مستقبلنا – ألان

مستقبلنا*

ألان

ألان**

 

مادمنا لا نحسن فهم ترابُط الأشياء كلِّها وتسلسل الأسباب والنتائج فالمستقبل يعيينا. ترى حلمًا أو كلامًا ينطق به ساحر يقتل آمالنا؛ النذائر تأتينا من كلِّ حدب وصوب. هي فكرة لاهوتية. كلٌّ منَّا يعرف حكاية ذلك الشاعر الذي تنبَّأ له عرَّاف بأنه سيموت من جراء سقوط بيت على رأسه فصار يبيت في العراء؛ لكن هذا لم يثنِ الآلهة عن مرادها، فألقى نسرٌ بسلحفاة على رأسه الأصلع ظنًّا منه أنه حجر! كما تُروى حكايةٌ عن ابن بعض الملوك كُتِبَ عليه، حسبما نطق به العرَّاف، أن يُهلِكَه أسد، فاستُبقي في الدار مع النساء؛ لكنه ما لبث أن اغتاظ من ستارة مطرَّزة تمثِّل أسدًا، فسحج قبضته بمسمار صدئ ثم مات من الغنغرينة!

الفكرة المستخلَصة من هاتين الحكايتين هي فكرة الجبر والقضاء التي ما عتم اللاهوتيون أن جعلوا منها عقيدة، ومُفادها ما يلي: مصير كلٍّ منا مكتوب مهما فعل! وهذا ليس من العلم في شيء، لأن هذه الجبرية تعني في الحاصل: “مهما تكن العلل فالمعلول واحد.” بيد أننا نعلم أنه إذا اختلف السبب اختلفت النتيجة. بمستطاعنا أن ندمِّر شبح المستقبل المحتوم هذا بالتعقُّل التالي: هَبْ أني أعرف أن الجدار الفلاني سوف يسحقني في يوم كذا وساعة كذا – هذه المعرفة بالذات سوف تحبط النبوءة. وهكذا نعيش: في كلِّ لحظة ننجو من مصيبة لأننا نتوقَّعها؛ بذا فإن ما نتوقَّعه – وبكلِّ معقولية – لا يقع. هذه السيارة ستدهسني إذا بقيت وسط الطريق، لكني لا أبقى هناك.

وإذن، فما أصل هذا الاعتقاد بالجبر والقضاء؟ أصله خصوصًا مصدران اثنان. الخوف، أولاً، مرارًا ما يرمي بنا في المصيبة التي ننتظرها. إذا تنبَّأ لي أحدهم بأن سيارة سوف تدهسني، وإذا طرأت ببالي الفكرة في اللحظة غير المناسبة، فحسبي هذا لكي لا أتصرف على ما ينبغي؛ إذ إن الفكرة المفيدة لي في تلك اللحظة هي فكرة النجاة بنفسي، ومنها يتبع الفعل على الفور؛ بالعكس، فإن فكرة أني سأبقى في مكاني تشلُّني بالآلية ذاتها. إنه نوع من الدوار يرتزق منه السحرة أيَّما ارتزاق!

كذلك يجب القول بأن أهواءنا وعيوبنا تتصف بقدرة التقاطر إلى الهدف نفسه من شتى الدروب. بالإمكان التنبُّؤ لمقامر بأنه سيقامر، لبخيل بأنه سيكدِّس المال، لطَموح بأنه سيسعى بالدسيسة. ترانا، من غير ساحر حتى، نجلب النَّحس على أنفسنا بنوع من السحر قائلين: “أنا هكذا، ولا حيلة لي في ذلك.” إنه دوار هو الآخر، ومن شأنه أيضًا أن يجعل النبوءات تَصْدُق. لو كنَّا نعرف حقًّا التغير المستمر من حولنا، تنوُّع الأسباب الصغيرة وتفتُّحها المستمر، لكان هذا حسبنا لكي لا نصنع لأنفسنا أقدارًا.

اقرؤوا جيل-بلاس[1]: إنه كتاب لا بأس به، نتعلَّم منه عدم الاتكال على الفأل الحسن ولا على الفأل السيئ، بل المضي قُدُمًا وترك الريح تحملنا. أخطاؤنا تفنى قبلنا؛ فلا نحنطنَّها البتة!

28 آب 1911


* Alain, « Notre avenir », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 65-67.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن مقالاته في السعادة أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] هي حكاية جيل-بلاس دي سنتيانا (1715-1735): رواية في أربعة أجزاء للكاتب الفرنسي ألان رونيه لوساج (1668-1747). (المحرِّر)