شاعران – ألان

شـاعـران*

ألان

ألان**

 

إنها لَصداقةٌ جميلة صداقةُ گوته[1] وشيلِّر[2]، تلك التي نراها في مراسلاتهما. كلٌّ منهما يسعف الآخر بالعون الوحيد الذي يمكن لفطرة ما أن تنتظره من فطرة أخرى، ألا وهو أن تُقِرَّها الفطرةُ الأخرى على ما هي عليه ولا تطلب منها إلا أن تبقى هي هي. قبولك الموجودات كما هي لا فضل فيه، ولا بدَّ للأمر دومًا من أن يؤول إلى هذا القبول؛ أما أن تريدها كما هي، فهي ذي المحبة الحق. هذان الرجلان إذن – وكلٌّ منهما يدفع إلى الخارج بطبيعته المستكشِفة – اجتمعا على الأقل على رأي مفاده أن الفوارق جميلة، وأن القيم لا تتدرَّج من الوردة إلى الحصان، بل من الوردة إلى الوردة الجميلة، ومن الحصان إلى الحصان الجميل. يقال فعلاً إنه لا يجوز الاختلاف على الأذواق، وذاك صحيح إذا كان الواحد يفضِّل الوردة بينما يفضِّل الثاني الحصان؛ لكن النقاش حول ماهية الوردة الجميلة أو الحصان الجميل جائز لأن التوافق عليها ممكن. بيد أن هذا المثال لا يزال مثالاً مجردًا، على كونه يسير في الاتجاه الصحيح، لأن موجودين كهذين [الوردة والحصان] لا يزالان رهينَي النوع أو رهينَين لنا ولحاجاتنا. ما من أحد يدافع عن الموسيقى ولا عن الرسم؛ لكن النقاش حول اللوحة الأصيلة والنسخة المزوَّرة مفيد: إذ به تستبين في الأولى علاماتُ الفطرة الحرَّة والناشئة من عمقها هي، وفي الثانية نُدوبُ العبد والنشوء بواسطة الفكرة الخارجية. لا بدَّ أن كلا شاعرينا شعر بهذه الفوارق في رأس ريشته. وما يستحق الإعجاب هو أنهما، وهما يتحاجَّان ويتحادثان غالبًا في الكمال وفي المثال، لم يضيِّع أيٌّ منهما قط، ولا لحظة واحدة، عبقريتهما الخاصة. صحيح أن كلاً منهما ينصح للآخر بما معناه: “لو كنت مكانك لفعلت كذا”، لكن كلاً منهما، في الوقت نفسه، يصرِّح لَبِقًا بأن ما ينصح به للآخر لا يصلح للآخر. والآخر، جوابًا، يردُّ النصيحة بقوة إلى الناصح، عازمًا على البحث بسُبُله الخاصة.

أحسب أن الشاعر – وكلَّ فنان – تنبِّهه السعادةُ إلى ما يقدر عليه وما لا يقدر، وذلك لأن السعادة، كما يقول أرسطو، هي علامة المقدرات. لكن هذه القاعدة، على ما أعتقد، تصلح للجميع. لا خطر في العالم يُخشى أكبر من خطر امرئ ينهشه السأم. جميع الذين يُنعَتون بالأشقياء ساخطون من فرط سأمهم؛ وهم ليسوا ساخطين لأنهم أشقياء، بل الأصح أن هذا السأم الذي يتبعهم في كلِّ مكان هو علامة أنهم لا ينمُّون البتة كمالهم الخاص، وأنهم من جراء ذلك يفعلون على نحو ما تفعل العلل العمياء والآلية. وفي الحاصل، ليس في العالم، أغلب الظن، غير المجنون الهائج يعبِّر، في آنٍ معًا، عن أعمق التعاسة وعن محض الشقاء[3]. بيد أني ألحظ، فيمن ننعتهم بالأشقياء، وفي كلٍّ منَّا على حدٍّ سواء، شيئًا ما ضائعًا وآليًّا، مصحوبًا في الوقت نفسه بهياج العبد. على العكس، كلُّ ما يتمُّ تصحبُه السعادةُ خيِّر. والأعمال الفنية تشهد لذلك أوضح الشهادة: يقال [بالفرنسية] صراحةً عن ضربة فرشاة موفَّقة إنها “سعيدة”. لكن كلَّ عمل خيِّر جميل بحدِّ ذاته ويجمِّل وجه الإنسان. وإنه لذو دلالة أن يتفق الناس أجمعون على الاطمئنان دومًا إلى الوجه الحسن. ومنه، أحدسُ أن الكمالات لا تتعارض أبدًا وأن النقائص أو العيوب وحدها تتضارب، والخوف مثال عليها دامغ. ولذلك فإن نهج التكبيل – وهو نهج الطاغية ونهج الجبان – بدا لي دومًا أحمق من حيث الأساس، ووالد الحماقات كلِّها. فُكَّ الإسار، سرِّحْ، ولا تَخَفْ. فالحر أعزل.

12 تشرين الأول 1923


* Alain, « Poètes », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 220-222.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] هو الكاتب والشاعر الألماني يوهَن ڤولفگَنْگ فون گوته (1749-1832)؛ صاحب فاوست (1808-1832). (المحرِّر)

[2] هو المسرحي والشاعر الألماني فريدرش فون شيلِّر (1759-1805)؛ صاحب مسرحيات تاريخية عديدة، منها دون كارلوس (1787) وڤلهلم تِلْ (1804)، والنشيد إلى الفرح (1785) الشهير الذي استلهمه بتهوڤن في سيمفونيته التاسعة. (المحرِّر)

[3] الشقي (اسم مفعول ومبالغة اسم فاعل: مَن يشقى ومَن يُشقي سواه) هو عينه التعيس. إذ يفيدنا اشتقاق الكلمة الفرنسي أن الشقاوة méchanceté (ضد السعادة) والنحس malchance (نقيض السعد) من أصل واحد. فكلمة “شقي” méchant بالفرنسية القديمة (اسم فاعل من فعل mescheoir القديم، المؤلف من أداة النفي mes ومن فعل cheoir، الذي صار choir: “وَقَعَ”) مؤداها بالعربية “مَن ساءت وقعتُه”، أي زَلَّ وعَثَرَ. ولكلمة “تعيس” malheureux (المشتقة من كلمة heur التي تعني “حظ”) دلالة مصطلح “عاثر الحظ” malchanceux نفسها؛ إذ تذكِّر كلمة “حظ” chance بكيفية وقوع عُظيمات القرعة أو حجارة النرد (وبالعربية، تَعَسَ أو تَعِسَ: عثر ووقع على وجهه). فالشقي هو المنحوس تعيس الحظ. (المترجم)