في الحريَّة وإستراتيجيَّات التهرُّب
ديمتري أڤييرينوس
على طالب الحرية أن يكون متأهبًا لمواجهة كلِّ ما تفاداه وهو يطلبها. فمحالٌ أن ينال طالب الحرية ما ينشُد قبل أن يواجه أولاً ما تحاشاه أو تهرَّب منه.
في حياة الإنسان، حتى إذا كانت هانئة في الظاهر، جروح عديدة، يعود بعضها إلى سني الطفولة المبكرة. لا بل إن طيف الجروح الإنسانية كلَّه حاضر في كلِّ إنسان، بشكل أو بآخر. بعضهم ينجح في تضميد جروحه النفسية، فيواصل ببساطة حياته اليومية؛ لكن من المشكوك فيه أن يفلح في شفاء هذه الجروح التي تظل تنزُّ، معكِّرةً عليه راحة باله. هذا الإخفاق بحدِّ ذاته أمر جيد لأنه يعني أن الجرح يتطلب العناية؛ إذ إنه أشبه بحصاة في الحذاء تظل تعرقل السير مادام السائر لم يهتم بإخراجها.
بالطبع، لا يدخر الناس وسعًا للتخلص من هذا الألم الممضِّ بطرق شتى، ذهنية ومادية. إن الهدف غير المعلَن من غالبية نشاطاتنا الذهنية هو أساسًا التهرُّب من هذا الجرح الأوليِّ بتحاشي ما يذكِّرنا به. بعضهم يُغرِقُ نفسَه في النشاط الفكري والثقافي وفي “الحراك” الاجتماعي، أو يلجأ حتى إلى ما يسمِّيه “الحياة الروحية”، على أمل أن يخفف ذلك عنه وجعَه. ولا ريب هنا أن أحد مقاييس أصالة أيِّ تعليم روحي حي هو قدرته على وضعِنا، بلا شفقة وبكلِّ رحمة، في قلب الجرح رأسًا.
بيد أن جرحنا الأعمق لا اسم له. بوسعنا أن نسمِّيه – تجاوزًا – “الشرط البشري” أو “الألم الوجودي”. غريزة الهروب قوية، وآليات التفادي التي تبتكرها معقدة للغاية، لكنها هي التي تعيدنا أخيرًا إلى نقطة الصفر، إلى مواجهة جرحنا الأصلي. إذ يبدو أن نضج الإنسان يتمُّ عبر مختلف محاولات التهرُّب، حتى يتبيَّن له أن الجرح إيَّاه لا يزال مفتوحًا بانتظاره وأنه لن يتحرَّر قبل أن يواجهه.
يلجأ الناس إلى فنون العلاج النفسي طلبًا لاندمال جروحهم. للعمل النفسي قطعًا فائدة لا ريب فيها؛ إذ إنه يساعد أحيانًا على تحقيق قدر من النضج الذهني، ولاسيما فيما يخصُّ الكشف عن آليات الدفاع المستحكمة وردود الفعل الساذجة التي تفضح هشاشتنا الداخلية. لكن المساعدة التي يقدِّمها التحليل النفسي (مثلاً لا حصرًا) لا تتعدى ذلك عمومًا: فمع أنه يتيح وعي بعض المشكلات ويحيط بأسبابها المنسيَّة في اللاوعي، إلا أنه لا يبلغ من الألم الوجودي جذرَه العميق. إنه قد يساعدنا فقط على اكتشاف أن جذر هذا الألم باقٍ ومستمرٌّ على الرغم من جميع الخبرات النفسية والمعلومات الذهنية التي نحصِّلها تهرُّبًا من مواجهته؛ وبهذا المعنى، فإن مساعدته لا يُستهان بها.
عند هذه النقطة بالذات نتساءل: ما الذي من شأنه أن يرفع عنَّا هذا الألم نهائيًّا، لا أن يخفف من وطأته وحسب، لا أن يجعلنا “نتأقلم” معه فقط؟ إذا اتفق لأحدهم أن يخضع للتحليل النفسي عشر سنوات بطولها – والكلام هنا عن معرفة تحليلية مباشرة – وأساس الألم لا يزال قائمًا بعدها، لا بدَّ من الإقرار الجدي بأن أمرًا جوهريًّا، من طبيعة أخرى تمامًا، ينتظر الكشف عنه.
شفاء الجروح أمر حسن، ولا شك؛ فهناك علاج لكلِّ جرح، ولا مناص من علاج الجروح التي تذعن للعلاج. لكن المشكل هو الاعتقاد بأن اندمال جرح بعينه كافٍ لنيل الحرية الداخلية. يتناول العلاج الجرح العاطفي أو الذهني أو الرضَّ الجسماني، لكنه، بحُكْم محدوديَّته، لا يعبأ بالكشف عما هو فينا بالطبيعة تامٌّ، خالص، عما هو، في ماهيَّته الأصلية، حرية مطلقة وفرح محض. الحريةُ غير المقيَّدة بشيء كامنةٌ في الإنسان كُمونَ الشجرة في البذرة، في معزل عن حال جسمه، عن عواطفه وانفعالاته، عن ذهنه، وبالطبع، عن شروط معيشته.
هذا الكلام – وهو مجرَّد كلام بنظر مَن لا يلامسه! – دعوة إلى التحرر من الألم، وإنْ للحظة. ليس المقصود منه بالطبع تبلُّد الإحساس وتغييب الشعور بالألم أو الانزلاق إلى اليأس القاتل. هو مجرَّد دعوة إلى الكفِّ عن البحث عن شيء بقصد بلوغ التحرر من شيء. إذ ليس ثمة تحرُّر من شيء؛ ثمة حرية فقط.
لطلب الأمان في بُعده العملي معنى: إنه جزء من ميراثنا الحيواني، وهو الآلية التي ابتكرتْها الطبيعة لحماية الجسم من المخاطر التي قد يتعرض لها. يكمن المشكل في استعمالنا هذه الحاجة الطبيعية إلى الأمان الجسماني لتحويلها إلى آلية من آليات الذهن الدفاعية ضد الآخرين وأحكامهم، ومن ثَمَّ إسقاطها على هيئة مشكلات نفسانية معقدة. فأغلب البشر، كما يشخِّص سارتر بكلِّ براعة، يستطيبون القشرة التي يغلِّفون بها أنفسهم درعًا تقيهم المخاطر الآتية من الآخر المختلف، فلا يحرِّكون ساكنًا لتغييرها.
الحرية بسيطة بساطة الحياة. أما التعقيد فمصدره إستراتيجيات التهرُّب المحفورة في أذهاننا بطرق شتى. قد تشبه الإستراتيجية التي أعتمدها لذلك إستراتيجية شخص آخر، لكن أسلوبي في التهرُّب لا يشبه أسلوب غيري. هنا وحده الرصد الداخلي الصارم لمحتويات الذهن يتيح لنا التعرُّف إلى غريزة التفادي والهروب فينا والتوقف عندها ومواجهتها: هل هي عبارة عن شيء من رتبة جسمانية، ذهنية، عاطفية، سياسية؟ هل تتعلق بالخوف من الموت أم بالخوف من الحياة؟ لا مناص للمرء من مواجهة مخزونه الذهني بهذا الخصوص.
حالما يتمُّ تشخيص غريزة الهروب تشخيصًا واضحًا يوضع المرءُ أمام خيار حاسم: “لا” للهروب و”نعم” لمواجهة علَّة الألم. القدرة على الاختيار هي، في الظاهر، القدرة العليا للذهن، لكن “الخيار” الذي يواجهه المرء هنا من رتبة مختلفة تمامًا عن جميع الخيارات التي اتَّخذها سابقًا. فما إن يقول “نعم” للمواجهة بالكيان كلِّه، فتتوقف آلية التفادي والتهرُّب، حتى يبدأ الجوهر الداخلي، الحرُّ أبدًا، بالانكشاف من تلقاء ذاته في شدة عارمة وخفَّة مذهلة، وتُدرَك ماهيةُ الوجود الحق. إذ ذاك يحقُّ للمرء أن يبتهج لرؤية بعض جروحه يندمل وأن يحزن على بعضها الآخر الباقي – وبين البهجة والحداد، يلبث ساكنًا في الداخل، مقيمًا في حريته المطلقة أبدًا.
غير أننا مادمنا لم ننهض للفحص عن نفسنا تستبدُّ بنا هواجس تزعزع خيار المواجهة: تبرز مسوِّغات تحثُّنا على الاستمرار على ما نحن عليه، أو على إرجاء المواجهة، أو على التخفيف من حدَّتها. لكن الفحص الجدي يُستأنَف حالما يتساءل المرء صادقًا عما يريده فعلاً. فإذا كان مكتفيًا بمجرَّد التخلص من جروحه فإنه يواصل بحثه حتى يجد علاجًا يشفي جرحًا بعينه، فيخفف عنه الألم مؤقتًا. أما إذا كان يطلب الحرية فعلاً، فلا بدَّ أن تتاح له المساعدة الضرورية لمواجهة ما انفك يتفاداه، للتصدي لما تهيب به أحشاؤه حتى أن يتهرَّب منه، للتحديق إلى تلك اللحظة التي تستميت البشرية بأسرها في تحاشيها. ثمة عند ذاك قوة مهولة تتخلَّل كلَّ ظرف من ظروف حياته لتدلَّه على المساعدة التي يحتاج إليها. الدعم المطلوب حاضر دومًا، وأيدي الحياة ممدودة أبدًا. فإذا اختار المرء قبول المساعدة فلا مناص له من قبولها تامة من غير تردُّد ولا تلكؤ.
إنه الغوص عميقًا في القلب من وجودنا. من شأن خبرة الجرح الماضي أن تجعلنا نعتقد أن ما ينطوي عليه قلب وجودنا مرعب حقًّا. لقد حظينا بشرف لقاء أشخاص من أصحاب جروح عميقة جدًا، تتراوح بين الذُّهان وبين العُصاب العادي (الذي قلما ينجو منه أحد في عصرنا)؛ لكننا لم نصادف أحدًا مستعدًّا فعلاً لمواجهة ألمه إلا وانتهى إلى إيجاد سلام وجوده الأصلي وحريته. فلم لا نتوقف ونفحص عما يدفعنا إلى الهرب؟ – لا لأن هذه هي الغاية المطلوبة، لا لأننا سنجني من ذلك شيئًا، بل لأنه ربما الشوط المقبل من أشواط نضجنا الطبيعي: تمخَّضت المادة الجامدة فولدت الماس، تمخَّض النبات فولد الزهرة، تمخَّضت الزواحف فولدت الطيور، إلخ؛ فلم لا يتمخَّض البشريُّ فيلد الإنسان؟!
في الإنسان الجديد، وليد البشريِّ القديم، نجد النضارة ونستعيد البراءة، نكتشف القدرة الكامنة في مجرَّد الوجود المحض – دون طلب للَّذة، دون نبذ للألم، دون تمسُّك بديمومة الحياة، دون تحاشٍ لرهبة الموت. في ذاك الوجود المحض نكتشف بُعدًا داخليًّا يتصادى أعمق فأعمق عبر طبقات الجسم والذهن، إلى أن يكفَّ ذهننُا عن تسويغ سعيه في طلب اللذة وتحاشيه الألم. ثمة كنز، هو حرية الوجود المحض، ينادينا من كهفه: “تعال وادخل!” وبما أن الكهف ظل مخبوءًا منذ قديم الزمان فإننا غالبًا ما نتخيَّله مظلمًا، قبيحًا، عصيًّا على الدخول؛ وقد نصح لنا “العقلاء” بتفادي خطر النظر إليه مباشرة، حتى إن حياتنا الاجتماعية كلَّها متمحورة حول هذه النصيحة! لكن حسبنا، لحسن الحظ، أن نتجاهلها هنيهاتٍ حتى نستجيب لرغبتنا القاهرة في معرفة مَن نحن. وأجمل ما في الأمر أن بمقدورنا أن يستعين بعضنا ببعض على هذه المعرفة التي تفوق أبعد شطحات مخيِّلتنا – إذ إن كلاًّ منَّا للآخر مرآة!
أجل، حسبنا لفعل ذلك هنيهات من فحص النفس المباشر، من غير استنكار ولا إدانة. فلينظرْ كلٌّ منَّا في نفسه وليتعرفْ إلى ما انفك يتحاشاه، إلى الجرح الذي يأمل في شفائه كي يتحرر؛ فليدعْ انتباهه – شعاع ليزر الإدراك – يكشف له بالدقة عن آلية التحاشي وعن إستراتيجيات التهرُّب، وليترك الإجابة تأتيه من تلقاء ذاتها. فليسألْ نفسه صادقًا: ماذا أحاول أن أتحاشى؟ – لا بقصد تغيير ما يكتشفه ولا إعادة ترتيبه. حسبه أن يتعرف إلى أسلوبه الخاص في التهرُّب كي يتميَّز، في الآن نفسه، دافعَه إلى التهرُّب وإمكانية عدم الاستجابة لهذا الدافع، ويتقبَّل ما يرى من نفسه دون مقاومة ومن غير أمل في نتيجة مسبقة. هو حضور، حضور تام في الآن، دون رجوع إلى الماضي ودون تعلُّق بالمستقبل. إذ ذاك، في القلب من هذا الحضور، ينبثق يقين ساطع بأنه لا مفر!
في تلك اللحظة بالذات، قد تعود وساوس جروح الماضي وتتسلَّل من جديد. فليحدِّق المرء إليها في هدوء، من غير جهد، حتى تتلاشى ويزول نهائيًّا كلُّ دافع إلى الهرب. إذ ذاك، لا يبقى للمرء إلا أن يستريح فَرِحًا في سلام وجوده المحض… لتبدأ مغامرة جديدة، لا نهاية لها، اسمها الحرية.
2007