في معنى الحياة والموت – ديمتري أڤييرينوس

حـيـاة… مــوت…

ديمتري أڤييرينوس*

الحياة طاقة تتجلى في ما لا يُحصى عددُه من الأشكال والبنى المتنوعة، وتختص بالقدرة على تَعْضِيَة organizing المادة (= منحها الخاصية العضوية). وحين تنسحب طاقة الحياة، يتوقف التعضِّي organization، وتأخذ البنية التي كانت تلك الطاقة تسري عبرها في التحلل – هذا ما يسميه الناس الموت.

وحين تسري طاقة الحياة من خلال البنى، يصير النمو أيضًا ممكنًا: الغرسة تصير شجرة، الجرو يصير كلبًا، الطفل يصير بالغًا، إلخ. ثم إن النمو يتم حسب نموذج محدد: حين يصاب جسم حي بجرح، فيتمزق اللحم، سرعان ما تبدأ عملية الالتئام؛ وهذه العملية تستدعي تكاثُر خلايا مختلفة، ذات مواصفات معينة خصيصًا للجزء المصاب من الجسم، حتى يعود إلى سابق شكله. مثال: إذا فقد ضبٌّ ذيله ينمو مكانه ذيل جديد، شكله شكل الذيل المفقود تمامًا. ومنه، يتم النمو والتجدد تبعًا لنموذج غير مرئي موجود سلفًا. لماذا تتفتح كل بذرة عن نوع مخصوص من الشجر؟ لماذا لا تفقس بيوض العندليب إلا عن عنادل؟ نماذج البنى الحية كلها موجودة قطعًا في مكان ما. فأين هي؟ هل هي موجودة ضمن فطنة الحياة نفسها؟ ربما، لأن هذه الطاقة المُعَضِّية organizing تتميز، على ما يبدو من سلوكها، بفطنة خارقة!

* * *

إلى ذلك، حيثما وُجدت الحياة وُجد الوعي، لكنْ على مراتب مختلفة، على درجات قد تزيد أو تنقص تعيُّنًا. الإحساس، أولاً، شكل من أشكال الوعي. إذ إن حدوث الوعي يفترض تماسًا مع "الخارج"؛ فعبر هذا التماس يُستقبَل في الداخل نوع من "رسالة" عن العالم الخارجي. على سبيل المثال، قد يدل إحساس لمسي على وجود شيء طري أو خشن في الخارج. الأحاسيس المختلفة محمَّلة برسائل مختلفة، يُتلقى من خلالها انطباع معين عن العالم الخارجي. وكلما ازداد تعقيد البنية، تعاظمتْ إمكانية الإدراك: من شأن الحياة في متعضِّية organism بدائية أن تعي بضعة أشياء وحسب لا غنى عنها لبقائها؛ أما البنى المتطورة، فثمة فيها توسُّع للوعي وللاستجابة. وحين تكف طاقة الحياة عن السريان ينعدم التماس، فينكفئ الوعي هو الآخر.

تزداد إمكانية الوعي، كما قلنا، مع تطور البنية. من المعلوم، مثلاً، أن النباتات حتى تتمتع بوعي أكبر مما كان يُظن ذات يوم؛ إنها لا تستجيب فقط للمنبهات الفيزيائية، كضوء الشمس مثلاً، بل تتجاوب كذلك مع الخواطر والمشاعر. وتبين اختبارات العالِم باكستر أنه حين تخطر فكرة "الحرق" في بال أحد على مقربة من نبتة، فإن النبتة تلتقطها وتستجيب؛ وقد سُجِّل ردُّ فعلها على مقياس گلڤاني[1]. والنبات أشد حساسية من أنواع أخرى أكثر بدائية من أشكال الحياة، وبالتالي، تتنوع ردود الفعل لديه أكثر. أما في بنية أعقد وأكثر تطورًا، مثل جسم الإنسان، فإن إمكانات الوعي أعظم بكثير لأن التماس يتم عبر أكثر من حاسة في وقت واحد؛ ومن هذا التماس يُتلقى مزيد من الانطباعات عن العالم الخارجي.

الوعي يتخذ شكل العاطفة أيضًا؛ فالشعور بالتعاطف حيال شيء ما يمكِّن المرء من التواصل مع ذلك الشيء. الإدراك الذهني كذلك شكل من أشكال التواصل؛ إنه القدرة على تمييز غرض من آخر عبر تعيين خواصه. الوعي في الكائن البشري يغطي، إذن، حقلاً واسعًا جدًّا، يشمل مختلف تلاوين الإحساس والشعور والإدراك الذهني.

وفي مرحلة متقدمة، يصير بمستطاع الوعي الإنساني عَقْلُ المجردات. لكن الوعي المحدود لا يستطيع غير إدراك الجزئيات، لا الكلِّيات. مثال على قدرة التجريد: الناس يرون زهورًا مختلفة من حيث الحجم والشكل واللون، لكنهم يطلقون عليها جميعًا تسمية "زهرة" لأن الزهور، على الرغم من اختلافاتها بعضها عن بعض، تشترك في صفة يصح أن نسميها "الزهرية". لقد تفكر الفلاسفة والعلماء، على مرِّ الأزمنة، في قضية الوحدة التي تنتظم الموجودات وفتشوا عنها؛ وقد توصلوا منطقيًّا إلى وجود الكلِّي المطلق، الأصل غير المتجلِّي الذي تتأصل فيه المتجليات جميعًا – "واجب الوجود بذاته" الذي تستمد منه الموجودات كافة وجودها والذي يكون الوعي لدى إدراكه متسنِّمًا ذروته.

لكن وعي وحدة الكلِّي المطلق ليس قضية تفكير، بل قضية اختبار؛ إذ إن ثمة أشياء لا يعرفها العقل إلا باختبارها. من الممكن للمرء أن يعي كرسيًّا بالنظر إليه وتحديد خصائصه، لكن السعادة لا تُعرَف على هذا النحو: إذ إن سعادة أحدهم لا يمكن لها أن تصير سعادة سواه؛ فكلٌّ يعرف السعادة باختبارها شخصيًّا وحسب. وهو لا يعرفها حقًّا إلا متى كانت الخبرة عميقة وصرفًا؛ فالسعادة الممزوجة بالإحباط أو السعادة السطحية ذات الطبيعة المؤقتة لا يجوز أن تُسمى سعادة حقيقية، كما يؤكد بعض الفلاسفة.

اختبار شيء اختبارًا تامًّا يعني اختباره بلا انقطاع. وإن وعي القيم الأزلية هو معرفة كنه الجمال والمحبة والسعادة من غير حدود. وتلك الخبرة تتوقف على المدى المتاح لطاقة الحياة حتى تسري سريانًا حرًّا من غير عوائق. فكما أشرنا أعلاه، كلما ازدادت حرية سريان الطاقة، تكشَّف الوعي عن قدراته – وضوحًا وحساسيةً وعمقًا وما إلى ذلك.

* * *

ربما لم تعد للبنية البشرية الحالية، التي هي ثمرة تطور ملايين السنين، من حاجة إلى تطور بيولوجي ملموس – لقرون قادمة على الأقل؛ إذ إن البنية الراهنة لا تزال قيد التطور: هناك، مثلاً، مساحات واسعة من قشرة المخ البشري ليست مستعمَلة بعدُ. لقد تنبأ تِلار دُه شاردان، منذ أكثر من ستين عامًا، بأن التطور المقبل للإنسان سيتم على الصعيد النفسي-الاجتماعي، لا على الصعيد الدماغي-البيولوجي البحت[2]؛ ما يعني أن إمكانات الإنسان المقبلة تكمن في مجال تفتُّح الوعي. فكما سبقت لنا الإشارة، الوعي هو التماس، هو تلقِّي انطباعات وعقد صلات؛ وحين يكون الوعي محدودًا تكون الصلات محدودة هي الأخرى. ولأن التماس قد يحصل على مستويات مختلفة، بما فيها مستويا الإحساس والفكر، أو على مستوى الكلِّي المطلق حتى، تختلف الصلات هي الأخرى من حيث النوعية والدرجة. فمَن يرَ في الزهرة شكلها المادي فقط قد يتلفها أو يستعملها كغرض تجاري بحت؛ لكنْ إذا قُيِّض له أن يبصر صفة الجمال في الزهرة فهو حتمًا لن يؤذيها. الإنسان الواعي جمال الزهرة وعيًا تامًّا لا بدَّ أن يحبها ويشملها برعايته؛ فالإنسان هو "راعي الوجود"، كما يقول هَيدگر.

وعي الجمال لا يمت بصلة إلى مجرد إدراك المعلومات. قد نكون على علم بكل معلومة تتعلق بالزهرة، لكننا لكي ندرك جمالها يجب أن نتعلم الوعي على مستوى مختلف. أغلب الناس يعتقدون أنهم واعون كل الوعي؛ لكنهم، إذا اتفق لهم أن يرصدوا أنفسهم بلا مواربة، لاكتشفوا أنهم "ربع واعين" فقط، وأن جزءًا كبيرًا من عمرهم – إنْ لم يكن كله – ينقضي وكأنهم في حلم. فلنوضح الأمر بمثال بسيط: من الممكن لنا أن نصادف أحد معارفنا في الشارع، فنبصره بالعين المادية من غير أن نراه، لا لعيب في البصر، بل لأن الذهن منشغل بأمر آخر؛ من الممكن لنا أيضًا أن ننظر إلى حديقة ولا نرى من جمالها شيئًا على الإطلاق لأن الذهن شارد في اجترار تفاصيل خلاف شخصي أو استثمار تجاري. حين يَعبُر خليط من الخواطر والصور من خلال المخ، فإن الإدراك الواعي ينخفض إلى حدٍّ كبير. والواقع أن جزءًا كبيرًا من حياة الناس مصروف في حالة مؤسفة من عطالة الوعي أو شروده. وحتى الذين "يعون" نسبيًّا لا يدركون إلا جانبًا من الأشياء الخارجية فقط: إن وعي وجود الحديقة دون الشعور بجمالها، أو الانتباه إلى جمالها انتباهًا سطحيًّا وحسب، يعني عدم النفاذ إلى النواة الداخلية بعد.

* * *

الصور والخواطر التي تبرز في الذهن هي وليدة الماضي. غير أن الوعي ليس في الماضي لأن الماضي انتهى. الذاكرة ليست إلا نوعًا من الظل؛ وحده الموجود حقًّا هو الحاضر، الآن. لكن الظلال والصور المستعادة من الماضي تحول دون الحضور الحي في الآن. الحياة – وليس مجرد العيش – تعني الوعي والتواصل. والحياة حياةً تامةً هي التمتع بإدراك غير مقيد، ليس لما يطفو على السطح وحسب، بل ولما يكمن في الأعماق الداخلية أيضًا؛ الوعي يجب أن يكون إدراكًا للكل، لا للجزء فقط، للدقيق، لا للغليظ فقط، لغير المرئي، لا للمرئي فقط. ومنه، حين يتخاذل فينا الإدراك الواعي فنحن لسنا "أحياء" حقًّا – نحن ربع أحياء فقط! وما يحول دوننا والحياةَ حياةً تامةً هي أعباء الماضي التي يجرجرها الذهن وراءه – أعباء ماض قد توارى، إلا ظلال ذكرياته.

كذلك المستقبل، ليس له هو الآخر من وجود: إنه ليس إلا نوعًا من الخيال. هناك، بالطبع، الزمن الفيزيائي (الوقت) المرتبط بدوران الأرض حول محورها؛ لكننا حين نبلغ ما نظنه المستقبل، فإننا نجده حاضرًا. ومنه، ليس للماضي ولا للحاضر من وجود حقيقي فعلي: إنهما موجودان فقط على هيئة صور في الذهن. الإحساس بالقلق أو بالأمل جزء من مستقبل متخيَّل؛ الألم والكره هما من الماضي، بل هما الماضي. وبسبب انشغالنا الذهني بهذه كلها فإننا نضيِّع الحاضر، مع كل ما ينطوي عليه الحاضر من ممكنات لتعليمنا أسرار الحياة.

* * *

لقد ولَّى زمن كان القوم فيه يظنون أن كل شيء يحدث في العالم عَرَضًا ومصادفة؛ إذ إن علماء وفلاسفة كبار باتوا يرون غير ذلك. فلو أن هذه الفرضية – "المصادفة والضرورة"[3] – كانت صحيحة منطقيًّا، لما كان من المتعذر إحصائيًّا، كما يؤكد العلم، أن تكون متعضِّية وحيدة الخلية قد تطورت مصادفةً وصولاً إلى البنية البشرية، وذلك بسبب وجود عدد هائل من العوامل والمتغيرات كان لا بدَّ من تدخُّلها جميعًا في "الاتجاه الصحيح". إن التكوين الحالي لعضو إبصار كالعين هو – منطقيًّا – أعقد من أن يكون قد تطور من جراء محض المصادفة. ولقد قاد وجود أدلة كهذه عددًا من المفكرين – ومنهم الفيزيائي القدير پول ديڤيس – إلى افتراض وجود "عقل إلهي" فاعل في الكون، فطنة هائلة مبطِّنة لظواهره وحوادثه[4]. وقد كان السير ألستر هاردي قد سلَّم من قبلُ، لا بوجود فطنة فاعلة في سيرورة التطور وحسب، بل بالمحبة بوصفها القوة المحركة لها – إذ وحدها المحبة تستطيع أن تتمخض عن هذا الجمال كله، عن هذه القدرة الخلاقة كلها في الكون المتجلِّي.

لكننا لا نفقه سر الحياة، فنفوِّت علينا جمالها. لماذا؟ لأننا نعرقل سريان طاقة الحياة سريانًا حرًّا. وعينا لا يدرك كل ما يسعه أن يدرك لأن الماضي والمستقبل يثقلان على المخ ويحدان من حساسيته؛ الصور الخيالية تدور فيه مشكِّلةً نماذج مختلفة، كما في الكاليدوسكوپ[5]. ولكن، ماذا يحدث حين يقع تحلل الجسم الذي نسميه الموت؟ صور الماضي كلها تزول بزوال المخ، فيتاح للحياة أن تتجسم في بنى جديدة وتتعلم أداءً لا يعرقله الماضي.

* * *

ما يفعله هذا الموت المزعوم في آخر العمر، على كلٍّ أن يفعله بنفسه من الآن – واعيًا؛ وإذ يفعله، يحيا حياة أكثر غنى وامتلاءً، بمعنى أنه يتعلم كيف يشحذ حساسية إدراكه إلى أقصى حدٍّ ممكن. لقد قال سقراط ما مُفاده إن الفيلسوف يتدرب على موته كل يوم: إنه ينقِّي وعيه من جميع صوره وذكرياته، فيبقيه بذلك منفتحًا لإدراك ما هو عميق، لا ما هو سطحي فقط، ما هو باطن، لا ما هو ظاهر فقط، ما هو لطيف، لا ما هو كثيف فقط. فكما قلنا أعلاه، الإدراك الواعي يقتضي التواصل. وكلما تعمَّق إدراك أحدهم – لا للأشكال المحيطة به وحسب، بل لجمال الحياة وسرِّها الساري في هذه الأشكال – كان اختباره للمحبة أعمق وقُربه من حقيقة الأشياء أدنى.

تشير الأبحاث التي أجريت في السبعينيات والثمانينيات على "الخبرات على تخوم الموت" near-death experiences إلى أن بعضهم يختبر ساعة مماته "المؤقت" أن المحبة هي غاية الحياة[6]؛ يعي القوم أن الفلاح الحق ليس عبارة عن ذيوع الصيت أو تكديس المال، بل هو القدرة المتعاظمة على التجاوب المحب مع وقائع الحياة. المحبة، في جوهرها، إدراك لوحدة الحياة، من حيث إن هذه تتجسد في صور وأشكال لانهائية، ووضع حدٍّ لوهم الكثرة. هذا الوهم أشبه برؤية انعكاس صورة القمر في الكثير من البرَك والسباخ والبحيرات وتوهُّم أن هناك أقمارًا عديدة! بالمثل، قد نظن بأن الفراغ المحتوى في غرفة هو غيره الفراغ في علبة – لكن الفراغ في الواقع واحد؛ الغرفة سوف تتهدم ذات يوم، والعلبة سوف تزول، لكن الفراغ سيبقى هو هو، واحدًا لا يتجزأ. على النحو نفسه، ثمة فطنة واحدة، محبة واحدة، طاقة كونية واحدة لا تنقسم.

معرفة هذا – بالخبرة المباشرة – هو تعلُّم أبلغ دروس الحياة. وهذا يمكن له أن يحدث إذا تعلَّمنا كيفية فتح عيننا الباطنة – بصيرتنا – وأفسحنا في المجال للوعي ليفصح عن ذاته، متخففًا من أعباء الماضي وأماني المستقبل الوهمية. ففي نمو الإدراك الواعي يكمن مستقبل الإنسان الحقيقي، لأنه من خلاله سوف يكتشف علاقة مختلفة، جديدة كليًّا، مع الأشياء طرا.


* كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.

[1] راجع: ندره اليازجي، هندسة الروح: أشكال صوفيا، فصل "أسرار عالم النبات"، في الأعمال الكاملة، مج 7، دار أمواج، طب 1: بيروت، 2005؛ ص 297-313.

[2] راجع: پيار تلار دُه شاردان، موضع الإنسان في الطبيعة، بترجمة ندره اليازجي، دار الغربال، دمشق (بلا تاريخ)، ص 131-134.

[3] من أصحابها والمروجين لها عالم البيولوجيا الفرنسي جاك مونود الذي نشر في العام 1970 كتابًا بهذا العنوان.

[4] راجع: پول ديڤيس، العوالم الأخرى: صورة الكون والوجود والعقل والمادة والزمن في الفيزياء الحديثة، بترجمة حاتم النجدي، دار طلاس، طب 1: دمشق، 1990.

[5] جهاز مؤلف من أنبوب كتيم يحوي عدة مرايا موضوعة بحيث يُنتج انعكاس قطع زجاجية صغيرة ملونة في الأنبوب، لدى تحريكه، أشكالاً متناظرة ومتنوعة.

[6] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "خبرات على تخوم الموت"، مجلة المعرفة، العدد 401 (شباط 1997)، ص 55-61.