منزلة التفكير من الوجود
ديمتري أڤييرينوس
تكاد حياتنا برمَّتها تتمحور على التفكير، حتى إننا لا نطيق تخيُّلها من دونه. لكن التفكير، مهما قيل فيه، يبقى مجرَّد أداة، يُفترَض فيها أن تُستعمَل عند الطلب وأن تُنحَّى في غيابه؛ إنه أداة كأيِّ أداة أخرى، شأن المعول أو السكين – لا أكثر ولا أقل! قد يُظَنُّ أن كلامنا هذا منافٍ للمعقول، وذلك لأن التفكير يبدو، للوهلة الأولى، غير محدود؛ يبدو وكأنه يتصدَّى للمشكلات ويحلُّها؛ يبدو أنه يوسِّع إمكاناتنا توسيعًا غير محدود. أما في واقع الأمر فلسنا إلا مجرَّد بشر فانين، خاضعين للولادة والنمو والشيخوخة والموت. تضفي قوة تفكيرنا علينا فرادة الصفة البشرية، لكنها تجعلنا، في الآن نفسه، “فريدين” من حيث التعقيد، “فريدين” من حيث الخطر، وفي كثير من الأحيان، “فريدين” من حيث التدمير الذاتي!
التفكير صفة البشر – هذا واقع لا جدال فيه، وإنكاره مرادف لإنكار بشريَّتنا. لذا فإن ما نشير إليه هاهنا ليس سقطات التفكير أو شروره؛ ما نحاول الإشارة إليه والتشديد عليه بالحري هو دور الفكر بصفته مجرَّد كيفية واحدة من كيفيات الإدراك في جملة كيفيات أخرى؛ إذ إن الإحساس والشعور والحدس أيضًا، كما بيَّن كارل يونگ، كيفيات للإدراك (“وظائف نفسية”) لا تقلُّ عن التفكير شأنًا. الجسم “يعرف” غريزيًّا في معزل عن الأفكار والكلمات؛ وبوسع المشاعر أيضًا أن تقودنا من دون أدنى فكرة عما يكمن في مخزون لاوعينا. ومع ذلك، يحتل الفكر والكلمة منزلة الصدارة في الشؤون البشرية. غير أن السلسلة الذهبية تبقى سلسلة مكبِّلة إذا لم نستطع وضعها في مقامها المناسب والإقرار بوجوب تنحيتها عند الاقتضاء.
* * *
بؤرة المشكلة البشرية، كما يبدو لنا، هي أن الفكر يكبِّلنا. الفكر قوة هائلة، ما في ذلك ريب؛ غير أنها قوة تمسي شديدة التدمير حين نعجز عن تنحيتها والعودة إلى الصمت، إلى إدراكٍ يتخطَّى الفكر والكلمات. يمكن للسيارة أن تكون ضرورة أو راحة أو رفاهية، يمكن أن تكون لها عدة استعمالات ملائمة؛ مع ذلك، إذا تسمَّر المرءُ على مقعد السائق في سيارة تعطَّلتْ مكابحُها فإن أمتع النزهات قد تتحول إلى كابوس مروِّع! ينطبق هذا التشبيه على “الحيوان المفكر” الذي هو الإنسان حين تستعبده نماذجُ الفكر وزخمُه العارم.
ألم تَصِرِ الحياةُ في العالم “كابوسًا” للكثيرين منَّا، فرديًّا وجماعيًّا على حدٍّ سواء؟! ألا يشكِّل الاكتئاب والاغتراب واليأس والأسى والوحشة، المادية القارسة والعبثية، تمجيد اللذة والمال، بريق الإثارة الحسِّية المؤقتة والقاتلة التي يمكن للمال والإحساس أن يوفِّراها – ألا تشكِّل هذه كلُّها الحقيقة العارية – لكن المفجعة – للحياة في المدن الحديثة، غابات البيتون التي نتباهى بها كلَّ هذا التباهي؟! إذا اتصف المرء بالحدِّ الأدنى من الحساسية والإدراك فإن بوسعه أن يرى رؤية واضحة مأساة الوجود البشري على الصعيدين الفردي والجماعي: يشكِّل الكره والنزاع – باسم الدِّين والطائفة والمذهب والمعتقد والإيديولوجيا والمُثُل، وحتى باسم “الحقيقة” – واقعَ زماننا الراهن المرَّ.
فهل بوسعنا أن نتحرَّر تحرُّرًا كليًّا غير مشروط من آلاف، بل ملايين المفاهيم التي تستعبدنا وتجزِّئنا على هذا الكوكب؟ هل بوسعنا أن نرى، عفويًّا ومن غير جهد، واقع الوحدة ونعتنقه؟ ما نحتاج إليه ليس رؤية خارقة أو مقدرة استثنائية؛ نحتاج فقط إلى العودة إلى نواة كياننا كي نرى الواقع كما هو فعلاً. ترانا، بكلِّ أسف، ضائعين في متاهة معقَّدة من المظاهر، عالقين فيها نتخبَّط. تتأسس متاهة التعقيد على كثرة المفاهيم البشريةِ الصُّنع التي أمست فائقة القدسية. فهناك المفاهيم الفائقة القدسية للدِّين المنظَّم والقومية؛ هناك أيضًا أحكام مسبقة وخرافات من أصناف شتى؛ هناك السُّكْر بالمعرفة وكذبة السيطرة؛ إلى آخر ما هنالك من أوهام. هذا ليس إنكارًا للدِّين والقومية وغيرهما من وقائع الخبرة اليومية من أهمية؛ بيد أن إجلال هذه الوقائع إجلالاً متعصبًا إنما هو تضييع لواقع الوحدة التي نشترك فيها بصفتنا بشرًا على هذا الكوكب.
من شأن المفاهيم والتنظيمات والممارسات والموروثات البشريةِ الصُّنع، مهما بلغت قدسيتها ومهما كان نفعها ومتاتها إلى مكان وزمان معيَّنين، أن تصير غير ذات نفع ولا متات إلى زمان ومكان آخرين. إن شيئًا نتمسك به بإصرار، شيئًا يمنحنا الدعم، عكازًا نتكئ عليه، قد يتحول إلى قيد أو عبء عندما يشتد عودنا ونقوى على المشي من دونه. ليس القارب إلا وسيلة لعبور النهر؛ أما جرُّه على الأرض فهو من الحماقة! بيد أن هذا بالضبط ما نفعله بمعرفتنا وممارساتنا ومفاهيمنا المزعومة. تصير انطباعات اللحظة السابقة في اللحظة الراهنة عبئًا لأنها تبلبل وضوح الإدراك. فما لم ينطلق الفكر انطلاقًا كلِّي الوعي بمقاصده، كلِّي السيطرة على اتجاهه وعواقبه، كلِّي الانتباه إلى محدوديَّته، ينتهي بنا الأمر إلى الانجرار في دوامة من التفكير لا يهدأ لها قرار.
* * *
الفكر مفيد قطعًا، لكنْ فقط حينما ينتهي في عمل محدد. فإذا لم يؤدِّ إلى عمل سرعان ما يصير متاهة لا نهاية لها، غابة كثيفة من الكلمات، لا متات لها يُذكَر إلى الحياة الواقعية. ليس عالم التجريد، مهما بلغ نفعه، إلا أداة مفيدة، أداة لتوضيحٍ وتحديدٍ وفهمٍ أفضل؛ لكنْ لا مناص، عاجلاً أم آجلاً، من العودة إلى الحياة الواقعية – إلى وقائع اللذة والألم، النزاع والأسى، الرغبة والخوف، النفور والانجذاب، إلخ؛ وهذه وقائع لا يجوز إنكارها، تحت طائلة الهرب إلى الأوهام والأماني الكاذبة. وكلما زادت مقدرة المرء على التفكير والتجريد سَهُلَ عليه الانزلاق في آليات التهرب وإستراتيجياته[1]. غير أن إنكار الواقع لا يطول كثيرًا؛ إذ إننا، عاجلاً أم آجلاً، نتذكر وقائع الحياة كما هي ونضطر إلى مواجهتها. ما من “تفكير إيجابي” من شأنه أن يبدِّل وقائع الحياة الميدانية؛ أجل، يمكن للتفكير الإيجابي أن يجدِّد فينا إرادة الحياة والكفاح يومًا إضافيًّا، لكنه لا يستطيع أن يحرِّرنا من النزاع والأسى والشقاء. فحتى نتحرَّر تمامًا من النزاع والأسى والشقاء، بكلِّ أشكالها، علينا أن نقبل الوقائع كما هي قبولاً تامًّا غير مشروط. الفكر أعجز من أن يستوعب تعقيد الواقع، وأوهى الحُجُب الذهنية، وأدقُّها حتى، تنتهي لا محالة إلى خداعنا. ومنه، لا بدَّ لنا من إفراغ أذهاننا تمامًا من جميع المفاهيم والحُجُب ومن استعمالنا كلَّ درهم قوة لمواجهة الحياة كما هي.
يمكن لمفاهيمنا عن التفوق، لمخاوفنا وآمالنا، لرغباتنا ومطامحنا، أن تكون من الحذاقة وعمق التجذُّر بحيث لا نستطيع، مهما تكن براءتنا، إلا أن نتورَّط في خداع نفسنا. لا مجال في الواقع للاستثناءات: كلُّ استثناء فهو وهم، وكلُّ استثناء من الحقيقة فهو كذبة. ومع ذلك، فإن هذه الإطلاقية ليست بتاتًا ما نراه في ظواهر الحياة السطحية ومظاهرها الدنيوية، ولا حتى في جوانب حياتنا الذهنية والفكرية. الإطلاقية يختبرها كلُّ شخص ذاتيًّا بوصفه “أنا”؛ فهذا يبقى المركز المشترك الثابت التي تدور حوله حياتنا. الأمير والفقير، على التساوي، يحلمان ويرغبان، يخافان ويأملان، يكافحان ويحبَّان، يعيشان ويموتان في سبيل هذه “الأنا” المجهولة. فمَن “أنا”؟[2]
* * *
كما أن العين لا يمكن لها أن ترى نفسها كذلك لا يمكن لنا فهم جذور الهوية الذاتية واستكشافها بواسطة الفكر. بيد أن بوسع المرء أن يستعمل لذلك مرآة: هذه المرآة هي الحياة في العالم – حياتنا اليومية ذاتها وعلاقتنا بالآخر. يؤلِّف الناس الذين نلتقي بهم، مهازل حياتنا ومآسيها، ضحكاتها ودموعها، نزاعها وأساها، صراعها وكفاحها، أحلامها وأطلالها، آمالها ومخاوفها، الواقعَ الذي نعرفه جميعًا ونختبره – وهذه كلُّها تشكِّل المرآة التي نستطيع أن نرى نفسنا فيها. حياة المرء كما هي، هنا والآن، في كلِّ لحظة، هي مرآة تعكس واقعنا الحقيقي كما نحن فعلاً.
سواء فرديًّا أو جماعيًّا، بوصفنا أقوامًا وأممًا، والدين وأولادًا، عشاقًا وأزواجًا، قادةً وأتباعًا، فإن الحياة كما نراها ونحسُّ بها ونختبرها هي مرآة لما نحن عليه. إذا تمسَّكنا بالأنانية القائمة على الفَصْل ترانا نشقى، نتقلَّب في صروف الخوف والأسى التي نقدِّرها على نفسنا؛ أما إذا ثَبَتْنا على واقع الوحدة وتجدَّدنا بتجدُّد الإدراك، متحرِّرين من مفاهيمنا الهزيلة، ترانا نفوز بالتحقق وبالمعنى. كلُّ مشكلة مادية، كلُّ مرض، كلُّ محنة، كلُّ مذلَّة، كلُّ نزاع، إنما هو تذكير لنا بالنظر إلى الداخل، بالنظر مجددًا لرؤية أين ضللنا الطريق وأين يمكن لنا أن نبدأ من جديد، مسلَّحين بنظرة جديدة، بموقف جديد، بشوق جديد. بذا فإن الحياة هي النحَّات الذي يصقلنا. ومهما يكن المظهر مرعبًا والواقع مؤلمًا فإن الحياة كما هي تعكس وعي المرء وتفضح كلَّ خديعة ونفاق.
* * *
إفراغ النفس فرصة سانحة لاستدعاء الامتلاء الحقيقي؛ أما الامتلاء الكاذب فيساوي الاختناق بالمفاهيم الجامدة. مفارقات الحياة تتحدى قواعد المنطق والعلم المزعوم – وهي مُحِقَّة في ذلك: فالحياة ليست نظرية أو مسألة منطقية أو مفهومية، مثلما أن القلب ليس مجرد مضخة دم! في كلٍّ منَّا حسٌّ عميق بالقيمة وبأحقِّية الاحترام والتحقق الذاتيين. فحتى أكثرنا حرمانًا من السعادة يحلم، وحتى أوفرنا حظًّا منها يأسى، ولو مؤقتًا. وهذا يدلُّ على اتجاه الوحدة والمساواة الجوهريَين اللذين هما ميراث البشر أجمعين. كلُّ واحد منَّا فريد، لكننا واحد في الجوهر. إنكار هذه الوحدة الجوهرية بواسطة مفاهيم مغلوطة عن القيمة الذاتية، مهما كانت سامية ومستحَقَّة، هو غرق في الوهم من جديد. والعمل على تقويض وهم الفَصْل هو بعينه رحلة اكتشاف الذات.
مرة بعد مرة، مرارًا وتكرارًا، يمتحننا الواقع ويعلِّمنا؛ مرة بعد أخرى، مرارًا وتكرارًا، يتمزق حجاب الخديعة، مهما كان حاذقًا. في هذه الرحلة، تتصف كلُّ لحظة بمعزى فريد؛ واللحظة المؤلمة أبلغ مغزى من اللحظة البهيجة: إذ إننا في اختلاجات الألم والعذاب ننظر مرة أخرى، نستيقظ من جديد، نصرخ من أعماق قلبنا، متعطِّشين إلى الإجابات الحقيقية عن أسئلتنا الوجودية. المِحَنُ هي بالفعل أفضل المعلِّمين، بينما يكمن في الرخاء دافعٌ إلى التراخي، إذ يهدهدنا على إيقاع الرضا الذاتي والكبرياء والخداع. ومع ذلك، لا يصل المرء أبدًا إلى مبتغاه لأن الحياة بأسرها هي الرحلة – إلى أن نلفظ آخر أنفاسنا. كلُّ لحظة فهي تفتُّح فريد للمعنى، فرصة فريدة للتعبير الذاتي، تذكير فريد بتمزيق حجاب الذاكرة الميتة، ومطالبة بالوَجْد الكلِّي الذي هو، بالطبيعة والأحقِّية، وجودنا بالذات.
2006
[1] راجع: ديمتري أڤييرينوس، “الحرية وإستراتيجيات التهرب”، سماوات جديدة: http://www.samawat-jadidah.org/articles/psychological/freedom_and_avoidance_strategies-dna.
[2] راجع: ديمتري أڤييرينوس، “مَن “أنا”؟”، سماوات جديدة: http://www.samawat-jadidah.org/articles/psychological/subtlety_and_power_of_the_ego-dna.