رسالة في الحب*
(نقلاً عن اللسان التيبتي بتصرف)
ألفرد ر. أوراج**
عليكم أن تتعلَّموا التمييز بين ثلاثة أنواع من الحب على الأقل (مع أن هناك سبعة منها إجمالاً): الحب الغريزي، والحب العاطفي، والحب الواعي. لا خوف عليكم كثيرًا من عدم التمكن من تعلُّم النوعين الأولين، لكن النوع الثالث نادر ويتوقف على كلا الجهد والفطنة على حدٍّ سواء. أساس الحب الغريزي هو الكيمياء. البيولوجيا كلُّها كيمياء، أو لعلنا يجب أن نقول الخيمياء؛ وتوافقات الحب الغريزي، متجلِّيةً في التجاذبات والتنافرات والتراكيب الآلية والكيميائية التي نسمِّيها الحبَّ والمغازلة والزواج والأولاد والأسرة، ما هي إلا المكافئات البشرية لمختبَر الكيميائي. ولكن مَن الكيميائي هنا؟ إننا ندعوه الطبيعة. ولكن مَن هي الطبيعة؟ ترانا لا نحدس ماهيَّتها بأكثر مما يحدس الكافور الذي يطعِّم البَنْيان[1] وجود بستاني. مع ذلك، يوجد بستاني. لمَّا كان الحب الغريزي كيميائيًّا فهو في مثل قوة المواد والخواص التي هو تجلٍّ لها ويدوم بدوامها. … وهذه لا يعرفها ويقيسها إلا مَن يفهم السيرورة الخيميائية التي ندعوها الوراثة. لَحَظَ كثيرون أن الزيجات السعيدة أو التعيسة وراثية؛ وكذلك أيضًا هو عدد الأبناء وجنسهم وطول عمرهم إلخ. وعلم النجوم المزعوم ليس غير علم الوراثة – حين يكون علمًا – ممتدًّا على فترات طويلة.
لا يتجذَّر الحبُّ العاطفي في البيولوجيا. إنه، في واقع الأمر، أغلب ما يكون ضدًّا للبيولوجيا من حيث طبيعته واتِّجاهه. الحب الغريزي ينصاع لقوانين البيولوجيا، أي الكيمياء، ويتصرف بحسب التوافقات؛ أما الحب العاطفي فهو كثيرًا ما يكون تجاذبًا بين المتنافرات والمتضادات البيولوجية. والحب العاطفي، حين لا يترافق والحب الغريزي (وهو نادرًا ما يترافق)، قلما يثمر عن ذرِّية؛ وإذا اتفق له وأثمر، تراه لا يخدم البيولوجيا. غريبة هي الكائنات التي تنشأ من أحضان الحب العاطفي: حوريو وحوريات بحر، لحى زرقاء و”سيدات فاتنات عديمات الرأفة”[2]. الحب العاطفي ليس قصير الأجل وحسب، لكنه يستعجل ذابحَه أيضًا. مثل هذا الحب يولِّد الكره في محبوبه، وهذا إنْ لم يكن الكره موجودًا فيه سلفًا. سرعان ما يصير المحب العاطفي محلَّ عدم اكتراث، وبعد ذلك بوقت قصير، محلَّ كره. تلكم هي مآسي الحب العاطفي.
قلما تروج سوقُ الحب الواعي بين البشر؛ إنما يمكن إيضاحه في علاقات المرء مع ما يأنس له من مملكتَي الحيوان والنبات: ترويض الحصان والكلب عن حالتهما الطبيعية الأصلية؛ زراعة الأزهار والأشجار المثمرة – هذه أمثلة على شكل بدائي من أشكال الحب الواعي، بدائي لأن الدافع لا يزال أنانيًّا ونفعيًّا. باختصار، يبتغي الإنسان استخدام الحصان المدجَّن والشجرة المثمرة استخدامًا شخصيًّا، فلا يجوز وصف عمله عليهما أنه في سبيل الحب وحده. أما دافع الحب الواعي، في حالته المتفتحة، فهو تمنِّي أن يصل المحبوب إلى كماله الفطري، وذلك بصرف النظر عن العواقب على المحب: “لكي تصبح ذاتها كاملةً، ما أهميَّتي أنا؟”، يقول المحب الواعي؛ “سأذهب إلى الجحيم لا لشيء إلا لكي تذهب هي إلى النعيم”. والمفارقة في الموقف هي أن مثل هذا الحب يستحضر مثيله عند المحبوب: فالحب الواعي يلد الحب الواعي. إنه نادر الوجود بين البشر: في المقام الأول، لأن الغالبية العظمى أطفال تتطلَّع إلى أن تُحَبَّ، لا إلى أن تُحِبَّ؛ وثانيًا، لأن الكمال قلما يُتَصوَّر بوصفه الغاية اللائقة بالحب البشري – مع أنه وحده ما يفرز حبَّ الراشدين من البشر من حبِّ الأطفال والحبِّ الحيواني؛ وثالثًا، لأن البشر لا يعرفون، حتى وإنْ تمنَّوا أن يعرفوا، ما يصلح لِمَن يحبون؛ ورابعًا، لأنه لا يحدث مصادفةً، بل يجب أن يتصف بالعزيمة والجهد والخيار الواعي الذاتي. فكما أن البوشيدو[3] أو رتبة الفروسية لم ينشآ عَرَضًا، كذلك لا ينشأ الحب الواعي بالطبيعة؛ وكما أن هذين من أعمال الفن، كذلك الحب الواعي يجب أن يكون عملاً فنيًّا. مثل هذا المحب يلتحق بسلك العشق، ويسلك في فترة تدرُّبه، ولعلَّه بالغٌ ذات يوم مرتبة الأستاذية. إنه يعمل على اكتمال نفسه، لعل تمنِّيه كمالَ محبوبه يصفو، فيُعينه على بلوغ هذا الكمال.
فهل للمرء أن يلتحق بخدمة الحب الواعي هذه؟ فليجتنب الرغبة والتصور المسبق الشخصيين. إنه يتأمل محبوبه. أي صنف من النساء (أو الرجال) هي (أو هو)؟ ثمة سرٌّ هاهنا: رائحة عطر من الكمال، نفحتُه الوليدةُ جديرةٌ بالتعبُّد الخاشع. كيف يمكن لهذا الكمال أن يتحقق؟ – لمجد المحبوب ولمجد الله خالقه. فليتفكَّرْ، هل هو مستحق؟ ليس بوسعه أن يقرَّ إلا أنه ليس مستحقًّا. مَن لا يقدر أن يزرع الزهور أو يُحسِن معاملة الكلاب والخيول كيف له أن يتعلَّم الكشف عن كمال لا يزال مكنونًا كالبذرة في المحبوب؟ لا مناص من التواضع، ومن ثَمَّ التحمُّل العَمْد. إذا لم أكن مستيقنًا مما هو مناسب لكمالها، فلأفسحْ لها في المجال أن تتبع ميلها على الأقل. وفي غضون ذلك أن أدرس: ما هي عليه، وما يمكن أن تصير عليه؛ ما تحتاجه، ما تتوق إليه نفسُها دون أن تجد له اسمًا، وأقل من ذلك، غرضًا يقابله. أن أتوقع اليوم حاجاتها في الغد – وهذا من دون أيِّ دراية في أثناء ذلك بما قد تعنيه حاجاتُها بنظري. سترون، أبنائي وبناتي، أيَّ انضباط ذاتي وتربية للنفس مطلوبين هنا. ادخلوا هذا الغاب المسحور، يا مَن تجسرون! الآلهة تحب بعضها بعضًا حبًّا واعيًا، والمحبون الواعون يصبحون آلهة.
يتباهى القوم، بلا حياء، أنهم عشقوا أو يعشقون أو يأملون أن يعشقوا – وكأن الحبَّ كافٍ أو يقدر أن يستر حشدًا من الخطايا. لكن الحب، كما رأينا، حين ليس حبًّا واعيًا – أي حبًّا يبتغي أن يكون حكيمًا في خدمة المحبوب وأهلاً لهذه الخدمة معًا –، هو إما توافُق أو تنافُر، وفي كلتا الحالين غير واعٍ على حدٍّ سواء، أي غير مسيطَر عليه. مثل هذه الحال من الحب خَطَرٌ إما على النفس وإما على الآخر وإما على كليهما معًا. تستقطبنا عند ذاك قوة طبيعية (لها أغراض تخدمها بصرف النظر عن أغراضنا) وتشحننا بقوَّتها؛ ويكون من محاسن المصادفات ألا نعطب أحدهم من جراء حملنا الديناميت بتهوُّر. الحب من غير معرفة ولا قدرة يتلبَّس بمسٍّ من الشيطان. فهو من دون المعرفة قد يدمِّر المحبوب. مَن منَّا لم يَرَ أكثر من محبوب أشقاه “حبيبُه” وأسقمه؟ من دون قدرة لا بدَّ للمحب أن يصير شقيًّا، بما أنه لا يقوى أن يفعل لحبيبته ما يتمنَّاه ويعرف أنه يسرُّها. على البشر أن يُصَلُّوا، علَّهم يُجنَّبون خبرةَ الحبِّ من غير حكمة وقوة؛ أو عليهم، إذ يجدون أنفسهم قد أحبُّوا، أن يُصَلُّوا كي ترشد المعرفةُ والقدرةُ حبَّهم. فالحب لا يكفي.
“أحبكِ”، قال الرجل. “عجبًا أنِّي لا أشعر منك بأنِّي أحسن حالاً”، قالت المرأة.
تستبين حقيقة الحب في الترتيب الذي جاء عليه الدِّين إلى العالم. جاء أولاً دين القدرة، ثم جاء دين المعرفة، وأخيرًا جاء دين الحب. لماذا على هذا الترتيب؟ لأن الحب دون الصفتين السابقتين خَطِر. إنما ليس المقصود من هذا القول إن التوالي كان شيئًا أكثر من الحيطة: باعتبار أن القدرة وحدها، مثلها كمثل المعرفة وحدها، أقل خطرًا من الحب وحده ليس إلا. يقتضي الكمالُ التزامنَ بدلاً من التوالي؛ والترتيب ليس إلا دليلاً أنه، نظرًا لحتمية التوالي (حيث إن الإنسان خاضع لبُعد الزمن الذي هو التوالي)، كان من الخير الابتداءُ بالمستبدَّين الأقل خطرًا وترك الحب للآخِر. قيل عن رجل حصيف إنه كلَّما شعر بنفسه عاشقًا علَّق برقبته جرسًا صغيرًا لتحذير النساء من خطره. لسوء حظهنَّ تفادَين الجرس أكثر مما ينبغي، ومن ثَمَّ فقد عانى الأمرَّين!
فإلى أن يكون عندكم من الحكمة والقدرة مقدار ما عندكم من حب، استحوا، أبنائي وبناتي، من التصريح بأنكم عاشقون. أو بما أنكم غير قادرين على كتم حبِّكم، أحبُّوا متَّضعين وتعلَّموا كيف تكونون حكماء وأشداء. تشوَّقوا أن تكونوا أهلاً للحب.
جميع المحبِّين الحقيقيين منيعون على الجميع ماعدا محبوبهم. وهذا يحدث لا على التمنِّي ولا عن جهد، بل بحُكْم محض الحب الحقيقي، أي التام. ما من داعٍ للتغلب على الإغواء: إنه لا يُختبَر. فالمناعة سحرية. علاوة على ذلك، تراها تحصل في أحيان أكثر مما يُظَنُّ عادة. فلأن “الخيانة” تتبدى، يُستنتَج من ذلك أن المناعة غير موجودة. لكن “عدم الإخلاص” لا يعود إلى الإغواء بالضرورة، لكنْ ربما – وغالبًا – إلى عدم الاكتراث. ولا سقوط حيث لا غواية. على الرجال أن يتعلَّموا التمييز في أنفسهم وفي النساء بين المناعة الحقيقية والمناعة المظنونة. فالثانية، مهما كانت بليغة، تعود إلى الخوف. وحدها الأولى ثمرة الحب. هناك رجل حصيف آخر، إذ رغب، رغبةَ الرجال والنساء كلِّهم في قلوبهم، في نوال المناعة في نفسه وفي المرأة التي أحبَّها، دبَّر الأمر على النحو التالي: ذاق طعم كثير من النساء وحضَّ حبيبته على تذوُّق طعم كثير من الرجال. بعد انقضاء بضع سنوات أيقن أنْ لا شيء إذ ذاك بإمكانه أن يغويه. أما هي، من الناحية الأخرى، فلم يكن عندها شك في نفسها منذ البداية. فهي قد ولدت والمناعة بها، بينما كان عليه أن يبلغها.
حال الحب ليست دومًا معرَّفة بالنسبة إلى محبوب واحد. عند أحد الأفراد طِلَّسْمُ رفع فردٍ آخر إلى مرتبة الحب (أي استقطابه أو استقطابها بطاقة الحب الطبيعية)؛ لكن هذا الفرد الآخر قد لا يكون (أو تكون) عندئذٍ المحبوب الوحيد ولا، بالفعل، المحبوب إطلاقًا. ثمة بين الناس، مثلما بين المواد الكيميائية، عملاء للتحفيز يتيحون حدوث مبادلات وتراكيب لا يدخل فيها الحفَّازون أنفسهم. وكثيرًا ما لا يتعرف إليهم الأطراف المتأثرون، وفي العادة لا يتعرفون إلى أنفسهم أيضًا. في قرية بورنا، غير بعيد عن لهاسا[4]، عاش ذات مرة رجل كان مثل هذا الحفَّاز. كان كلُّ مَن يكلِّمه يقع في الحب توًّا، لكنْ ليس في حبِّه هو، أو بالفعل ليس على الفور في حبِّ أحد بعينه. كلُّ ما كان القوم يَعُونَه هو أنهم كانوا ينالون، بعد الحديث معه، روحَ حبٍّ فاعلاً، متأهبًا لبذل ذاته في خدمة مُحِبَّة. ولعل التروبادور[5] الأوروبيين كانوا من هذه الفئة من القوم.
ليس ثمة علاقة ضرورية بين الحب والأولاد، بيد أن ثمة علاقة ضرورية بين الحب والخلق. الحب للخلق؛ وإذا لم يكن الخلق بالإمكان فهو للإنجاب؛ وإذا لم يكن ذاك حتى ممكنًا فهو للإبداعات التي لسنا، ربما لحسن الحظ، نعيها. إنما دونكم الحقيقة الأساس عن الحب: إنه خلاق دومًا. لقد خلق الحبُّ العالم: وليست أعماله كلُّها جميلة! إنجاب الأولاد هو الوظيفة التي يختصُّ بها الحب الغريزي: تلك هي مرتبته. ولكن فوق هذه المرتبة وتحتها، لأنواع أخرى من الحب وظائف أخرى. الحب العاطفي، عادةً، حبٌّ غريزيٌّ في غير محلِّه؛ والعاقبة على أفراد ذرِّيته أنهم غير متكيِّفين في العالم. أما الأشكال الأسمى من الحب، من ناحية أخرى، فهي إما تستبعد الإنجاب، لا على نحوٍ مفتعَل بل طبيعي، وإما تشمله ناتجًا ثانويًّا وحسب. فلا قصد الحب الواعي ولا وظيفته هم الأطفال – إلا إذا أخذنا الكلمة على محملها الصوفي: أن نعود أطفالاً صغارًا. بوجيز القول، غاية الحب الواعي إحداث الولادة الجديدة أو الطفولة الروحية. كلُّ صاحب إدراك أبعد من إدراك الذكر والأنثى لا بدَّ أن يكون بصيرًا بالتغير الذي يطرأ على مَن يحب، رجلاً كان أو امرأة، مهما تقدَّمت به السنُّ أو بها. الأمر غريزي عادةً؛ ومع ذلك فهو يرمز إلى التغير الأروع الذي يحصل أيضًا حين يحب رجل (أو امرأة) حبًّا واعيًا أو يتبصَّر بأنه محبوب حبًّا واعيًا. للشباب في مثل هذه الحالات سمات الأبدية كلُّها؛ وهو، بالفعل، الشباب الإلهي. إن إبداعات مثل هذا الطفل الروحي في كلٍّ من الحبيبين هي الوظيفة التي يختصُّ بها الحب الواعي؛ وهو لا يتوقف على الزواج ولا على الأولاد. هناك إبداعات أخرى تخصُّ درجات أسمى من الحب أيضًا، لكنها يجب أن تبقى مكتومة إلى أن نصبح كالأطفال الصغار.
لسنا واحدًا، بل ثلاثة في واحد؛ ولهذا الواقع ما يمثِّله في بنيتنا النفسانية. توجد الأجهزة الرئيسية الثلاثة – المخِّي والعصبي والغريزي – جنبًا إلى جنب، ظاهرةً أحيانًا وكأنها تتعاون، لكنها في كثير من الأحيان تقصِّر، وعادةً في مقاصد متضاربة. فيما يتصل بالعالم الخارجي، تتوقف طبيعة الاستجابة لأيِّ تنبيه معطى على الجهاز المسؤول عن العضويَّة في تلك اللحظة: إذا كان الجهاز المخِّي في الخدمة – أي مسؤولاً مؤقتًا عن العضويَّة – تكون الاستجابة على غرار بعينه؛ وإذا كان الجهاز العصبي أو الغريزي وحده يقظًا تكون الإجابات على غرار آخر. يوجد فينا، في آنٍ معًا، ثلاثة أناس مختلفين تمامًا، لكلٍّ منهم أفكاره عن كيفية تصرُّف عضويَّته: وهم عادةً ما يرفضون التعاون فيما بينهم، لا بل يعرقل بعضهم بعضًا بالفعل. تخيَّلوا الآن مثل هذه العضويَّة، يقيم فيها ثلاثة أشخاص يتشاجرون، وقد “وقعت في الحب”. ماذا وقع في الحب؟ أو، بالأصح، أيُّ الثلاثة؟ نادرًا ما يحدث أن يحب الثلاثة في الوقت نفسه أو يحبون المحبوب نفسه. يحب أحدهم، أما الآخران فلا؛ فإما أن يقاوما، وإما، إذ يكون المحب متغيبًا، يزيِّنان لعضويَّته عدم الإخلاص (دافعيَن المحبَّ المسكين إلى الكذب أو المخادَعة أو إلى لوم نفسه)؛ أو يُكرَهان على الإذعان، يُوسَعان ضربًا حتى الخنوع. في مثل هذه الظروف، التي خَبِرَها قطعًا كلُّ قارئ صادق، ما هو المحب؟
لعلكم تتصوَّرون أنكم أعفَّاء وعفائف لأنكم امتنعتم عن العلاقات الجنسية؛ غير أن هناك عفَّة للحواس كعفَّة الأعضاء سواء بسواء، وخصوصًا عفَّة العينين. فمن كلِّ واحدة من الحواس تتدفق طاقة – طاقة تتنوع بتنوع الإنسان نفسه. ليس من الممكن وحسب، بل من المؤكد أن بوسعنا أن نستهلك أنفسنا فكريًّا أو عاطفيًّا أو جنسيًّا بواسطة أيِّ واحدة من الحواس. النظر بشهوة هو أكثر بكثير من مجرَّد النظر: إنه استهلاك لواحدة من أدقِّ المواد التي تتألف منها الطاقة الجنسية التامة: شيء يمرُّ بواسطة فعل الرؤية لا يعوَّض؛ ومن جراء العوز إليه تكون الحياة الجنسية اللاحقة غير تامَّة. يصحُّ الأمر نفسه على الحواس الأخرى، إنما يُدرَك بسهولة أقل. باختصار، من الممكن للرجل أن يصير عنينًا تمامًا بواسطة الحواس وحدها – أجل، بالعينين فقط – بينما يظل متعفِّفًا بالمعنى العادي للكلمة.
عفَّة الحواس طبيعية عند ثلَّة من الناس، لكن على الكثرة أن تكتسبها إنْ أريدَ لها أن تصير شائعة. إبَّان عهد حضارة من أعظم الحضارات التي عرفها تاريخ البشر، تلك التي كانت عاصمتها المدينة التي أمست أطلالُها البائسةُ بغداد، كانت عفَّة الحواس تُعلَّم منذ الصغر. كانت كلُّ حاسة تدرَّب بعناية، وقد استُنبطَت تمارين خاصة لتمكين التلامذة من التمييز بين الفيوض المختلفة الآتية من المدركات الحسِّية المدفوعة فكريًّا أو عاطفيًّا أو غريزيًّا أو عشقيًّا. من هذه التربية كان الناس يكتسبون القدرة على توجيه حواسهم، ونتيجة ذلك كانت العفَّة على الأقل ممكنة، بما أنها كانت تحت السيطرة. وبذلك أصبح العشق فنًّا، في أسمى صورة رآها العالم؛ وأصداؤه الخافتة مازالت باقية إلى اليوم في الأدبين الفارسي والصوفي. أما ذو اللحية الزرقاء والسيدة الفاتنة فهما النمطان المذكر والمؤنث على التوالي للنفسانية عينها – ملهِما هوى عضال من جراء عدم قابليته للمبادلة. السيدات مقطوعات الرأس المعلَّقات حول حجرة اللحية الزرقاء كنَّ في الحقيقة معلَّقات حول رقبته؛ ولم يكن عليهنَّ إلا أن يسرِّحن ليتحرَّرن. بالمثل، كان المحاربون والأمراء الشاحبون في كهف السيدة الفاتنة هناك بمحض خيارهم، إنْ صحَّ أن يُدعى جذبٌ لا يُقاوَم خيارًا. تقدِّم الحكايات اللحية الزرقاء والسيدة الفاتنة من منظار الناجين بين ضحاياهما، أي لنَقُلْ، بصفتهما وحشين مسرورَين بقرابين العشق؛ لكنْ كلاهما كان، بالقدر ذاته، ضحيةً لضحاياه الاسميين، وكلاهما عانى بالقدر ذاته، إنْ لم يكن أكثر. في مثل هذه الحالات من الجذب الخارج عن السيطرة، تمرُّ القدرة عبر الوسيط الذي يصير بذلك صاحب جاذبية قاهرة؛ والرجال والنساء ذوو العلاقة الودِّية ينجذبون إليه (أو إليها) انجذاب برادة الحديد إلى المغناطيس. في البداية، ولا ريب، تكون خبرات اللحية الزرقاء أو السيدة الفاتنة سائغة ومعزِّزة للكبرياء والغرور: فالجنس الآخر راكع عند قدميهما. لكنهما، ما إنْ يدركا أن القدرة ليست ملكهما، ولا هي تحت سيطرتهما، حتى يكتشفا أنهما ضحيَّتان أيضًا، والالتذاذ الأول يُدفَعُ ثمنُه باهظًا. العلاج لجميع الأطراف عسير، وهو عبارة عن إعادة تربية الجسم والحواس.
الحب بلا عِرَافة حبٌّ ابتدائي. يقتضي الحب أن يتكهَّن المحبُّ بأماني الحبيبة قبل ظهورها في وعي الحبيبة بوقت طويل. إنه يعرفها خيرًا مما تعرف نفسها، ويحبُّها أكثر مما تحب نفسها، بحيث تصير ذاتَها التامة من دون جهدها الذاتي الواعي. وجهدها الواعي، حينما يكون الحب متبادَلاً، يكون له. وبذا يعمل كلٌّ مسرورًا في سبيل الكمال في صاحبه.
لكن هذه الحالة لا يتمُّ بلوغها عادة بالطبيعة: إنها ثمرة الفن، ثمرة التمرُّس. جميع الناس يتشوَّقون إليها، حتى أكثرهم تهكُّمًا؛ لكنْ بما أنها نادرًا ما تحدث مصادفةً، وبما أنه لم يَبُحْ أحدٌ بمفتاح إبداعها، فإن الأكثرية الغالبة يشكُّون حتى في إمكانها. لكنها مع ذلك ممكنة، شريطة أن يستطيع الطرفان التعلُّم والتعليم متَّضِعَين. من أين البداية؟ فليتفكَّر المحب، إذ يوشك على رؤية محبوبته، فيما يجب عليه أن يأخذ أو يفعل أو يقول بحيث يقدِّم لها مفاجأة سارَّة. لعلَّها في البداية ستكون مفاجأة ليست مفاجأة تامة: بمعنى أنها تكون متبصِّرة بأمنيتها، ويسرُّها فقط أن حبيبها خمَّن ما هي. فيما بعد، يمكن للمفاجأة السارَّة أن تفاجئها حقًّا، فيكون تعليقها: “كيف عرفتَ أنني سأُسَرُّ، بما أنِّي ما كنت لأخمِّنها بنفسي أبدًا؟” إن الجهود الدائبة لاستباق أماني المحبوب الوليدة وهي لا تزال غير موعيَّة بعدُ هي السبيل إلى الحب الواعي.
أمسِكْ بإحكام؛ سرِّحْ برفق – هذا واحد من أعظم أسرار الغبطة في الحب. مقابل كلِّ مأساةٍ يكابدها روميو وجولييت ناجمةٍ عن الظروف الخارجية للطرفين، تنجم ألف مأساة عن الظروف التي يختلقها الحبيبان بالذات. فكما أنهما من النادر أن يعرفا لحظة “إمساك” واحدهما بالآخر أو طريقته، كذلك من الأندر حتى أن يعرفا طريقة “التسريح” أو لحظته. وِهَاد جبل ميرو[6] (أي جبل الزهرة) حافلة بعشَّاق لا يقوون على هجر بعضهم بعضًا. يتمنَّى كلٌّ منهما أن يسرِّح، لكن الآخر لا يسمح بذلك. هناك تفسيرات شتى لهذا الوضع التَّعِس. معظم هذه الأحيان يعود إلى مقاربة خاطئة: بمعنى أن الطرفين قفزا إلى الجماع من دون تحسُّب للمخرج. كثيرًا ما تكون الدقائق الخمس الأولى من لقاء الحبيبين الأول حاسمة لمستقبل العلاقات كلِّه. في بعض الأحيان، تكون العلاقة الأصلية مسؤولة عن صعوبة “التسريح” لاحقًا: فهي ما كان يجب أن تكون أبدًا، أو ما كان يجب أن تكون في ظروف وقوعها بعينها. فعلاقات التوقيت الخاطئ تسبِّب مشاكل دومًا. في حالات أخرى، تعود الصعوبة إلى فوارق في العمر أو التربية أو “الماضي”. يخشى المرء أن “يسرِّح” لأن الأمر يبدو وكأنه الأمل الأخير، أو لأن وقتًا أكثر مما ينبغي سبق أن صُرِفَ عليه، أو لأنه كان الأفضل حتى تاريخه، أو لأن “مثاله” (وهو من اختلاق التربية) يتطلب الإخلاص الأبدي، حتى حيث لا يكون ممكنًا لأن كلاهما لا يرغب فيه؛ أو لأن عند أحدهما حساسية مفرطة من خبرته الماضية ولا يقوى على مواجهة إخفاق آخر، أو لأن الجسد، ضعيفًا، يوهن الروح، أي لا يقوى أيٌّ من الطرفين على استعمال سكِّين؛ أو لأن الظروف غير مواتية، أي توجب على الطرفين أن يستمرَّا في رؤية بعضهما بعضًا؛ أو بسبب من الخيال، كما يحدث حين يتصور الواحد أو الآخر سعادة الآخر من دونه (أو من دونها). هناك ألف تفسير، وكلٌّ منها، إذ يكفي سببًا، ليس مناسبًا البتة بوصفه علَّة، حيث الواقع هو أنه حين يرغب أحد الطرفين في الانفصال فمن واجب-حبِّ الطرف الآخر أن “يسرِّح”. صفة الحب العظيم أنه يقوى على كلا التسريح والإمساك.
الغيرة هو التنين في الفردوس؛ وهي جحيم النعيم؛ وهي أمرُّ العواطف لأنها مرتبطة بأحلاها. هناك دواء مخصوص للغيرة، ألا وهو الحب الواعي؛ لكن هذا الدواء أصعب منالاً من مكابدة الداء. غير أن هناك مسكِّنات، شرطها العلاجي الأول هو اعتراف المرء بالداء والثاني هو تمنِّيه علاجَ نفسه. في هذه الظروف فليختبر المريض عن قصد مترويًا. قد يُغفَرُ له (أو لها) الكثيرُ في أثناء هذه العملية. يجوز له، مثلاً، أن يحاول متابعة الخطط الجديدة لمحبوبه السابق – لكن هذا صعب دون نفاق صريح. أو قد يغطس في مجتمع جديد. أو قد ينخرط في عمل جديد يتطلب طاقتَه كلَّها. أو قد يطوي ذكرياته طيَّ النسيان ويعدُّ حبيبته السابقة كأنها ميتة؛ أو كأنها صارت أخته؛ أو كأنه رحل بعيدًا في سفر طويل؛ أو كأنه صار مفتونًا. بيد أن الأفضل هو أن يستطيع سبيلاً إلى “التسريح” التام بلا أملٍ عالِقٍ في لقائها يومًا من جديد.
ولكم في ذلك عزاء. ما حياتنا الصغرى غير يوم واحد من حياتنا الكبرى. إنْ ليس اليوم ففي الغد! سرِّحوا!
* نُشِرَتْ هذه الرسالة للمرة الأولى في جريدة الجمهورية الجديدة (نيويورك) في كانون الأول 1929، ثم صدرت في كتاب من 24 صفحة سنة 1932؛ قيل إن أوراج كتبها بعد محادثة ليلية متأخرة مع معلِّمه گ.إ. گيورجييف.
** ظهر الفيلسوف والناقد الأدبي الإنكليزي ألفرد ريتشارد أوراج (1873-1934)، المولود وسط فقر الطبقة العاملة البريطانية في القرن التاسع عشر، مسلَّحًا بحدٍّ أدنى من التعليم وبفطنة طبيعية فذة وبشوق لا يفتر إلى الفهم، مؤهَّلاً لإجراء مسح شامل لأهم التيارات الأدبية والنفسانية والسياسية والروحية التي ظهرت في أوائل القرن العشرين. قادته مهاراته الأدبية والطيف الواسع من اهتماماته إلى تحرير جريدة العصر الجديد عظيمة التأثير من سنة 1907 حتى سنة 1922، عندما انتقل من لندن إلى فونتنبلو للانضمام إلى السيد گيورجييف. في كانون الأول 1923، ذهب أوراج إلى نيويورك لمساعدة گيورجييف في أول زيارة له إلى أميركا، ثم ما لبث أن صار مقدَّمه، مشرفًا على العمل هناك. في أيار 1930، عاد إلى إنكلترا وتوفَّر على الشأن العام، فكان له دور أساسي في إحياء الاهتمام بالحركة الاشتراكية المسمَّاة “الائتمان الاجتماعي” التي ظلت قوة سياسية هامشية لعقود عديدة. في نيسان 1932، أسَّس جريدة جديدة، الأسبوعية الإنكليزية الجديدة، وكان يخطِّط للتعريف بمنهج گيورجييف فيها وفي غيرها عندما وافته المنيَّة. (المحرِّر)
[1] شجرة التين الهندي ذات الجذور الهوائية. (المحرِّر)
[2] حكاية “اللحية الزرقاء” Barbe-Bleue من الأقاصيص الشعبية التي دوَّنها شارل پرُّو، وهي تروي قصة رجل ثري مقيم في قلعة منيعة، ذي لحية زرقاء تصيب النساء بالخوف والقرف. قيل إنه تزوج مرارًا دون أن يُعرَف مصيرُ زوجاته؛ لكنه، مع ذلك، كان يطلب ودَّ جاراته، لكنْ دون أن تتجرأن على القبول. أخيرًا، قبلت إحداهن، وقد اجتذبتها ثروة الرجل. بعد شهر من زفافهما، اضطر اللحية الزرقاء إلى سفر طارئ، فأعطى زوجته الشابة حلقة مفاتيح تفتح جميع أبواب القلعة، ماعدا حجرة صغيرة حرَّم عليها دخولها تحت أيِّ ظرف. قامت زوجته في غيابه، بدافع الفضول الشديد، بفتح الحجرة واكتشفت جثث جميع زوجاته السابقات معلقةً على الحائط مقطوعات الرأس. وإذ أصابها الهلع، وقع منها مفتاح الحجرة على الأرض وتلوث بالدم، فحاولت إزالة بقعة الدم، لكنْ بلا طائل، لأن المفتاح مسحور. … أما “السيدة الفاتنة عديمة الرأفة” La Belle Dame sans Merci فهي قصيدة للشاعر الإنكليزي جون كيتس (1819) تبدأ بوصف فارس مجهول يضرب في أرض جرداء، ما يلبث أن يقصَّ لقاءه بامرأة شابة غامضة، فاتنة، ذات “عينين برِّيتين”، تقول عن نفسها إنها “ابنة جنِّية”. وبعد أن صحبت الفارس على متن حصانه وأطعمته وأنشدت له وباحت بحبِّها، حتى وصلا إلى كهف مسحور، حيث بكت وتنهدت، ثم هدهدته حتى نام، تراءى له ملوك وأمراء ومحاربون شاحبون “شحوب الموت” يصرخون: “السيدة الفاتنة عديمة الرأفة قهرتك!” ولما أفاق من نومه مذعورًا وجد نفسه عند جانب “التلَّة الباردة” نفسها، ثم واصل هيامه على وجهه. (المحرِّر)
[3] حرفيًّا: “درب المحارب”؛ وهي كلمة يابانية تُطلَق على قواعد سلوك طريقة المحاربين الساموراي. (المحرِّر)
[4] عاصمة التيبت، وفيها الپوتالا، المقر القديم للدالاي لاما. (المحرِّر)
[5] لقب كان يُطلَق في العصور الوسطى العليا (1100-1350) على الشعراء الجوالين، ملحِّنين ومؤدِّين، باللسان الأوكستاني القديم. شكَّل هؤلاء الشعراء مدرسة شعرية فذة في أواخر القرن الحادي عشر في أوكستانيا، جنوب فرنسا، انتشرت لاحقًا في أنحاء أخرى من أوروبا، كإيطاليا وإسپانيا وحتى اليونان. (المحرِّر)
[6] جبل ذهبي أسطوري يُعَدُّ في الميثولوجيا الهندية مركز الكون ومقام الآلهة. (المحرِّر)