الحتمية – ألان

الحـتـمـيَّة*

ألان

ألان**

 

نحن لا نعرف أن نبدأ شيئًا، أقول، ولا حتى لمدِّ ذراع: فما من أحد “يبدأ” بإصدار أمر إلى الأعصاب أو إلى العضلات، لكن الحركة تبدأ من تلقاء ذاتها؛ وشأننا نحن هو أن نتابعها ونتمَّها على أحسن ما يكون. وهكذا فنحن، وإنْ كنَّا لا نقرِّر أبدًا، ترانا دومًا نسوق، شأننا شأن سائق العربة يلجم الحصان النزق. لكن الحوذي لا يستطيع أن يلجم إلا الحصان الذي ينزق؛ وذاك هو ما يسمَّى انطلاقًا: يستفيق الحصان وينفر، والحوذي يوجِّه هذه الهَبَّة. بالمثل، إذا كانت السفينة عديمة الاندفاع فهي لا تذعن للدفة بتاتًا. قصارى القول إنه لا بدَّ من الانطلاق كيفما اتَّفق؛ ويحين من ثَمَّ وقتُ التساؤل عن الوجهة التي نقصد.

وأسأل: مَن ذا الذي اختار؟ لا أحد اختار، بما أننا كنَّا جميعًا أطفالاً أولاً. لا أحد اختار، لكن الجميع فعلوا أولاً. كذا فإن اختيارات الحياة تنتج من الطبيعة ومن الظروف. ومنه، فإن الذين يتشاورون لا يقرِّرون أبدًا؛ ولا شيء أكثر مدعاةً للسخرية من التحليلات المدرسية، حيث توزَن الدواعي والبواعث. وهكذا فإن خرافة مجرَّدة – وتفوح منها رائحة عالِم النَّحو والصَّرْف! – تمثِّل لنا هرقل مختارًا بين الرذيلة والفضيلة. لا أحد يختار؛ الجميع سائرون، والدروب كلُّها حسنة. فنُّ الحياة عبارة أولاً، على ما يبدو لي، عن عدم توبيخ النفس بتاتًا على الخيار المتَّخَذ ولا على المهنة المزاوَلة – لا، بل إجادة مزاولتها. نودُّ أن نرى حتميةً في هذه الخيارات التي نجدها متَّخَذة والتي لم نتَّخذها؛ لكن هذه الخيارات لا تُلزِمنا البتَّة لأنه لا توجد قسمة مشؤومة بتاتًا: كلُّ قسمة فهي قسمة ميمونة إذا أراد المرء أن يجعلها ميمونة. فما من شيء ينمُّ عن الضعف أكثر من تمحُّك المرء حول طبيعته. لا أحد يملك الخيار؛ لكن في الطبيعة البشرية من الغنى ما يكفي لإرضاء أكثر الناس طُموحًا. تحويل الضرورة إلى فضيلة هو العمل الجميل والجليل.

“واحسرتي، ما الذي لم أدرسه؟” – ذاك عذر الكسول. ادرسْ إذن. فلا أحسب أن إصابة المرء حظًّا من الدَّرْس هو أمر بهذه العظمة إذا كفَّ عن الدرس. إذ إن الاتِّكال على الماضي لا يقلُّ حمقًا عن الشكوى منه. ففي الناجز من العمل، لا شيء من الجمال بحيث يجوز الركون إليه، ولا شيء من القبح بحيث يتعذر إنقاذه. حتى إني لأميل إلى الظن بأن الحظوظ الطيبة أصعب اتِّباعًا من السيئة. إذا كان مهدك مزيَّنًا بالجنِّيات[1] فخذ حذرك.

ما أراه جميلاً في رجل مثل ميكلانجلو هو تلك الإرادة الوثَّابة التي تأخذ على عاتقها المواهب الطبيعية، فتحوِّل حياة الرغد إلى حياة مشقَّة. فذاك الرجل عديم المحاباة كان الشيب قد غزا رأسه حين كان يذهب، على حدِّ قوله، إلى المدرسة لكي يحاول أن يتعلَّم شيئًا. وهذا يبيِّن للمتردِّدين أن الأوان لا يفوت أبدًا على إعمال الإرادة. ألن يسخر منك البحَّار إذا قلت له إن الإبحار كلَّه يتوقف على أولى ضربات ساق الدفة؟ لكن ذاك ما يُراد للأطفال أن يصدِّقوه؛ لكنهم، لحسن الحظ، لا ينصتون البتة؛ إلا أنهم، مع ذلك، يكونون قد أنصتوا أكثر مما يجب إذا آل بهم ذلك إلى اعتناق الفكرة الميتافيزيقية القائلة بأن حياتهم كلَّها متوقِّفة على تعلُّم الألفباء! هذه الفكرة الوخيمة لا تغيِّرهم البتة في الطفولة، لكنها تضرُّهم فيما بعد؛ إذ إن عذر الضعفاء هو ما يجعل ضعفهم. الحتمية هي رأس الأفعى.

12 كانون الأول 1922


* Alain, « La Fatalité », in Propos sur le bonheur (1928), Gallimard, coll. « Idées », 1964, pp. 60-62.

** لقب أستاذ الفلسفة الفرنسي إميل شارتييه (1868-1951). كاتب مقالة لامع، تفصح مقالاته القصار – وهي جنس أدبي-فلسفي برع فيه – عن مذهب إنساني روحي تتخلَّله السخرية الرفيعة والملاحظة الدقيقة. قال بضرورة مزاولة الفيلسوف العملَ اليدوي وبضرورة اطِّلاعه على العلوم حتى لا تفارق الفلسفةُ الحياةَ العملية، كما أدان الحرب بكل أشكالها. قيل إن كتاباته أنقذت العديد من القراء من اليأس.

[1] كناية عن ولادة ميمونة الطالع. (المحرِّر)