اليأس – ألان

في اليأس*

ألان

ألان**

 

قال أحدهم: “الماكر لا يقتل نفسه لسبب بهذه التفاهة.” إنها ليست أول مرة، ولا آخر مرة، يظن فيها امرؤ شريف أنه مجلَّل بالعار، فينتحر، فيبكيه أولئك بعينهم الذين كان يظنُّهم يحتقرونه. تراني لا أزال أبحث، بخصوص هذه الفاجعة التي سوف تبقى ماثلة طويلاً في ذاكرتنا، عما يجعل امرءًا يريد أن يكون بارًّا وعاقلاً يبدو غالبًا كأنه لم يروِّض بعض الأهواء إلا لتهاجمه أهواءٌ أخرى وتصرعه؛ ولا أزال أبحث كذلك عن الخواطر التي يمكن له بها أن يكافح اليأس.

تقدير موقف، طرح مشكلة صعبة، البحث عن حلٍّ لها، عدم إيجاد هذا الحلِّ بتاتًا، الاحتيار في القرار على رأي، الدوران في الخواطر نفسها كما يدور الحصان في ميدان ترويض الخيل، – ذاك وحده، تقول، عذاب مبرِّح، وللعاقلة رؤوس مدبَّبة أيضًا تَخِزُنا بها. لا، بتاتًا. يجب بالضبط البدء بعدم الوقوع في هذا الغلط بالذات. ثمة مشكلات كثيرة لا يتبيَّن فيها المرءُ شيئًا؛ وهو يتصبَّر على ذلك بلا عناء. كثيرًا ما يتفق لمجلس، أو لمأمور تصفية قضائي، أو لقاضٍ، أن يقرِّروا بأن قضية ما لا رجاء منها، أو حتى بأنه ليس في المستطاع تقرير شيء، من غير أن يُفقِدَهم ذلك شهيَّتهم أو يؤرِّقهم. إن ما يجرحنا في مسألة مستعصية على الحلِّ ليس استعصاؤها على الحلِّ، بل بالحري نوع من مصارعة ذلك الاستعصاء بالذات أو مقاومته، أو إنْ شئت، رغبة في أن لا تكون الأمور كما هي. في كلِّ حركة هوى أظن أن هناك مقاومة للمُحال إصلاحه. على سبيل المثال، إذا كان أحدهم يتعذب من جراء حبِّ امرأة حمقاء أو مغرورة أو باردة، فذاك لأن إرادته تصرُّ على أن لا تكون هذه المرأة كما هي. بالمثل، حين يكون خرابٌ ما محتَّمًا، ويعلم المرء ذلك في قرارة نفسه، فإن هواه يريد أن يأمل، فيأمر الفكر، إذا صحَّ القول، بأن يسلك مرة أخرى الطريق نفسها، لعلَّه واجدٌ فيها تفرعًا ما يقود إلى مكان آخر. لكن الدرب قد سُلِكتْ وانتهى الأمر؛ والمرء منها حيث هو بالضبط؛ وفي دروب الزمن، ليس بالوسع العودة القهقرى، ولا سلوك الطريق الواحد نفسه مرتين. ومنه، أقول بأن صاحب الطبع الشديد هو الذي يقول لنفسه أين هو من الأمر، ما هي الوقائع، ما هو المُحال إصلاحه بالضبط، فيمضي من هناك قُدُمًا نحو المستقبل. لكن هذا ليس سهلاً، ولا بدَّ من التدرُّب عليه في الأمور الصغيرة؛ وإلا صار الهوى كالأسد المحبوس في قفص، يراوح الخطى طوال ساعات أمام القضبان، وكأنه لا يزال يأمل، لدى بلوغه أحد الطرفين، بأنه لم يمعن النظر في الطرف الآخر. قصارى القول إن هذا الغمَّ المولود من اجترار الماضي لا يجدي نفعًا، بل هو شديد الضرر حتى، لأنه يجعلنا نتفكَّر عبثًا ونبحث سدى. يقول اسپينوزا[1] إن الندم خطيئة ثانية.

لكن المغتم، إذا كان قد قرأ اسپينوزا، يقول: “لكني لا أستطيع دومًا أن أكون مرحًا إذا كنت مغتمًّا؛ فذاك يتوقف على أمزجتي، على تعبي، على سِنِّي، وعلى حال الطقس.” طيب. قُلْ ذلك لنفسك، قُلْه لنفسك عن جِدٍّ؛ أرجِع الغمَّ إلى أسبابه الحقيقية؛ إذ يبدو لي أن من شأن ذلك أن يطرد خواطرك المغمومة كما تطرد الريح الغيوم. ستكون الأرض مثقلة بالأوجاع، لكن السماء ستكون صافية؛ وهذا دومًا مكسب بحدِّ ذاته، إذ تكون قد أرجعتَ الغمَّ إلى الجسم، وبذلك تكون خواطرك كأنها قد نُظِّفَتْ. أو لنقل، إنْ شئت، إن الفكر يعطي للغمِّ جناحين ويجعل منه كآبة محلِّقة؛ في حين أني بتأمُّلي، إذا كان يجيد التسديد، أحطِّم الجناحين، فلا تبقى عندي غير كآبة زاحفة. إنها تلبث قابعة عند قدميَّ، لكنها لا تعود ماثلة نصب عينيَّ. بيد أننا – وهي ذي العقبة الكأداء – نريد دومًا كآبة تطير عاليًا جدًّا.

31 تشرين الأول 1911


* Alain, « Du désespoir », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 145-147.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] هو الفيلسوف الهولندي باروخ اسپينوزا (1632-1677)، صاحب الرسالة اللاهوتية-الفلسفية (1670) والأخلاق (نُشر بُعَيد وفاته)؛ اتخذ هدفًا أساسيًّا نقلَ رسالة محرِّرة من أنواع العبودية كافة، مبيِّنًا كيف أن حرية الإنسان ممكنة (في إطار الضرورة)، كما رأى أن المعرفة التي يمكن للحكيم أن يحصِّلها عن الجوهر (الله = الطبيعة) لا بدَّ أن تقوده إلى الغبطة. (المحرِّر)