البيئة والنزاع*
ج. كريشنامورتي
يبدو لي هامًّا فهمُ أن النزاع، من أيِّ نوع كان، لا يثمر تفكيرًا مبدعًا. فإلى أن نفهم النزاع وطبيعة النزاع، وما هو الشيء الذي يتنازع المرءُ معه، فإن مجرَّد التصارع مع مشكلة، أو مع خلفية أو بيئة بعينها، لا جدوى منه إطلاقًا. فكما أن جميع الحروب تسبِّب التدهور وتثمر حتمًا مزيدًا من الحروب، مزيدًا من البؤس، كذلك تقود مصارعة النزاع هي الأخرى إلى مزيد من البلبلة. بذا فإن النزاع ضمن النفس، مُسقَطًا على الخارج، يسبب البلبلة في العالم. لذا من الضروري – أليس كذلك؟ – فهمُ النزاع ورؤيةُ أن النزاع، من أيِّ نوع كان، ليس مثمرًا لتفكير مبدع، لكائنات إنسانية سليمة. ومع ذلك، فإن حياتنا برمَّتها مهدورة في الصراع، وترانا نظن أن الصراع جزء ضروري من الوجود. هناك نزاع ضمن النفس ومع البيئة – البيئة بوصفها المجتمع، الذي بدوره هو علاقتنا مع الناس ومع الأشياء ومع الأفكار. هذا الصراع يُعتبَر حتميًّا، وترانا نظن أن الصراع لا غنى عنه لسيرورة الوجود. والآن، هل الأمر كذلك فعلاً؟ وهل ثمة طريقة حياة تستغني عن الصراع وتوجد فيها إمكانية الفهم من دون النزاع المعتاد؟ لا أدري إنْ كنت لحظت أنك كلما أمعنت في مصارعة مشكلة نفسانية، تراك تزداد بلبلة وتَعْلَق فيها أكثر، وأن الفهم لا يأتي إلا حين يكفُّ الصراع، حين تتوقف سيرورة الفكر برمَّتها. وإذن، فعلينا أن نتحرَّى عما إذا كان النزاع لا غنى عنه، وعما إذا كان النزاع مثمرًا.
والآن، نحن نتكلم على النزاع في أنفسنا ومع البيئة. البيئة هي ما هو المرء إيَّاه في نفسه. أنت والبيئة لستما سيرورتين اثنتين مختلفتين؛ أنت البيئة، والبيئة أنت – وهذا واقع واضح. أنت مولود ضمن جماعة من الناس بعينها، سواء في الهند أو أميركا أو روسيا أو إنكلترا، وتلك البيئة بالذات، بمؤثراتها الناجمة عن المناخ والتقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية، هي التي تخلقك – وأنت تلك البيئة. وللتحرِّي عن وجود شيء أكثر من مجرَّد نتاج البيئة، عليك أن تتحرَّر من البيئة، أن تتحرَّر من إشراطها. ذلك واضح، أليس كذلك؟ إذا نظرت في نفسك متأنيًا سترى أن ولادتك في هذا البلد جعلت منك – مناخيًّا، اجتماعيًّا، دينيًّا، واقتصاديًّا – ثمرتَه أو نتاجَه. أي أنك مشروط. وللتحرِّي عن وجود شيء أكثر، شيء أعظم من مجرَّد نتاج شرط، عليك أن تتحرَّر من ذلك الشرط. أما وأنك مشروط فإن الاستفسار عن وجود شيء أكثر، شيء أعظم من مجرَّد ثمرة البيئة، لا معنى له. من الواضح أننا يجب أن نتحرَّر من الشرط، من البيئة، وعندئذٍ فقط يمكن لنا أن نكتشف إذا كان هناك شيء أكثر. والجزم بوجود شيء أكثر أو بعدم وجوده هو قطعًا طريقة مغلوطة في التفكير. على المرء أن يكتشف بنفسه، وليكتشفَ، عليه أن يختبر.
*
إذن، ونحن نتمعَّن في هذه المسائل، فلنضعْ – رجاءً – نصب أعيننا أننا ننهض لرحلة معًا لاكتشاف الأشياء معًا؛ لذا لا خطر هنا من علاقة التلميذ والمعلِّم. أنت لست هنا بصفتك المُشاهِد لتراني أمثِّل دورًا؛ كلانا يمثِّل، وبالتالي، ما من أحد منَّا يستغلُّ الآخر.
نيودلهي، 28 تشرين الثاني 1948
* From the Verbatim Report of the second public talk in New Delhi, 28 November 1948, in Collected Works of J. Krishnamurti, copyright ©1991 Krishnamurti Foundation of America.