قاف القطب – رونيه گينون

قاف القطب*

guenon

رونيه گينون**

عودًا على بعض الاعتبارات المتعلقة بصورة "الحجر المكعب ذي الرأس" التي ألمحنا إليها[1]، نقول، بادئ ذي بدء، إن هذه الصورة تتمِّمها في بعض الوثائق القديمة، على نحو غير متوقع بعض الشيء، فأسٌ مُضافةٌ تبدو وكأنها موضوعةٌ متوازنةً على ذروة الهرم بالذات. وهذه الخصوصية كثيرًا ما حار فيها الاختصاصيون في الرمزية الماسونية الذين لم تستطع غالبيتهم تفسيرها تفسيرًا مُرْضيًا؛ بيد أن بعضهم ألمع إلى أن الفأس هنا قد لا تكون فعلاً غير رسم حرف قوف ק العبري[2] – وهاهنا بالفعل مفتاح الحل الحقيقي؛ لكن التقريبات المتاح القيام بها بهذا الصدد ذات دلالة أكبر بكثير لدى إنعام النظر في حرف القاف الموافق له بالعربية. وقد بدا لنا مفيدًا أن نورد لمحة عنه، على الرغم من خاصية الغرابة التي قد تتصف بها هذه الأمور بنظر القارئ الغربي الذي لم يتعود حتمًا الاطلاع على هذا النوع من الاعتبارات.

الحجر المكعب والحجر المكعب ذو الرأس.

رسم مأخوذ من أحد المخطوطات الوسيطية يُرى فيه بنَّاء ينحت بالفأس رأس المكعب.

إن المعنى الأعم المتعلق بالحرف المقصود، سواء بالعبرية أو بالعربية، هو معنى "القدرة" أو القوة التي يمكن لها في الواقع أن تكون، حسب الحالة، من رتبة مادية أو من رتبة روحية[3]؛ وهذا المعنى بالذات هو الذي تقابله، بأكثر السبل مباشرةً، رمزيةُ سلاح كالفأس. وفي الحالة التي تشغلنا حاليًّا، من الواضح أن المراد هو القوة الروحية؛ وهذا ناتج من اتصال الفأس مباشرة، لا بالمكعب [رمز المادة]، بل بالهرم [رمز الروح][4]؛ وبالوسع هنا تذكُّر ما سبق لنا أن تطرقنا إليه في مناسبات أخرى بخصوص التكافؤ بين الفأس والـڤجرا वज्र [الصاعقة][5]، وهو كذلك فعلاً، في المقام الأول، علامة القوة الروحية[6]. بيد أن هناك المزيد: الفأس موضوعة لا على نقطة ما، بل على ذروة الهرم، كما قلنا، وهي ذروة كثيرًا ما تُعَد تمثيلاً لقمة تراتبية روحية أو مُسارَرية initiatique. ومنه، يبدو أن هذا الموضع يشير إلى مقام أعلى قوة روحية فاعلة في العالم، أي إلى ما تطلق عليه جميع المنقولات اسم "القطب" Pôle. وهنا أيضًا، نذكِّر بالخاصية "المحورية" للأسلحة الرمزية عمومًا وللفأس خصوصًا، بما يتوافق توافقًا واضحًا وتامًّا مع مثل هذا التأويل.

الإله إندرا راكبًا على الفيل السماوي وقابضًا على الڤجرا، سلاحه المفضل.

على أن ما يسترعي النظر للغاية هو أن حرف القاف بالذات، في المنقول العربي، هو كذلك اسم الجبل الحرام أو القطبي: جبل قاف[7]؛ بذا فإن الهرم – وهو أساسًا صورة من صور هذا الجبل – يحمل إذن، عبر هذا الحرف أو عبر الفأس التي تحل محله، تسميته الخاصة بوصفه كذلك، وكأنما لئلا يبقى من شكٍّ ثمة حول الدلالة التي يجدر الإقرار له بها نقليًّا. علاوة على ذلك، إذا أرجِعَ رمزُ الجبل أو الهرم إلى "محور العالم"، فإن قمته، حيث يتوضع هذا الحرف، تتطابق تطابقًا أخص مع القطب بالذات؛ إلى ذلك، يكافئ حرف قاف عدديًّا كلمة مقام[8]، بما يشير إلى هذه النقطة بوصفها الـ"مقام" بامتياز، أي النقطة الفريدة التي تبقى ثابتة غير متغيرة إبان جميع دورات العالم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن حرف القاف هو أول حروف اسم قطب وهو، بهذه المثابة أيضًا، قد يفيد الإشارة إلى القطب إشارة مختصرة [ق = قطب]، تبعًا لعملية شائعة للغاية[9]؛ لكن ثمة أيضًا توافقات أخرى لا تقل عن هذا استرعاءً للانتباه: بذا فإن مركز القطب الأعلى (المسمى أيضًا القطب الغوث، تمييزًا له من الأقطاب السبعة الثانويين التابعين[10]) موصوف رمزيًّا بموقعه "بين السماء والأرض" في نقطة واقعة بالدقة فوق الكعبة الشريفة، ذات الشكل المكعب حصرًا، التي تُعَد هي الأخرى أحد تمثيلات "مركز العالم". ومنه، بوسعنا أن ننظر في الهرم (غير المرئي لأنه من طبيعة محض روحية) وكأنه يرتفع فوق هذا المكعب (وهو مرئي لأنه يعود إلى عالم العناصر، الموسوم بالعدد الرباعي)؛ وفي الوقت نفسه، فإن هذا المكعب، الذي تقوم عليه هكذا قاعدة التراتبية أو الهرم، الذي هو صورتها والذي يشغل القطب قمته، إنما هو أيضًا، بحُكم شكله، رمز إلى الاستقرار التام.

الهرم (رمز الروح) مستقرًّا على المكعب (رمز المادة).

يساعد القطب الأعلى الإمامان القائمان عن يمينه وعن يساره؛ والثالوث المشكَّل على هذا النحو ممثَّل هو الآخر، في الهرم، بالشكل المثلث الذي هو شكل كلٍّ من وجوهه. من ناحية أخرى، فإن الواحد والاثنين اللذين يشكلان هذا الثالوث يوافقان حرفَي الألف والباء تبعًا لقيمتيهما العدديتين على التتالي [1 + 2 = 3]. حرف الألف على شكل محور شاقولي؛ ويشكل رأسه الأعلى مع طرفَي حرف الباء المقابلين له أفقيًّا (حسب رسم يمكن أن نجد له مكافئات في رموز متنوعة تنتمي إلى منقولات أخرى) الزوايا الثلاث للمثلث المُسارَري الذي يجب بالفعل أن يُعَد حصرًا أحد "إمضاءات" القطب.

ولنضف أيضًا، بخصوص هذه النقطة الأخيرة، أن حرف الألف يُعَد بالأخص حرفًا قطبانيًّا؛ إذ إن اسمه وكلمة "قطب" متكافئان عدديًّا: ألف = 1 + 30 + 80 = قطب = 100 + 9 + 2 = 111. وهذا العدد 111 يمثل الوحدة معبَّرًا عنها في العوالم الثلاثة [الروحاني والنفساني والجسماني]، الأمر الذي يناسب تمام المناسبة وصف الوظيفة التي يختص بها القطب بالذات.

ربما كان بالإمكان التوسع في هذه الملحوظات توسعًا أكبر، لكننا نحسب أننا قلنا ما يكفي، على الأقل لكي يقر أولئك بالذات الذين هم أبعد ما يكونون عن علم الحروف والأعداد النقلي بأن من الصعب للغاية أن يزعموا بأنهم لا يرون في ذلك كله إلا مجرد جملة من "المصادفات"!

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, mai 1937 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 113-115.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] Cf. René Guénon, Symboles de la Science sacrée, pp. 107-114.

[2] يلاحَظ الشبه بين رسم هذا الحرف بالعبرية وبين شكل الفأس. (المحرِّر)

[3] يوسَم التمييزُ بين هذين المعنيين بالعربية بالفارق في تهجئة كلمة "قوة" [بالتاء المربوطة] تأديةً للمعنى الأول و"قوى" [بالألف المقصورة] تأديةً للمعنى الثاني ["القُوَى": العقل].

[4] ما بين معقوفتين [] من إضافة المحرِّر توضيحًا للمقصود.

[5] الـڤجرا vajra (الحربة المثلثة ذات الرأسين)، في الميثولوجيا الهندوسية، سلاح إله السماء إندرا المفضل، يقبض عليه من وسطه؛ ومن وظائفه العديدة طرد الأرواح الشريرة. وقد تؤدي التسمية معنى "الماسة"، فتشير إلى الاستنارة، لاعبةً دورًا هامًّا في البوذية التنترية التبتية (ڤجريانا Vajrayāna: "المركبة الماسية"). (المحرِّر)

الڤجرا (الصاعقة): سلاح إله السماء إندرا وطارد الأرواح الشريرة.

[6] Cf. René Guénon, Symboles de la Science sacrée, pp. 174-178.

[7] يريد بعضهم أن يطابق بين جبل قاف وبين القافقاسية؛ فلو أن هذه المطابقة أخِذَت على محمل الحرف بالمعنى الجغرافي الحالي، لكانت قطعًا مغلوطة، وذلك لأنها لا تتوافق بتاتًا مع ما يقال عن الجبل الحرام الذي لا يكون بلوغه "لا بالبر ولا بالبحر". لكنْ لا بدَّ من لفت النظر إلى أن اسم قافقاس هذا أطلِق قديمًا على عدة جبال واقعة في ربوع مختلفة جدًّا، مما يحمل على الظن أنه ربما كان في الأصل فعلاً أحد أسماء الجبل الحرام الذي ليست القافقاسيات الأخرى منه بالتالي غير "مواقع" ثانوية.

[8] قاف = 100 + 1 + 80 = مقام = 40 + 100 + 1 + 40 = 181. وفي العبرية، نجد التكافؤ العددي نفسه بين قوف קופ ومقوم מקומ؛ إذ لا تختلف هاتان الكلمتان في الواقع عن الكلمتين الموافقتين لهما بالعربية إلا باستبدال واو بالألف، الذي توجد أمثلة أخرى عديدة عليه (نار/نور נור، عالم/عولم עולמ، إلخ)؛ والحاصل عندئذٍ هو 186 [قوف = 100 + 6 + 80 = مقوم = 40 + 100 + 6 + 40].

[9] هكذا يفيد حرف الميم، على سبيل المثال، الإشارة أحيانًا إلى المهدي [م = مهدي]؛ ومحيي الدين بن عربي، تحديدًا، يضفي عليه هذه الدلالة في بعض الحالات.

[10] يوافق كلٌّ من الأقطاب السبعة أرضًا من "الأرضين السبع" التي نجدها بالمثل في منقولات أخرى؛ وهؤلاء الأقطاب الأرضيون السبعة إنما هم انعكاس للأقطاب السماويين السبعة الذين يقوم كلٌّ منهم على فلك من أفلاك الكواكب السبعة.