ملحوظات في الخوف – ديمتري أڤييرينوس

ملحوظات في الخوف وعواقبه

ديمتري أڤييرينوس

ديمتري أڤييرينوس

 

أسير وسط الظلمة. المكان شبه معتم ومعزول تمامًا. أنا وحدي. تراودني انفعالات الكَرَب والريبة والتوجُّس. لا أجد تفسيرًا للخوف المعتمل فيَّ: لعلَّه غريزة البقاء، قلق الحياة، جزع الموت… أجفل لرؤية ظلِّي وألتفت لسماع صوت أنفاسي. ثم… أتسمَّر في مكاني هلعًا!

هناك، على مقربة ثلاثة أذرع منِّي، أرى، وصوت أنفاسي المتلاحقة يصمُّ أذنيَّ، أفعى جاثمة تحت أنظاري الخائفة. ما أراه يبدو لناظريَّ قطعًا كالأفعى! إنها ملتفَّة على نفسها عن يميني، متحفِّزة للانقضاض عليَّ. يلوح لي، في الضوء الخافت، أنها أفعى فعلاً – وأنا أرتعد فرقًا من الأفاعي! يجتاحني الخوف. تتعرَّق راحتا يديَّ. قلبي ينبض بشدة. ساقاي توشكان على العَدْو. لكن شكًّا طفيفًا ينتابني إنْ كان ما أراه أفعى فعلاً. وفي برهة وجيزة يطرأ على ذهني خاطر: لم لا أدنو قليلاً وأتأكد من صحة ما رأيت؟ يطفو الخوف من جديد ويعلق غُصَّةً في حلقي. تتسارع ضربات قلبي. أسمع خَبَبَها بأذنيَّ. أطلق ساقيَّ للريح… وأنا أعدو، أصرخ مستغيثًا. يشرع أناس كثيرون لا أعرفهم في العَدْو معي. نعدو معًا، يجمعنا خوف مشترك سَرَتْ عدواه بيننا سريان النار في الهشيم. أخيرًا، يعتزم رجلٌ جَسورٌ منَّا أخذ مشعل والنظر عن كثب. وهكذا نعود أدراجنا إلى المكان، سائرين في حذر شديد، حتى تعقد المفاجأة ألسنتنا: إنها قطعة حبل!

* * *

ما أغرب الموقف، وما أشد حماقتنا! وفي هذه الأثناء “بيكون يلِّي ضرب ضرب ويلِّي هرب هرب”، كما يقال في الشام. يرمز التشبيه بالأفعى في الموروث اللاثنوي الهندي إلى الكثير من الخبرات التي نعيشها، أفرادًا ومجتمعات وأممًا بأسرها – حتى إن تاريخ الأمم الظاهر قابل للاختزال إلى الخوف. ما “حكمتنا” التي نتشدق بها إلا من قبيل الندم على ما فات! إنها تقف عاجزة في وجه خوفنا. فكرنا كلُّه وتصرفاتنا كلُّها وليدة الخوف القائم على إدراك مغلوط؛ إذ كثيرًا ما يقع الذهن البشري فريسة للخوف الناجم عن غلط في الإدراك. فهل يجوز للحقيقة أن تقوم على إدراك مغلوط؟!

نحن ندرك أنفسنا بصفتنا منفصلين عن الآخرين، وذلك لأننا ندرك أجسامنا بوصفها كيانات منفصلة. فهل هذا الفَصْل – وجود هوية متميِّزة – فَصْل مطلق، أم أنه مجرَّد واقع مادي يصلح لتسيير حياتنا اليومية فحسب؟ هل بوسعنا أن ندَّعي الانفصال والاستقلالية على نحو أساسي ونهائي؟ ترانا ندين بوجودنا المادي لفردين اثنين – امرأة ورجل – اتَّحدا في فعل خلق؛ بذا فإن ولادتنا نفسها متأصِّلة في الوحدة. وفي الموت تندمج أجسامنا في جسم أمِّنا الأرض وتتَّحد بالتراب؛ ففي الموت أيضًا ثمة ما يوحِّدنا. أين الفَصْل إذن؟!

يقبع الجنين في الرحم حوالى تسعة شهور ناعمًا بطمأنينة الوحدة العضوية مع أمِّه، وعند الولادة ينفصل عنها: من أمان الرحم وسكينته يُقذَف به في عالم قاسٍ لا سيطرة له عليه. هذه هي خبرة الفَصْل الأولى التي يدعوها المحلِّل النفسي أوتو رانك “صدمة الولادة”، وهي تتَّسم بمشقة كبيرة وإحساس حادٍّ بالعجز والاتكال. فإذا حالف الحظ الطفل، إذا اعتُنِيَ به اعتناءً جيدًا، فإن الراحة والطمأنينة تأتيانه من الخارج، من الوالدين أو ممَّن ينوب عنهما.

ثم تتحالف الطبيعة والثقافة، فتؤصِّلان فينا خبرة الفَصْل. إن عجزنا واتِّكالنا، ونحن بعدُ أطفال، يعزِّزان فينا الاعتقاد بأن مصدر الراحة والطمأنينة يقع خارج نفسنا. إذا جاز أن إدراكات الطفل صحيحة بالمعنى المادي فإن مفهوم الفَصْل ونحن ننمو يصبح في وعينا حقيقة غير مشكوك فيها، بحيث إننا نختبر أيَّ خطر على نفسنا، على جسمنا، على كلِّ ما نعتبره “لي” – استطالات أجسامنا في العالم الخارجي: زوجي، ابني، عائلتي، وطني، أمَّتي، إلخ – بوصفه خطرًا يهدِّد وجودنا نفسه. أيُّ خطر عليَّ يجعلني أرتعد فرقًا، يجعل نبض قلبي يتسارع. ومع ذلك، لا أبالي بألم غيري – حتى القسوة عليه في بعض الأحيان! – وهذا واقع ينسحب علينا جميعًا. لا ريب أن عند الكثيرين منَّا قدرة على التعاطف لا يُستهان بها، لكن اهتمامنا بنفسنا يأتي دائمًا في صدارة اهتماماتنا.

فهل مفهومنا عن “نفسنا” مجرَّد مفهوم ذهني؟ هل هو عبارة عن إدراك مغلوط؟ هل لمخاوفنا أساس؟ بعبارة أخرى، هل تتأسس مخاوفنا هذه على خدعة إدراكية نعتقد بصحَّتها؟ هل تقوم صروحنا الفكرية والعملية الضخمة على مفاهيم غير صحيحة؟

* * *

يستلزم التحقُّق من صحة إدراكاتنا ومفاهيمنا فحصًا وتقصِّيًا دقيقين. على عشقنا للحقيقة أن يتغلب على تمسُّكنا بها وخوفنا من فقدانها؛ على شوقنا إلى معرفة الحقائق بنفسنا أن يتغلب على شكوكنا ومخاوفنا. لذا لا مناص لنا من تسليط ضوء العقل والانتباه على مفاهيمنا الضبابية للبتِّ في صحتها؛ إذ إن من الممكن أن نكون على خطأ، مهما بدت مفاهيمنا متماسكة منطقيًّا. يقتضي الاعتراف بهذا الواقع البشري الكثير من التواضع؛ يقتضي الاعتراف بالخطأ شجاعة استثنائية؛ يقتضي التغلب على أعمق مخاوفنا إيمانًا عظيمًا؛ تقتضي مواصلة البحث عن الحقيقة، على الرغم من المصاعب التي نواجهها، محبة لا حدَّ لها.

أذهاننا ممتلئة بمفاهيم لا حصر لها، والكثير منها من قبيل أغلاط الإدراك التي تتسبَّب فيها الأوهام الفيزيائية للطبيعة (كالسراب في الصحراء)؛ بعضها خدع ذهنية ناتجة عن غرورنا وإصرارنا على تمسُّكنا بمفاهيمنا، وبعضها الآخر ناجم عن ذهن واهن يفتقر إلى التواضع والشجاعة والإيمان والمحبة. مثل هذا الذهن الموهون قد يلتبس عليه الفهم، قد يفتقر إلى شجاعة إعادة الفحص عن مفاهيمه والتحقُّق من صحَّتها في ضوء الانتباه التام والتقصِّي الدائب. فقد يسيطر عليه الخوف: الخوف من الموت، من النبذ، من سخرية الآخرين، إلخ؛ وأذهاننا، إذا اعتراها الخوف، تغيم وتغشاها البلبلة، فتودي بنا عند ذاك إلى نتائج خاطئة لا محالة.

ومنه، يقتضي البحث عن الحقيقة تواضعًا ومحبة وإيمانًا وشجاعة لا مثيل لها، بحيث نضع إدراكاتنا ومفاهيمنا دومًا على محكِّ الشك الذي يفرز الأقرب إلى الصحة منها. علينا أن نفرغ ذهننا من الكبرياء والأحكام المسبقة والأنانية والبلبلة و… الخوف؛ ففي هذا الفراغ الذهني موت معنوي عن نفسنا وولادة جديدة للحقيقة… في قلبنا.

2006