقع الأمر، جهلاً تامًّا، وذلك تبعًا للحكم المسبق المُحدَث المألوف) تُشتق من هذه العقيدة اشتقاقًا سويًّا، مثلما تُشتق النتائج من المبدأ، وهي، بهذه المثابة، أبعد ما تكون عن تمثيل عناصر دخيلة وغير متجانسة، إذا جاز القول، بل هي جزء لا يتجزأ من التصوف، أي من جملة المعارف المُسارَرية.

معظم هذه العلوم النقلية اليوم ضاع على أهل الغرب ضياعًا تامًّا، وهم لا يعرفون مما تبقى منها غير بقايا متفاوتة في الابتسار، متدنِّية غالبًا، إلى حدِّ أنها اتخذت هيئة وصْفات تجريبية أو مجرد "فنون تكهنية" arts divinatoires، مجردة بطبيعة الحال من كل قيمة عقيدية. وحتى نُفهم [قارئنا][2] من خلال مثال مقدارَ بُعد مثل هذه الطريقة في النظر إليها عن حقيقة الأمر، سنورد فيما يلي بضعة دلائل على ماهية علم الكف chirologie في التصوف الإسلامي؛ وهو علم ليس في الواقع غير فرع واحد من فروع علم الفراسة physiognomonie العديدة، مع أن هذه الكلمة [الفرنسية]، نظرًا لعدم وجود مصطلح أفضل، لا تؤدي بالدقة كل إحاطة المصطلح العربي الذي يدل على جملة هذه المعارف[3].

يرتبط علم الكف، في شكله الإسلامي، مهما بدا ذلك غريبًا بنظر الذين يعدمون أي مفهوم عن هذه الأمور، بعلم الأسماء الإلهية ارتباطًا مباشرًا: يرسم تنسيق الخطوط الرئيسية على كف اليد اليسرى العدد 81 وعلى كف اليد اليمنى العدد 18، أي ما مجموعه 99، عدد أسماء الله الصفاتية. أما اسم "الله" نفسه، فتشكِّله الأصابع على النحو التالي: الخنصر يقابل الألف، البنصر يقابل اللام الأولى، الوسطى والسبابة تقابلان اللام الثانية، المشددة، والإبهام يقابل الهاء (التي يجب أن تُرسَم، طبقًا للأصول، على صورتها "المفتوحة")؛ وذاك هو السبب الرئيسي لاستعمال اليد كرمز، ولانتشاره كل هذا الانتشار في جميع الأقطار الإسلامية (حيث يشير سبب ثانوي إلى العدد 5، ومنه اسم "خُمْس" الذي يُطلَق أحيانًا على هذه اليد الرمزية). وبذلك يمكن لنا أن نفهم هذا القول من سفر سيدنا أيوب: "… فيختم على يد كل بشر ليعلَم البشرُ ما صَنَعَه" (أيوب 37: 7)؛ ولنضف بأن هذا لا يعدم صلةً بدور اليد الأساسي في شعائر التبريك والتكريس[4].

"خمس" نموذجي من مصر، مرسومة في وسطه "شجرة الحياة".

من ناحية أخرى، فإن من المعلوم عمومًا وجود تقابُل بين مختلف أجزاء اليد وبين الكواكب؛ وهذا التقابل قد حافظ عليه علم الكف الغربي نفسه، لكنْ بطريقة لم يعد يستطيع أن يرى فيه من خلالها غير مجرد تسميات اتفاقية، في حين أنه، في واقع الأمر، يعقد صلة فعلية بين علم الكف والنجامة. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل فلك من أفلاك الكواكب السبعة يقوم عليه واحد من الأنبياء الكبار ويكون منه بمثابة "القطب"؛ والصفات والعلوم التي تعود بالأخص إلى كلٍّ من هؤلاء الأنبياء على علاقة مع التأثير النجمي الموافق. أما جدول أقطاب الأفلاك السبعة فهو التالي:

الفلك

النبي القطب

فلك القمر

سيدنا آدم

فلك عطارد

سيدنا عيسى

فلك الزهرة

سيدنا يوسف

فلك الشمس

سيدنا إدريس

فلك المريخ

سيدنا داود

فلك البرجيس [المشتري]

سيدنا موسى

فلك الكيوان [زحل]

سيدنا إبراهيم

ويختص سيدنا آدم بالفلاحة (راجع سفر التكوين 2: 15: "وأخذ الربُّ الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها")؛ سيدنا عيسى بالمعارف من رتبة روحية خالصة؛ سيدنا يوسف بالجمال والفنون؛ سيدنا إدريس بالعلوم "الوسيطة"، أي العلوم من رتبة كوسمولوجية ونفسانية؛ سيدنا داود بالحُكم والإمامة؛ سيدنا موسى، الذي يقترن به دومًا أخوه سيدنا هارون، بأمور الدين بوجهيه: الشرع والعبادات؛ سيدنا إبراهيم بالإيمان (الذي بخصوصه يجب الربط بين هذا التقابل مع الفلك السابع وبين ما ذكرناه مؤخرًا بخصوص دانتي، من حيث مقامه في أعلى درجات السلَّم المُسارَري السبع [للتنظيم الهيكلي المعروف في وقته بـ"الإيمان المقدس" Fede Santa الذي يقال إن الشاعر، مؤلِّف الكوميديا الإلهية، كان من رؤسائه، على رتبة قدوش Kadosch، وهي كلمة عبرية تعني "قدوس" أو "مكرَّس"][5]).

رسم مأخوذ من مخطوط وسيطي يمثل الحاج الزاهد وقد بلغ في معراجه "فلك النجوم الثابتة" وأطل منه على "الفلك المحيط"، حيث صار بإمكانه معاينة "المحرك الأول" (ممثلاً بالعجلة) الذي يدير حركة الكون بأسره في الاتجاهات كلها.

بالإضافة إلى ما سبق، يتوزع حول هؤلاء الأنبياء الكبار، على أفلاك الكواكب السبعة، الأنبياء الآخرون المعلومون (أي الواردة أسماؤهم في القرآن الكريم، وعددهم 25) والمجهولون (أي جميع الآخرين، حيث عدد الأنبياء وفقًا لما يورده المأثور هو 124000).

والأسماء الـ99 التي تعبِّر عن الصفات الإلهية موزعة هي الأخرى تبعًا لهذا السباعي: 15 على فلك الشمس، نظرًا لموقعه المركزي، و14 على كلٍّ من الأفلاك الستة الأخرى: 15 + (6 في 14) = 99. وقراءة العلامات على جزء اليد المقابل لأحد الكواكب تدل على نسبة (س/14 أو س/15) اتصاف الفرد بالصفات العائدة لهذا الكوكب؛ وهذه النسبة عينها توافق عددًا مساويًا (س) من الأسماء الإلهية بين الأسماء الخاصة بالفلك الكوكبي المقصود؛ وهذه الأسماء يمكن فيما بعد تعيينها بواسطة حساب هو في الواقع طويل للغاية وشديد التعقيد.

رسم يمثل خطوط اليد وعلاقة أجزائها بالكواكب والبروج.

ولنضف أنه في ناحية المعصم، فوق اليد بحصر المعنى، يتوضع التقابل مع الفلكين الأعليَين، فلك النجوم الثابتة والفلك المحيط، اللذين، مع أفلاك الكواكب السبعة، يُتمان العدد 9[6]. إلى ذلك، تقع في مختلف أجزاء اليد البروج signes du Zodiac الـ12، ذات العلاقة مع الكواكب التي تشغل هذه البروج (برج واحد لكلٍّ من الشمس والقمر، برجان اثنان لكلٍّ من الكواكب الخمسة الأخرى)، وكذلك أشكال علم الرمل[7]؛ إذ إن جميع العلوم النقلية وثيقة الارتباط بعضها ببعض.

مخطوط يبين أشكال علم الرمل في علاقتها مع الطبائع الأربعة والجهات الأربع والحروف.

تدل قراءة اليد اليسرى على طبيعة الفرد، أي على جملة الميول والاستعدادات أو الإمكانات التي تكوِّن بنوع ما صفاته الفطرية. وتعرِّف قراءة اليد اليمنى بصفاته المكتسَبة؛ وهذه تتغير في الواقع تغيرًا مستمرًّا، بحيث إن القيام بدراسة موصولة يحتم إعادة هذه القراءة كل أربعة أشهر. وفترة الشهور الأربعة هذه تؤلف، بالفعل، دورة تامة، بمعنى أنها تفضي للعودة إلى برج يوافق الطبع [العنصر] نفسه الذي جرى الانطلاق منه؛ ومعلوم أن هذا التوافق مع الطبائع [العناصر] يجري بحسب الترتيب المتوالي التالي: نار، تراب، هواء، ماء. فمن الغلط إذن أن يُظن، كما فعل بعضهم، أن الفترة المقصودة لا يجوز أن تكون غير ثلاثة أشهر، لأن فترة الشهور الثلاثة توافق فصلاً فحسب، أي جزءًا من الدورة السنوية، وهي ليست بحدِّ ذاتها دورة تامة.

تبيِّن الدلائل القليلة السابقة، على إيجازها، كيف أن العلم النقلي الناشئ نشأة نظامية يرتبط بالمبادئ من رتبة عقيدية ويتوقف عليها تمامًا؛ ومن شأنها، في الوقت نفسه، أن تُفهم ما سبق لنا أن قلناه مرارًا وتكرارًا من أن علمًا كهذا مُحكم الارتباط بشكل نقلي معين، بحيث إنه غير قابل للاستعمال مطلقًا خارج نطاق الحضارة التي أنشِئ من أجلها على هذا الشكل بعينه. فهاهنا، على سبيل المثال، من شأن الاعتبارات العائدة للأسماء الإلهية والأنبياء – وهي بالدقة الاعتبارات التي يقوم عليها كل ما تبقَّى – ألا تكون قابلة للتطبيق خارج نطاق العالم الإسلامي حصرًا، مثلما أن حساب النيم calcul onomantique، كمثال آخر، المستعمَل إما على حدة وإما كعنصر من عناصر قراءة الطالع في بعض طُرُق النجامة، لا يصح إلا على الأسماء العربية التي لكلٍّ من حروفها قيمة عددية معلومة[8]. فثمة دومًا، في رتبة التطبيقات العَرَضية هذه، مسألة "تكييف" تجعل من المُحال نقل هذه العلوم كما هي من شكل نقلي إلى آخر؛ وذاك، أغلب الظن، واحد من أسباب صعوبة فهمها على مَن ليس عندهم ما يكافئها في حضارتهم، شأن أهل الغرب المُحدَثين[9].

مصر، 18 ذي العقدة 1350 هـ (مولد سيد علي البيومي).

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, mai 1932, pp. 289-295 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 68-75.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "موقع المُسارَرة من علم الباطن"، سماوات: http://samawat.org/essays/esotericism_initiation_dna. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] من إضافة المترجم إلى النص بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[3] "الفراسة"، من الفعل الثلاثي فَرَسَ، تثبيت النظر وإدراك الباطن من نظر الظاهر؛ ومنه، جاء في الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". راجع أيضًا: توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، دار قدمُس، دمشق، طب 1: 2007، ص 271-300. (المحرِّر)

[4] جدير بالذكر أن المُسارَرة ("البيعة" الصوفية) تتم بمنح بركة السلسلة الروحية ("الروح القدس" بالمصطلح المسيحي) للمريد عبر اليد بوضعها إما على يافوخ الرأس أو الوجه، وإما بشبك الأيدي بين الشيخ والمريد (وهذا هو المدلول الروحي للآية 10 من سورة الفتح بخصوص "بيعة الرضوان": "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم")، وإما بطُرُق أخرى لا مجال هنا لإيرادها. ونضيف هنا، على سبيل الإشارة، أن عدد سلاميات أصابع اليد الواحدة هو 14 (4 + 1 = 5 = عدد أصابع اليد = عدد أركان الإسلام = الطبائع الأربعة + الأثير)، وفي كلا اليدين: 14 في 2 = 28 (8 + 2 = 10 = 5 في 2)، عدد الحروف العربية وحاصل الجمع الثيوصوفي لأعداد قيمتها الإجمالية (5995 = 9 + 5 + 5 + 9) وعدد منازل القمر (راجع: رونيه گينون، "ملحوظة في ملائكيات الأبجدية العربية"، سماوات: http://samawat.org/articles/angelology_arabic_alphabet_guenon)؛ كما أن القيمة العددية لكلمة يد في حساب الجُمَّل تساوي 14 (10 + 4). إلى ذلك، فإن لكلمة وجه القيمة العددية نفسها (6 + 3 + 5)، بما يشير، في سياقنا، إلى الصلة الشعائرية المذكورة بين اليد والوجه، حيث إن عدد عظام الوجه هو كذلك 14. (المحرِّر)

[5] Cf. René Guénon, L’ésotérisme de Dante, Gallimard, 1957, chap. II, pp. 13-14.

[6] وفقًا لكوسمولوجيا كوميديا دانتي ألجياري (1265-1321)، تنطلق النفس الإنسانية من الجحيم (وهي على هيئة مخروط مقلوب، مغروس في نصف كرة الأرض الترابي)، لتعرج صاعدةً، مرورًا بجبل المَطْهَر الواقع في نصف الكرة المائي (وجنة عدن على قمته)، فالأفلاك التسعة (أفلاك الكواكب السبعة + فلك النجوم الثابتة، حيث البروج + الفلك البلوري، حيث المحرك الأول Primum mobile)، وصولاً إلى سماء الفردوس، حيث مرفأ النور الإلهي المركوز في قلب وردة الغبطة السماوية؛ وفي ذروة رؤيا المعراج يُشاهَد الله في الوسط، تحيط به الأفلاك الملائكية التسعة. (المحرِّر)

بنيان الكوسمولوجيا عند دانتي: تنطلق النفس الإنسانية من الجحيم، لتعرج صاعدة، مرورًا بالمطهر، فالأفلاك السماوية التسعة، وصولاً إلى الفردوس.

[7] علم الرمل géomancie من فنون التكهُّن؛ وأساسه الاقتراع بقراءة الأشكال الـ16، المؤلفة من نقاط وشُرَط والناجمة عن "ضرب الرمل" على سطح مستو. راجع: فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، ص 149-152. (المحرِّر)

[8] راجع: "ملحوظة في ملائكيات الأبجدية العربية"، سماوات: http://samawat.org/articles/angelology_arabic_alphabet_guenon. (المحرِّر)

[9] المعطيات التي استفدناها أساسًا لهذه الملحوظات مستقاة من رسائل غير منشورة للشيخ سيد علي نور الدين البيومي، مؤسِّس الطريقة البيومية، الذي لا تزال مخطوطاته حاليًّا في عهدة أخلافه المباشرين.

الصلة بين الأبجدية العربية وعلم الملائكة – رونيه گينون

ملحوظة حول ملائكيات

الأبجدية العربية*

guenon

رونيه گينون**

يمثَّل العرش المحيط، كما يسهل فهمُه، برسم دائرة، في مركزها الروح، كما شرحنا ذلك في غير مكان[1]؛ والعرش يحمله ثمانية ملائكة يشغلون مواقعهم على محيط الدائرة: الأربعة الأولون عند الجهات الأربع الأصلية، والأربعة الآخرون عند الجهات الأربع الفرعية. وأسماء هؤلاء الملائكة الثمانية مشكَّلة من ثماني مجموعات من الحروف، مأخوذةً [وفق قواعد حساب الجُمَّل][2] تبعًا لترتيب قيمها العددية، بحيث إن جملة هذه الأسماء تضم حروف الأبجدية ككل.

بيد أن المقام هنا يجيز لنا إبداء ملاحظة: المقصودة بطبيعة الحال هي الأبجدية ذات الـ28 حرفًا؛ ولكن يقال إنه لم يكن للأبجدية العربية أولاً غير 22 حرفًا، تقابل بالضبط حروف الأبجدية العبرية؛ ومنه التمييز المعمول به بين الجفر الصغير، الذي لا يستعمل غير هذه الحروف الـ22، وبين الجفر الكبير، الذي يستعمل الحروف الـ28، آخذًا بها جميعًا مع قيم عددية متميزة. ويجوز القول، إلى ذلك، بأن الـ28 (8 + 2 = 10) محتوى في الـ22 (2 + 2 = 4)، مثلما أن الـ10 محتوى في الـ4، تبعًا لصيغة الرابوع Tétraktys الفيثاغورثي الشريف: 1 + 2 + 3 + 4 = 10[3]؛ والواقع أن الحروف الإضافية الستة ليست إلا حروفًا معدلة عن ستة من الحروف الأصلية التي تتشكل منها بمجرد إضافة نقطة وتُرَدُّ إليها فورًا بحذف هذه النقطة عينها. وهذه الحروف الإضافية الستة هي التي تؤلف المجموعتين الأخيرتين من المجموعات الثماني التي تكلمنا عليها لتوِّنا؛ ومن البيِّن أنه لو لم يكن يُنظَر إليها كحروف متميزة، لتبدلتْ هذه المجموعات، إنْ من حيث عددها وإنْ من حيث تأليفها. ومنه، لا بدَّ أن العبور من أبجدية الـ22 حرفًا إلى أبجدية الـ28 حرفًا قد ترافق بالضرورة بتغيير في أسماء الملائكة التي نحن بصددها، وإذن، بتغيير في "الكيانات" التي تشير إليها هذه الأسماء. ولكنْ، مهما بدا ذلك من الغرابة بنظر بعضهم، فمن السوي في الواقع أن يكون الأمر على هذا النحو: إذ إن جميع التعديلات على الأشكال النقلية، وبالأخص منها تلك التي تقع على بنيان ألسنتها الشريفة، لا مناص من أن تكون لها بالفعل "أنماط بدئية" archétypes في العالم السماوي.

أما وقد قيل ما قيل، فإن توزيع الحروف والأسماء هو التالي:

شرقًا

أبجد[4]

عند الجهات الأصلية

غربًا

هوز

الأربع:

شمالاً

حطي

جنوبًا

كلمن

شمال شرق

سعفص

عند الجهات الفرعية

شمال غرب

قرشت

الأربع:

جنوب شرق

ثخذ

جنوب غرب

ضظغ

يلاحَظ أن كلاً من هاتين الجملتين ذات الأربعة أسماء يحوي نصف الأبجدية بالضبط، أي 14 حرفًا، موزعةً على التوالي على النحو التالي:

في النصف الأول: 4 + 3 + 3 + 4 = 14

في النصف الثاني: 4 + 4 + 3 + 3 = 14

والقيم العددية للأسماء الثمانية، المشكَّلة من حاصل جمع قيم حروفها، مأخوذةً بالطبع على الترتيب أعلاه نفسه، هي:

[أبجد =] 1 + 2 + 3 + 4 = 10

[هوز =] 5 + 6 + 7 = 18

[حطي =] 8 + 9 + 10 = 27

[كلمن =] 20 + 30 + 40 + 50 = 140

[سعفص =] 60 + 70 + 80 + 90 = 300

[قرشت =] 100 + 200 + 300 + 400 = 1000

[ثخذ =] 500 + 600 + 700 = 1800

[ضظغ =] 800 + 900 + 1000 = 2700

وقيمة كل من الأسماء الثلاثة الأخيرة مساوية على الترتيب لقيمة كل من الأسماء الثلاثة الأولى مضروبةً بـ100؛ وهذا بطبيعة الحال بيِّن إذا لوحظ أن الأسماء الثلاثة الأولى تحوي الآحاد من 1 إلى 10 وأن الثلاثة الأخيرة تحوي المئين من 100 إلى 1000؛ والحروف في كلا المجموعتين موزعة توزيعًا متساويًا إلى 4 + 3 + 3.

قيمة النصف الأول من الأبجدية تساوي حاصل جمع قيم الأسماء الأربعة الأولى: 10 + 18 + 27 + 140 = 195.

بالمثل، فإن قيمة النصف الثاني تساوي حاصل جمع قيم الأسماء الأربعة الأخيرة: 300 + 1000 + 1800 + 2700 = 5800.

وأخيرًا، فإن القيمة الإجمالية للأبجدية ككل تساوي 195 + 5800 = 5995.

العدد 5995 هذا لافت للنظر بتناظره: قسمه الأوسط هو 99، عدد أسماء الله الصفاتية؛ والرقمان على طرفيه يشكلان العدد 55، الذي يساوي حاصل جمع الأعداد العشرة الأولى، حيث ينقسم المثنى إلى نصفيه (5 + 5 = 10)؛ فضلاً عن ذلك، فإن 5 + 5 = 10 و 9 + 9 = 18 هما القيمتان العدديتان للاسمين الأول والثاني.

من الممكن تبيُّن الطريقة التي يتم بها الحصول على العدد 5995 تبينًا أفضل بتوزيع الأبجدية، تبعًا لتقسيم آخر، إلى ثلاث متواليات ذات تسعة حروف، يُزاد عليها حرفٌ مفرد: حاصل جمع الآحاد، من 1 إلى 9، يساوي 45: القيمة العددية لاسم آدم (= 1 + 4 + 40 = 45، أي من منظور المراتب الباطنية: القطب الغوث في المركز، الأوتاد الأربعة عند الجهات الأربع الأصلية، النجباء الأربعون على المحيط[5])؛ حاصل جمع العشرات، من 10 إلى 90، يساوي 45 في 10؛ حاصل جمع المئين، من 100 إلى 900، يساوي 45 في 100؛ أما مجموع حواصل هذه المتواليات الثلاث التساعية فيساوي، إذن، حاصل جداء 45 في111 [= 1 + 10 + 100]، العدد "القطباني" الذي هو عدد حرف الألف [= 1 + 30 + 80 = قطب = 100 + 9 + 2] "مبسوطًا": 45 في 111 يساوي 4995؛ ثم لا بدَّ من إضافة عدد الحرف الأخير، 1000، واحدة الدرجة الرابعة التي تنهي الأبجدية، مثلما تبدؤها واحدة الدرجة الأولى، وبذا نحصل في الآخِر على 5995.

أخيرًا، فإن حاصل جمع أرقام هذا العدد يساوي 5 + 9 + 9 + 5 = 28، أي عدد حروف الأبجدية نفسه، الذي يمثل قيمتها الإجمالية.

بالوسع قطعًا التوسع في المزيد من الاعتبارات انطلاقًا من هذه المعطيات، لكن هذه المؤشرات القليلة كافية للتمكن، على أقل تقدير، من تحصيل لمحة عن بعض تطبيقات علم الحروف وعلم العدد في المنقول الإسلامي.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, VIII-IX, 1938, pp. 324-327 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 62-67.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] راجع: رونيه گينون، "الروح"، سماوات: http://samawat.org/articles/ruh_guenon. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] في النص من إضافة المترجم بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[3] Cf. René Guénon, « La Tétraktys et le carré de quatre », Études traditionnelles, avril 1937 ; repris dans Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 107-112.

[4] بطبيعة الحال، فإن كلاً من حرفَي الألف والباء، ككل حروف الأبجدية الأخرى، يشغل هنا موقع ترتيبه العددي: وهذا لا يمت بصلة إلى الاعتبارات الرمزية التي عرضنا لها في غير مكان والتي تخص كلاً منهما، فضلاً عن ذلك، بدور آخر أكثر خصوصية. [راجع: "الروح"، سماوات: http://samawat.org/articles/ruh_guenon. (المحرِّر)]

[5] "القطب – وقد يُسمى غوثًا باعتبار التجاء الملهوف إليه –: وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلَّسْم الأعظم من لَدُنْه؛ وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد؛ بيده قسطاس الفيض الأعم، وزنُه يتبع علمَه، وعلمُه يتبع علمَ الحق، وعلمُ الحق يتبع الماهيات غير المجعولة؛ فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل. وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته؛ وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية؛ وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها؛ وحكم عزرائيل كحكم القوة الدافعة فيها" (تعريفات الجرجاني)؛ "الأوتاد: هم الرجال الأربعة الذين على منازل الجهات الأربع من العالم، أي الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ بهم يحفظ الله – تعالى – تلك الجهات لكونهم محالَّ نظره تعالى" (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية)؛ "النجباء: وهم الأربعون المشغولون بحمل أثقال الخلق – وهي من حيث الجملة كل حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله –، وذلك لاختصاصهم بموفور الشفقة والرحمة الفطرية، فلا يتصرفون إلا في حق الغير؛ إذ لا مزيد لهم في ترقِّياتهم إلا من هذا الباب" (تعريفات الجرجاني). (المحرِّر)