هل نحن أيقاظ؟ – ألفرد ر. أوراج

هل نحن أيقاظ؟*

أ.ر. أوراج

ألفرد ر. أوراج**

 

كيف يمكن لنا أن نتأكد، في أيِّ لحظة بعينها، من أننا لسنا نيامًا نحلم؟ ظروف الحياة لا تقلُّ في بعض الأحيان خياليةً عن ظروف الأحلام، وهي تتغير بالسرعة ذاتها. فماذا لو اتفق لنا أن نستفيق لنجد أن حياة اليقظة مجرَّد حلم وأن نومنا وحلمنا الراهنين ليسا غير حلم ضمن حلم؟

يقول مذهب نقلي، مرتبط عادةً بالدِّين لكنه يتسرَّب من حين لآخر إلى الأدب العظيم، بأن حالة يقظتنا الراهنة ليست يقَظة حقًّا على الإطلاق. إنها ليست بنوم الليل قطعًا، ولا هي بحال السَّرْنَمَة العادية أو السير في أثناء النوم، ولكنها، على ما جاء في النقل، ضربٌ خاصٌّ من النوم يضاهي غيبة السبات المغناطيسي، إنما ليس فيه منوِّم، بل إيحاء أو إيحاء ذاتي فقط. ففي المقام الأول، منذ لحظة الولادة وما قبلها أيضًا، ونحن تحت الإيحاء بأننا لسنا أيقاظًا تمام اليقظة، بينما في العالم أجمع ما يوحى لوعينا بأننا لا بدَّ حالمون حلم هذا العالم كما يحلمه آباؤنا وأصحابنا. يصعب على الأطفال الصغار في البداية، كما هو معلوم عمومًا، أن يميِّزوا بين هذا التخيُّل، أي أحلامهم النهارية الأخرى، وبين الحلم الذي يعيش فيه آباؤهم. وفي وقت لاحق من الطفولة، عندما يفعل الإيحاء الأصلي مفعوله، يتولَّى الإيحاء الذاتي إبقاءنا في الحالة على نحوٍ مستمرٍّ نوعًا ما. كذا يكون مفعول أصحابنا وجيراننا – ومثله مفعول جميع الأشياء التي ندركها – بمثابة منوِّمات وإيحاءات حلمية. لا نعود، كما في مرحلة الطفولة المبكرة، نفرك أعيننا في ريب من حقيقيَّة هذا العالم؛ لا بل نكون على قناعة تامة لا بأنه حقيقي وحسب، ولكنْ بأنْ ليس من عالم آخر سواه ثمة. نحلم، لكننا لا نشك في أننا أيقاظ.

يفترض الدِّين سلفًا، كما يتضح، أن الحياة البشرية الفانية ضرب من النوم يمكن الاستفاقة منه على الحياة الأبدية. فالعهد الجديد، على سبيل المثال، يستعمل دومًا صور النوم والاستيقاظ: بحسب الأناجيل والرسائل، نرقد مع آدم ونقوم مع المسيح، واللازمة المتكررة للعقيدة هي أننا يجب أن نجاهد للاستفاقة من حالة يقظتنا الراهنة كيما “نولد من جديد”[1]. وفي الأدب المعاصر، استفاد الفكرة هنريك إبسن وهـ.ج. ويلز[2]، في جملة كتَّاب آخرين: إن مسرحية إبسن حين نستفيق نحن الموتى ورواية ويلز النائم يفيق تفترضان في عنوانيهما بالذات أننا نحن البشر نيام، وإنْ يكن بإمكاننا أن نستيقظ.

من الصعب طبعًا، بطبيعة الحال، إقناع أنفسنا بأننا نيام. فالشخص النائم، في خضم حلمه، لا يستطيع عادةً أن يستفيق. قد يكون الحلم من الإزعاج بحيث يوقظه؛ أو قد يستفيق من تلقاء نفسه؛ أو قد تباغته هزَّة توقظه. نادرًا جدًّا ما يقوى المرء على الاستفاقة الإرادية؛ فكم بالحري هو صعب الاستيقاظ الإرادي من السبات المغناطيسي. لئن كانت استفاقتنا بمفردنا من هذه الحالات الخفيفة نسبيًّا من النوم بهذه الصعوبة، لنا أن نتخيَّل صعوبة الاستيقاظ الإرادي من نوم وحلم أعمق تتصف بهما حالة يقظتنا.

ولكن كيف يمكن لنا أن نقتنع بأننا نغطُّ حقًّا في ضرب من النوم بينما يظهر لنا أننا أيقاظ حقًّا؟ يتمُّ ذلك بمقارنة حالتَي الوعي الرئيستين اللتين نعرفهما وبرصد السمات المشتركة اللافتة للنظر بينهما. ما هي، على سبيل المثال، السمات البارزة لنومنا العادي كما نعرفه بوساطة ما نتذكر من أحلامنا؟ الحلم يحصل؛ أي أننا لا نشرع فيه عَمْدًا ولا نخلق شخصياته وأحداثه. إنه بهذا الصدد يشبه حياة اليقظة من حيث إننا لا نحدِّد تجاربنا مسبقًا ولا نخلق الشخصيات والأحداث التي نقابلها من يوم لآخر أو نختلقها.

من العناصر المشتركة الأخرى بين حالتَي النوم واليقظة في حياتنا خاصية تقلُّب سلوكنا. يروِّعنا أحيانًا، ويهدِّئ روعنا أحيانًا أخرى، أن نسترجع كيف تصرَّفنا في موقفٍ حلميٍّ. الحقُّ أننا، أيًّا كان عليه سلوكنا، مهينًا لكبريائنا أو مدغدغًا له، ما كنَّا لنستطيع أن نجعله غير ما كان. إنما قلقنا أو ارتياحنا هو مجرَّد ترجمة للوحي المزعوم عن ذواتنا اللاواعية. ولكن فيمَ تختلف هذه الوقائع، عمقيًّا، عن وقائع أحلام حياة يقظتنا؟ في أحلام الحياة أيضًا نتخذ شخصية ساخطة أو راضية، ليس عن تصميم محدَّد سلفًا ولكنْ كيفما اتفق؛ وسخطنا أو رضانا يتوقف بالقدر نفسه على الأثر الذي تخلِّفه الحادثة على كبريائنا. ولكن هل لنا أن نقول صادقين، مسبقًا، إننا مهما حدث سوف نتصرف كذا وكذا وليس خلاف ذلك؟ ألسنا خاضعين لإيحاء اللحظة وعرضة للانقياد، بعيدًا عن قرارنا، للغضب أو الجشع أو الحماس؟ وكما في حلم النوم بالضبط، لا تفتأ حياة يقظتنا تباغتنا، ونحن نتصرف فيها دومًا على نحوٍ ما كنَّا أبدًا لنتصور أننا قد نتصرف عليه. كذلك لا يمكن لنا، بالعودة لاحقًا إلى الماضي، أن نقول صادقين إنه كان بمستطاعنا أن نفعل أفضل مما فعلنا أو أسوأ في موقف بعينه جرى بالأمس. لو تكرَّر الأمس بالضبط فلا شك أنه بمستطاعنا؛ لكن الأمس – مأخوذًا كما كان وحين كان، وآخذين أنفسنا كما كنَّا وقتذاك – ما كان له أن يختلف في شيء عن كلِّ ما خَبِرنا من أحلام الليل.

يكشف الفحص الجِدِّي للتوازي بين حالتَي النوم واليقظة عن العديد من أوجُه التشابه الأخرى، لكننا سنكتفي هنا بإيراد وجه واحد فقط منها: تشابُه ذاكرتنا الوثيق فيما يخص اختبار كلٍّ من الحالتَين. صحيح أننا نحتفظ من حياة يقظتنا بتذكُّر يزيد أو ينقص اتصالية، في حين أن حياتنا الحلمية عبارة عن سلسلة من ذكريات متقطعة؛ ولكنْ فيما عدا هذا الاختلاف المخصوص، يبدو أن ملَكتنا الحافظة تتصرف على نحوٍ يكاد يتطابق فيما يتعلق بشكلَي الخبرة كليهما. ونحن نعلم مدى صعوبة استرجاع حلم الليلة الفائتة استرجاعًا إراديًّا: كان الحلم زاهيًا، وكانت جميع تفاصيله في ذهننا عند الاستفاقة، ولكنْ تراه يتلاشى برمَّته في لحظة ولا يخلِّف بعده أثرًا يُذكَر. ذكرى حلم حياة الأمس ليست بهذا الغدر أو التقلُّب فيما يخص معالمه الرئيسية، ولكن أين هو اليوم التفصيل الزاهي من حياة الأمس؟ رأينا بوضوح ألف غرض وغرض، لا بل انتبهنا إليها: استمعنا إلى محادثة، تكلَّمنا، شاهدنا أناسًا وأشياء في الشارع، قرأنا كتبًا أو صحفًا، قرأنا وكتبنا رسائل، أكلنا وشربنا وفعلنا من الأفعال وأدركنا من الأمور ما لا يقوى إنسان على إحصائه – كان ذلك فقط بالأمس، حلم اليقظة الزاهي بالأمس. فكم من تلك التفاصيل لا يزال في ذاكرتنا اليوم أو كم منها نستطيع أن نسترجع مهما أتينا من جهد؟ إن معظم أحلام حياتنا بالأمس يتلاشى تمامًا في غياهب نسيان لاوعينا، شأنها شأن أحلام الليل سواء بسواء.

قد يُخشى من وجود شيء مَرَضيٍّ في التكهنات السابقة ومن أن من شأن الجهد لرؤية حياة يقظتنا بوصفها مجرَّد نوع خاصٍّ من النوم أن يقلِّل من أهميتها بنظرنا ومن أهميتنا من منظارها؛ ولكن هذا الموقف من واقع ممكن ومحتمَل هو بحدِّ ذاته موقف خجول حتى المرض. فالحقيقة هي أنه كما أن أول أعراض الاستفاقة، مثلما من أحلام الليل، هو الاشتباه في أن المرء يحلم، كذلك أول أعراض الاستفاقة من حالة اليقظة – اليقظة الثانية في الدِّين – هو الاشتباه في أن حالة يقظتنا الراهنة هي من قبيل الحلم سواء بسواء. معاينة أننا نيام هي أن نكون على وشك الاستيقاظ؛ ومعاينة أننا لسنا أيقاظًا إلا جزئيًّا هو الشرط الأول كي نصبح أيقاظًا بالفعل ونجعل أنفسنا أتمَّ يقظة.


* مقال مكتوب سنة 1925.

** ألفرد ريتشارد أوراج (1873-1934) فيلسوف وناقد أدبي بريطاني قام بمسح شامل لأهم التيارات الأدبية والنفسانية والسياسية والروحية التي ظهرت في أوائل القرن العشرين. قادته مهاراته الأدبية والطيف الواسع من اهتماماته إلى تحرير جريدة العصر الجديد عظيمة التأثير (1907-1922)، ثم انتقل من لندن إلى فونتنبلو للانضمام إلى المعلِّم گ.إ. گيورجييف للعمل في معهد التنمية المتناغمة للإنسان. في كانون الأول 1923، ذهب أوراج إلى نيويورك لمساعدة گيورجييف في أول زيارة له إلى أميركا، ثم ما لبث أن صار مقدَّمه، مشرفًا على العمل هناك. وفي أيار 1930، عاد إلى إنكلترا وتوفَّر على الشأن العام، فكان له دور أساسي في إحياء الاهتمام بالحركة الاشتراكية المسمَّاة “الائتمان الاجتماعي” التي ظلت قوة سياسية هامشية لعقود عديدة. وفي نيسان 1932، أسَّس جريدة جديدة، الأسبوعية الإنكليزية الجديدة، وكان يخطِّط للتعريف بمنهج گيورجييف فيها وفي غيرها عندما وافته المنيَّة. (المحرِّر)

[1] راجع، مثلاً، في الأناجيل: مرقس 13: 34-37؛ لوقا 12: 35-40 و21: 34-36؛ متى 26: 36-46؛ لوقا 22: 45-46؛ يوحنا 3: 3-8؛ وفي الرسائل: روما 5: 12-21 و6: 3-14؛ إفسس 5: 14؛ بطرس الأولى 1: 23. (المحرِّر)

[2] هنريك إبسن (1828-1906) كاتب نرويجي كتب مسرحيات فلسفية واجتماعية، منها: بيت الدمية (1879) والبطة البرِّية (1884)؛ هربرت جورج ويلز (1866-1946) روائي بريطاني كتب روايات خيال علمي، منها: الرجل الخفي (1897) وحرب العوالم (1898). (المحرِّر)