السعادة والفضيلة – ألان

السعادة والفضيلة*

ألان

ألان**

 

هناك نوع من السعادة لا يتشبَّث بنا بأكثر مما يتشبَّث المعطف. كذا هي سعادة الورث أو الربح في اليانصيب؛ وكذلك سعادة المجد، لأنها منوطة بلقاءات. أما السعادة المنوطة بمقدراتنا الخاصة فهي، على العكس، مدمجة فينا، ونحن نصطبغ بها بأحسن مما يصطبغ بالقرمز الصوفُ. حكيم الأزمنة القديمة، إذ نجا من الغرق ووطئ البر عاريًا كما ولدته أمُّه، قال: “أحمل ثروتي كلَّها معي.” كذا كان ڤاگنر يحمل موسيقاه، وكان ميكلانجلو يحمل جميع الصور السامية التي كان بوسعه رسمها. والملاكم لديه، هو الآخر، قبضتاه وساقاه وثمرة أعماله كلها، خلافًا للفائز بإكليل أو بمال. غير أن ثمة وسائل عدة لكسب المال، ومَن يجيد “جني المال”، كما يقال، لا يزال غنيًّا بذاته في اللحظة التي يخسر فيها كلَّ شيء.

كان حكماء الماضي يجدُّون في طلب السعادة؛ لا سعادة الجار، بل سعادتهم الخاصة. أما “حكماء” اليوم فيصطلحون على تعليم أن السعادة الخاصة ليست مغنمًا نبيلاً يُطلَب، حيث ديدن بعضهم أن يقولوا بأن الفضيلة لا تأبه للسعادة، وهذا شيء لا يصعب قوله؛ بينما يعلِّم بعضهم الآخر أن السعادة العامة هي المنبع الحقيقي للسعادة الخاصة، وهذا الرأي، أغلب الظن، هو أكثر الآراء خواءً، إذ ما من انشغال البتة أشد عبثية من سكب السعادة في الناس من حولنا سكبَها في زقاق مثقوبة. فلقد لحظت أن البَرِمين بأنفسهم ليس بالمستطاع تسليتهم بتاتًا؛ وبالعكس، فإن الذين لا يستعطون البتة، هؤلاء يمكن إعطاؤهم شيء، كأنْ تُعطى الموسيقى لِمَن اتَّخذها صنعة. زبدة القول إنه لا جدوى البتة من الزرع في الرمل؛ وأظنني فهمت، بعد أن تفكرت فيه مليًّا، مَثَلَ الزارع[1] الشهير الذي يحكم على أولئك الذين يعوزهم كلُّ شيء بأنهم غير قادرين على الأخذ. فالمقتدر والسعيد بذاته يصير إذن بالآخرين أسعد وأقدر أيضًا. أجل، إن من شأن السعداء أن يعقدوا صفقة طيبة ومقايضة أطيب – لكنْ شريطة أن تكون لديهم سعادة فيهم، فيعطوها. وعلى صاحب العزم أن ينعم النظر جزمًا من هذه الناحية فيما يصرفه عن طريقة بعينها في الحب لا تجدي نفعًا البتة.

ففي رأيي، إذن، أن السعادة الصميمة والخاصة لا تُناقِض الفضيلة البتة، بل إنها بالحري فضيلة بحدِّ ذاتها، كما تنبِّهنا إلى ذلك كلمة “فضيلة” الجميلة هذه التي مؤداها الإحسان[2]. إذ إن الأسعد بالمعنى التام هو، بكلِّ وضوح، مَن يُحسِنُ طرح السعادة الأخرى في البحر كما يُطرَح الثوبُ المبتذل. أما غناه الحق فلا يطرحه البتة، إذ لا يستطيع إلى هذا سبيلاً؛ ولا حتى الجندي الراجل مهاجمًا أو الطيار ساقطًا: إذ إن سعادتهما الصميمة مُحكَمة الارتباط بهما ارتباط حياتهما؛ إنهما يقاتلان بسعادتهما كأنما يقاتلان بسلاح؛ ما دفع إلى القول بأن ثمة سعادة في البطل الساقط. لكنما يجدر بنا هنا أن نستعمل هذه العبارة المصحِّحة التي تخص اسپينوزا بالذات، فنقول: ليس بتاتًا لأنهما ماتا في سبيل الوطن كانا سعيدين، بل بالعكس، لأنهما كانا سعيدين قويا على الموت. هكذا فلتُضفَر أكاليلُ تشرين[3].

5 تشرين الثاني 1922


* Alain, « Bonheur et vertu », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 223-225.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] مثل الزارع كما ورد في إنجيل متى 13: 4-9: “هو ذا الزارع قد خرج ليزرع. وبينما هو يزرع، وقع بعض الحَبِّ على جانب الطريق، فجاءت الطيور فأكلته. ومنه ما وقع على أرض حَجِرة لم يكن له فيها تراب كثير، فنبت من وقته لأن ترابه لم يكن عميقًا؛ فلما أشرقت الشمس احترق، ولم يكن له أصل فيبس. ومنه ما وقع على الشوك، فارتفع الشوك فخنقه. ومنه ما وقع على الأرض الطيبة فأثمر، بعضه مئة، وبعضه ستين، وبعضه ثلاثين. فمن كان له أذنان فليسمع!” (المحرِّر)

[2] كلمة “فضيلة” vertu بالفرنسية تعني “القدرة” puissance. أما بالعربية فيقال: الفضْل، أي البقية، والفُضُل: الثوب الذي يُبتذَل في الشغل؛ ويقال أيضًا: فَضَلَ، أي زاد وأكثر، والفضْل: ضد النقص، أي الزيادة، وكذلك الإحسان أو الابتداء به بلا علَّة له؛ ومنه، الفاضل: ذو الزيادة، والفاضلة: الهبة والنعمة، والفضيلة: الدرجة الرفيعة في الإحسان والمعروف، خلاف النقيصة والرذيلة. يتبيَّن مما سبق أن الفاضل الحق هو السعيد الحق، وهو الغني المقتدر أيضًا، لأنه يُحسِنُ مما عنده أصلاً ويطرح واهبًا ما يفضُل عن قدرته. (المترجم)

[3] يحتفي الفرنسيون في الأول من تشرين الثاني لـ”عيد جميع القديسين” Toussaint (ويليه عيد الموتى في الثاني منه)، وفيه تُضفَر أكاليلُ الزهر وتوضع على شواهد القبور؛ كما يحتفلون في الحادي عشر منه بتوقيع “هدنة” 1918 مع ألمانيا التي أنهت الحرب العالمية الأولى، فيكرِّمون ذكرى الأبطال الذين قضوا في سبيل الوطن. (المحرِّر)