ملحوظات في اللذَّة والألم
ديمتري أڤييرينوس
ليست الحياة دومًا بستان ورود – هيهات! الحياة، في كثير من الأحيان، طريق شاقَّة وعرة، يدمى فيها القلبُ قبل أن تدمى القدمان. فعلى الرغم من خيرة نوايانا وخططنا، ترى الحياة تخبِّئ لنا مفاجآت: بعضها سارٌّ – وهذه هي اللحظات اللذيذة والذكريات البهيجة؛ وبعضها الآخر غير ذلك – وهذه تتراوح بين المصاعب المقبولة وغير المؤذية وبين المصائب الشديدة والصدمات المأسوية الرهيبة. ونحن مثلما نتعطَّش إلى اللذة، نطلبها، نطاردها، كذلك نخشى المِحَنَ من كلِّ صنف، ننفر منها ونتهرَّب، حتى إننا كثيرًا ما نتوجَّس من مجرَّد فكرة الألم والمأساة – وهذا طبيعي. وبما أنه طبيعي، فهو كذلك علامة صحَّة نفسية وذهنية سوية. مع ذلك، هل هذا التعطُّش إلى اللذة وهذا النفور من الألم مناسبان للتصدِّي لتحدِّيات الحياة؟ هل نحن مسلَّحون، بمجرَّد سباحتنا مع تيار الإشراط الطبيعي، لمواجهة صدمة المأساة؟
السباحة مع التيار تعني خنوع المرء لقوة الأحداث وتقلُّبه مع أمواج الفرح والترح التي تطغى على حياته. الانسحاق تحت وطأة الترح والشعور بالخفَّة عند الفرح أمران طبيعيان؛ فاللقاء المحتوم بكليهما ضمن مسيرة الحياة لا محيد عنه. لماذا، إذن، لا نوفِّر حيلةً للتهرُّب من الترح؟ لماذا نحرص على تفادي الألم؟ لماذا نحوِّل، “غريزيًّا”، وجهنا عنه؟ لماذا نتنكَّر له أو نسوِّغه؟ لِمَ لا نقبل الترح قبولاً تامًّا غير مشروط ونعتنقه؟ لِمَ لا نستطيع أن نواجه ألمنا ونقبله قبولاً كليًّا بلا تحفُّظ؟ لا يتردَّد المرء في التمسُّك باللذة؛ فلماذا، إذن، ينفر من الشدة والألم؟
أذهاننا ممتلئة بالذكريات الخوالي؛ وهذه غالبًا ما تكون محفورة عميقًا في وعينا. تذكُّر اللذة والفرح يحثُّنا على طلبهما، وتذكُّر الألم والترح يجعلنا نخافهما ونتهرَّب منهما. سأل ملك هندي كبيرَ صائغيه أن ينقش على خاتمه عبارة خاصة: “أريد عبارة، حين أقرؤها وأنا بهيج، أشعر بالحزن، وحين أقرؤها وأنا حزين، أشعر بالبهجة.” فنقش الصائغ: “هذه اللحظة لن تلبث أن تنتهي.” الواقع، إذن، أن كلاًّ من هذه الإحساسات والمشاعر والانفعالات والخواطر يبزغ ويتلاشى، ومن طبيعتها ألا تدوم. فمهما تكن شدة المأساة التي نواجهها، مهما تكن ضربتها شالَّة، لا يمكن للألم أن يدوم. ثم إن الألم غالبًا ما ينجم عن حبٍّ وليد التعلق – هذا ما يجب علينا أن نفهمه حقَّ فهمه.
مهما يكن سموُّ “الصلوات” التي نتلوها ومهما تكن “قداسة” الحياة التي نحياها فإن قوة قهر الطبيعة تفصم عالمنا إلى قسمين: “لي” و”ليس لي”. تنهال المآسي على العالم كلَّ يوم وكلَّ ساعة؛ ليس ثمة لحظة واحدة من لحظات حياتنا خالية من الموت والفقد وسائر المِحَن. ترانا نقرأ في الصحف اليومية عن الموت والمرض والفقر والجوع والظلم والتعذيب والحرب ونشهدها على الشاشة الصغيرة والشبكة العالمية؛ غير أن ما نقرأ وما نشهد يكاد لا يمسُّ حياتنا من قريب لأن الألم ليس مباشرًا: هذا الألم لا يُستشعَر بوصفه ألمنا نحن، وذلك لأن فهمنا له مجرَّد فهم فكري غير شخصي.
إذا ما اندسَّتْ حصاةٌ في حذائك فهي توجع وجعًا شديدًا – حتى إنك تخال حياتك برمَّتها متوقِّفةً على تخلُّصك من الحصاة اللعينة! هذا مثال على إحساس يُختبَر مباشرةً من دون حاجز الفكر. إذا كان إدراك المرء مباشرًا، طليقًا، متحرِّرًا من حاجز الإشراط و”فلاتر” الفكر فإنه يكون عند ذاك بسيطًا بساطة فائقة، حساسًا حساسية مذهلة، كلِّي الاستقبال لوجع الآخر. وفي الواقع، ليس ثمة انقسام على صعيد الوعي: ففي الشعور الكلِّي بالتعاطف والوحدة يؤلم وجعُ الآخر بقدر ما يؤلم وجعُ الذات. ترانا نختبر التعاطف والتماهي مع قلَّة نصطفيها بين الأقربين، أولئك الذين ندعوهم “لي” أو “خاصتي”. لكن هذا التقسيم للبشر إلى فئتَي “لي” و”ليس لي”، بحيث نخصُّ بالعطف مَن هم “خاصتي” من الأقارب ونلغي مَن ليسوا كذلك من الأباعد، إنما هو تقسيم اعتباطي لا أساس له من الواقع؛ إذ إنه مجرَّد تمجيد أحمق للجماعة الحصرية، متمحور حول الوجود العائلي أو العشائري أو المذهبي أو الطائفي أو القومي، وهو الذي يشكِّل حاجزًا يحُول دون الشعور بالوحدة والتعاطف الكلِّيين.
إن فرح إنسان آخر هو، في الواقع، فرحنا نحن، وترح الآخر، بالمثل، هو ترحنا نحن. فكيف يجوز لنا، إذن، أن ندَّعي فخرًا لدى إنزال الألم والكَرَب بسوانا؟! لقد صرنا عبيدًا لمفاهيم مجرَّدة، سجناء نماذج مشروطة من الفكر والشعور والعمل. مادمنا نعيش في فقاعة الفصل، متمسِّكين بملذاتنا وبأفراحنا الوضيعة، خائفين من الألم الممكن ومتهرِّبين منه، فنحن نتزلَّج على جليد رقيق! إن من شأن فقاعة وهم الفصل أن تنفجر في أيِّ لحظة ونحن نسير على طريق الحياة الوعر. وهي كثيرًا ما تنفجر لدى ملاقاتنا الألم؛ إذ غالبًا ما ننصدم من جراء هول المصيبة بتصاعُد مشاعرنا المكبوتة؛ والصدمة كثيرًا ما تبثُّ الحياة في وجودنا العقيم، فتحيي فينا شعورًا بوحدة الإدراك وسعته وعمقه بمجرَّد التَّماس مع صدمة المأساة والألم المصاحب لها.
عميان نحن، أجل، عميان! والأنكى أننا نتباهى بعمانا، نتعامى عن رؤية ألم الآخر، فنعيش معظم وقتنا في عوالمنا الصغيرة، متمسِّكين بكبريائنا وغرورنا وآمالنا ومخاوفنا وملذاتنا الوضيعة. كثيرًا ما نحدُّ أنفسنا بعيش ضيق، مغالين في التركيز على حياتنا الشخصية، على ترقِّينا، على إحساسنا الحصري بأهميَّتنا الذاتية. المآسي تطوِّقنا من كلِّ صوب؛ في كلِّ لحظة، إنْ نظرنا حوالينا، وجدنا حالاتٍ مزريةً من الألم والمرض والموت، وجدنا الفقر والأسى، وجدنا الصراع والتوحُّش. ومع ذلك، نتعامى عن ذلك كلِّه، مفضِّلين أبراجنا العاجية وأوهام راحتنا ورخائنا.
الغبطة هي فرح اكتشاف الذات. ونحو هذا الاكتشاف تتضافر أنفاسنا وخطواتنا وجهودنا. غاية وجودنا هي أن نختبر هذه الغبطة الدائمة هاهنا على الأرض، فنساهم بالطاقة التي تحيينا في تحقيق المخطَّط الكوني. بيد أن طلبها بالمعنى المادي في الخبرة الحسِّية هو من قبيل الوهم. فالحياة الأرضية والوجود الجسدي يتَّسمان باللذة والألم، بالملهاة والمأساة على حدٍّ سواء. ومع ذلك، ترانا نطلب الأولى وننبذ الثانية، فنعيش في فقاعات معزولة ننسجها بأوهامنا، نطوِّق أنفسنا باللذة ونحرص على درء الألم عنها. وفي هذا الفعل القائم على الذاكرة والفكر نحتِّم على أنفسنا صدمات الآلام والمآسي. أما الحياة التامة فتقتضي مواجهة الملهاة والمأساة بالهدوء نفسه، وتقتضي اختبار اللذة والألم بالتجرُّد نفسه. لماذا؟ لأنهما توأمان لا ينفصلان، شأنهما شأن الليل والنهار والشهيق والزفير. والخوف من المحتوم والتهرُّب منه هو من قبيل الحمق والضلال. وبالتجائنا إلى ضلالة اتقاءً لمواجهة الحياة على حقيقتها إنما نحتِّم على أنفسنا آلامًا ومآسي لا مهرب منها مهما حاولنا.
أما الإقرار بحتمية الألم والإخفاق والمصاعب والمآسي وقبول وجودها في حياتنا فهو يتيح تفتُّح إمكانات البصيرة والصبر والجَلَد والشجاعة والإيمان فينا. قوة الصعوبة هي التي تصهر مادَّتنا الخام وتصنع منها خصال الشجاعة والثبات على المبدأ والتماسك الداخلي؛ إنها تنسف قشرة الفصل الضيقة وتبدِّد أوهام فكرنا المقيَّد المشروط. من شأن صدمة المأساة أن تضعنا على تماسٍ مع أعمق مشاعرنا الدفينة، أن تفتح لنا أفق عالم أوسع، أن توقظ فينا إحساسنا العميق بالوحدة والتعاطف والرحمة. إذ ذاك يمكن للألم المصاحب لزوال وهم الفصل أن يكون مخاضًا لولادة فطنة لازمنيَّة ومحبة خارقة في قلوبنا.
2008