الأرشيف الشهري: يونيو 2010

في معنى الحياة والموت – ديمتري أڤييرينوس

حـيـاة… مــوت…

ديمتري أڤييرينوس*

الحياة طاقة تتجلى في ما لا يُحصى عددُه من الأشكال والبنى المتنوعة، وتختص بالقدرة على تَعْضِيَة organizing المادة (= منحها الخاصية العضوية). وحين تنسحب طاقة الحياة، يتوقف التعضِّي organization، وتأخذ البنية التي كانت تلك الطاقة تسري عبرها في التحلل – هذا ما يسميه الناس الموت.

وحين تسري طاقة الحياة من خلال البنى، يصير النمو أيضًا ممكنًا: الغرسة تصير شجرة، الجرو يصير كلبًا، الطفل يصير بالغًا، إلخ. ثم إن النمو يتم حسب نموذج محدد: حين يصاب جسم حي بجرح، فيتمزق اللحم، سرعان ما تبدأ عملية الالتئام؛ وهذه العملية تستدعي تكاثُر خلايا مختلفة، ذات مواصفات معينة خصيصًا للجزء المصاب من الجسم، حتى يعود إلى سابق شكله. مثال: إذا فقد ضبٌّ ذيله ينمو مكانه ذيل جديد، شكله شكل الذيل المفقود تمامًا. ومنه، يتم النمو والتجدد تبعًا لنموذج غير مرئي موجود سلفًا. لماذا تتفتح كل بذرة عن نوع مخصوص من الشجر؟ لماذا لا تفقس بيوض العندليب إلا عن عنادل؟ نماذج البنى الحية كلها موجودة قطعًا في مكان ما. فأين هي؟ هل هي موجودة ضمن فطنة الحياة نفسها؟ ربما، لأن هذه الطاقة المُعَضِّية organizing تتميز، على ما يبدو من سلوكها، بفطنة خارقة!

* * *

إلى ذلك، حيثما وُجدت الحياة وُجد الوعي، لكنْ على مراتب مختلفة، على درجات قد تزيد أو تنقص تعيُّنًا. الإحساس، أولاً، شكل من أشكال الوعي. إذ إن حدوث الوعي يفترض تماسًا مع "الخارج"؛ فعبر هذا التماس يُستقبَل في الداخل نوع من "رسالة" عن العالم الخارجي. على سبيل المثال، قد يدل إحساس لمسي على وجود شيء طري أو خشن في الخارج. الأحاسيس المختلفة محمَّلة برسائل مختلفة، يُتلقى من خلالها انطباع معين عن العالم الخارجي. وكلما ازداد تعقيد البنية، تعاظمتْ إمكانية الإدراك: من شأن الحياة في متعضِّية organism بدائية أن تعي بضعة أشياء وحسب لا غنى عنها لبقائها؛ أما البنى المتطورة، فثمة فيها توسُّع للوعي وللاستجابة. وحين تكف طاقة الحياة عن السريان ينعدم التماس، فينكفئ الوعي هو الآخر.

تزداد إمكانية الوعي، كما قلنا، مع تطور البنية. من المعلوم، مثلاً، أن النباتات حتى تتمتع بوعي أكبر مما كان يُظن ذات يوم؛ إنها لا تستجيب فقط للمنبهات الفيزيائية، كضوء الشمس مثلاً، بل تتجاوب كذلك مع الخواطر والمشاعر. وتبين اختبارات العالِم باكستر أنه حين تخطر فكرة "الحرق" في بال أحد على مقربة من نبتة، فإن النبتة تلتقطها وتستجيب؛ وقد سُجِّل ردُّ فعلها على مقياس گلڤاني[1]. والنبات أشد حساسية من أنواع أخرى أكثر بدائية من أشكال الحياة، وبالتالي، تتنوع ردود الفعل لديه أكثر. أما في بنية أعقد وأكثر تطورًا، مثل جسم الإنسان، فإن إمكانات الوعي أعظم بكثير لأن التماس يتم عبر أكثر من حاسة في وقت واحد؛ ومن هذا التماس يُتلقى مزيد من الانطباعات عن العالم الخارجي.

الوعي يتخذ شكل العاطفة أيضًا؛ فالشعور بالتعاطف حيال شيء ما يمكِّن المرء من التواصل مع ذلك الشيء. الإدراك الذهني كذلك شكل من أشكال التواصل؛ إنه القدرة على تمييز غرض من آخر عبر تعيين خواصه. الوعي في الكائن البشري يغطي، إذن، حقلاً واسعًا جدًّا، يشمل مختلف تلاوين الإحساس والشعور والإدراك الذهني.

وفي مرحلة متقدمة، يصير بمستطاع الوعي الإنساني عَقْلُ المجردات. لكن الوعي المحدود لا يستطيع غير إدراك الجزئيات، لا الكلِّيات. مثال على قدرة التجريد: الناس يرون زهورًا مختلفة من حيث الحجم والشكل واللون، لكنهم يطلقون عليها جميعًا تسمية "زهرة" لأن الزهور، على الرغم من اختلافاتها بعضها عن بعض، تشترك في صفة يصح أن نسميها "الزهرية". لقد تفكر الفلاسفة والعلماء، على مرِّ الأزمنة، في قضية الوحدة التي تنتظم الموجودات وفتشوا عنها؛ وقد توصلوا منطقيًّا إلى وجود الكلِّي المطلق، الأصل غير المتجلِّي الذي تتأصل فيه المتجليات جميعًا – "واجب الوجود بذاته" الذي تستمد منه الموجودات كافة وجودها والذي يكون الوعي لدى إدراكه متسنِّمًا ذروته.

لكن وعي وحدة الكلِّي المطلق ليس قضية تفكير، بل قضية اختبار؛ إذ إن ثمة أشياء لا يعرفها العقل إلا باختبارها. من الممكن للمرء أن يعي كرسيًّا بالنظر إليه وتحديد خصائصه، لكن السعادة لا تُعرَف على هذا النحو: إذ إن سعادة أحدهم لا يمكن لها أن تصير سعادة سواه؛ فكلٌّ يعرف السعادة باختبارها شخصيًّا وحسب. وهو لا يعرفها حقًّا إلا متى كانت الخبرة عميقة وصرفًا؛ فالسعادة الممزوجة بالإحباط أو السعادة السطحية ذات الطبيعة المؤقتة لا يجوز أن تُسمى سعادة حقيقية، كما يؤكد بعض الفلاسفة.

اختبار شيء اختبارًا تامًّا يعني اختباره بلا انقطاع. وإن وعي القيم الأزلية هو معرفة كنه الجمال والمحبة والسعادة من غير حدود. وتلك الخبرة تتوقف على المدى المتاح لطاقة الحياة حتى تسري سريانًا حرًّا من غير عوائق. فكما أشرنا أعلاه، كلما ازدادت حرية سريان الطاقة، تكشَّف الوعي عن قدراته – وضوحًا وحساسيةً وعمقًا وما إلى ذلك.

* * *

ربما لم تعد للبنية البشرية الحالية، التي هي ثمرة تطور ملايين السنين، من حاجة إلى تطور بيولوجي ملموس – لقرون قادمة على الأقل؛ إذ إن البنية الراهنة لا تزال قيد التطور: هناك، مثلاً، مساحات واسعة من قشرة المخ البشري ليست مستعمَلة بعدُ. لقد تنبأ تِلار دُه شاردان، منذ أكثر من ستين عامًا، بأن التطور المقبل للإنسان سيتم على الصعيد النفسي-الاجتماعي، لا على الصعيد الدماغي-البيولوجي البحت[2]؛ ما يعني أن إمكانات الإنسان المقبلة تكمن في مجال تفتُّح الوعي. فكما سبقت لنا الإشارة، الوعي هو التماس، هو تلقِّي انطباعات وعقد صلات؛ وحين يكون الوعي محدودًا تكون الصلات محدودة هي الأخرى. ولأن التماس قد يحصل على مستويات مختلفة، بما فيها مستويا الإحساس والفكر، أو على مستوى الكلِّي المطلق حتى، تختلف الصلات هي الأخرى من حيث النوعية والدرجة. فمَن يرَ في الزهرة شكلها المادي فقط قد يتلفها أو يستعملها كغرض تجاري بحت؛ لكنْ إذا قُيِّض له أن يبصر صفة الجمال في الزهرة فهو حتمًا لن يؤذيها. الإنسان الواعي جمال الزهرة وعيًا تامًّا لا بدَّ أن يحبها ويشملها برعايته؛ فالإنسان هو "راعي الوجود"، كما يقول هَيدگر.

وعي الجمال لا يمت بصلة إلى مجرد إدراك المعلومات. قد نكون على علم بكل معلومة تتعلق بالزهرة، لكننا لكي ندرك جمالها يجب أن نتعلم الوعي على مستوى مختلف. أغلب الناس يعتقدون أنهم واعون كل الوعي؛ لكنهم، إذا اتفق لهم أن يرصدوا أنفسهم بلا مواربة، لاكتشفوا أنهم "ربع واعين" فقط، وأن جزءًا كبيرًا من عمرهم – إنْ لم يكن كله – ينقضي وكأنهم في حلم. فلنوضح الأمر بمثال بسيط: من الممكن لنا أن نصادف أحد معارفنا في الشارع، فنبصره بالعين المادية من غير أن نراه، لا لعيب في البصر، بل لأن الذهن منشغل بأمر آخر؛ من الممكن لنا أيضًا أن ننظر إلى حديقة ولا نرى من جمالها شيئًا على الإطلاق لأن الذهن شارد في اجترار تفاصيل خلاف شخصي أو استثمار تجاري. حين يَعبُر خليط من الخواطر والصور من خلال المخ، فإن الإدراك الواعي ينخفض إلى حدٍّ كبير. والواقع أن جزءًا كبيرًا من حياة الناس مصروف في حالة مؤسفة من عطالة الوعي أو شروده. وحتى الذين "يعون" نسبيًّا لا يدركون إلا جانبًا من الأشياء الخارجية فقط: إن وعي وجود الحديقة دون الشعور بجمالها، أو الانتباه إلى جمالها انتباهًا سطحيًّا وحسب، يعني عدم النفاذ إلى النواة الداخلية بعد.

* * *

الصور والخواطر التي تبرز في الذهن هي وليدة الماضي. غير أن الوعي ليس في الماضي لأن الماضي انتهى. الذاكرة ليست إلا نوعًا من الظل؛ وحده الموجود حقًّا هو الحاضر، الآن. لكن الظلال والصور المستعادة من الماضي تحول دون الحضور الحي في الآن. الحياة – وليس مجرد العيش – تعني الوعي والتواصل. والحياة حياةً تامةً هي التمتع بإدراك غير مقيد، ليس لما يطفو على السطح وحسب، بل ولما يكمن في الأعماق الداخلية أيضًا؛ الوعي يجب أن يكون إدراكًا للكل، لا للجزء فقط، للدقيق، لا للغليظ فقط، لغير المرئي، لا للمرئي فقط. ومنه، حين يتخاذل فينا الإدراك الواعي فنحن لسنا "أحياء" حقًّا – نحن ربع أحياء فقط! وما يحول دوننا والحياةَ حياةً تامةً هي أعباء الماضي التي يجرجرها الذهن وراءه – أعباء ماض قد توارى، إلا ظلال ذكرياته.

كذلك المستقبل، ليس له هو الآخر من وجود: إنه ليس إلا نوعًا من الخيال. هناك، بالطبع، الزمن الفيزيائي (الوقت) المرتبط بدوران الأرض حول محورها؛ لكننا حين نبلغ ما نظنه المستقبل، فإننا نجده حاضرًا. ومنه، ليس للماضي ولا للحاضر من وجود حقيقي فعلي: إنهما موجودان فقط على هيئة صور في الذهن. الإحساس بالقلق أو بالأمل جزء من مستقبل متخيَّل؛ الألم والكره هما من الماضي، بل هما الماضي. وبسبب انشغالنا الذهني بهذه كلها فإننا نضيِّع الحاضر، مع كل ما ينطوي عليه الحاضر من ممكنات لتعليمنا أسرار الحياة.

* * *

لقد ولَّى زمن كان القوم فيه يظنون أن كل شيء يحدث في العالم عَرَضًا ومصادفة؛ إذ إن علماء وفلاسفة كبار باتوا يرون غير ذلك. فلو أن هذه الفرضية – "المصادفة والضرورة"[3] – كانت صحيحة منطقيًّا، لما كان من المتعذر إحصائيًّا، كما يؤكد العلم، أن تكون متعضِّية وحيدة الخلية قد تطورت مصادفةً وصولاً إلى البنية البشرية، وذلك بسبب وجود عدد هائل من العوامل والمتغيرات كان لا بدَّ من تدخُّلها جميعًا في "الاتجاه الصحيح". إن التكوين الحالي لعضو إبصار كالعين هو – منطقيًّا – أعقد من أن يكون قد تطور من جراء محض المصادفة. ولقد قاد وجود أدلة كهذه عددًا من المفكرين – ومنهم الفيزيائي القدير پول ديڤيس – إلى افتراض وجود "عقل إلهي" فاعل في الكون، فطنة هائلة مبطِّنة لظواهره وحوادثه[4]. وقد كان السير ألستر هاردي قد سلَّم من قبلُ، لا بوجود فطنة فاعلة في سيرورة التطور وحسب، بل بالمحبة بوصفها القوة المحركة لها – إذ وحدها المحبة تستطيع أن تتمخض عن هذا الجمال كله، عن هذه القدرة الخلاقة كلها في الكون المتجلِّي.

لكننا لا نفقه سر الحياة، فنفوِّت علينا جمالها. لماذا؟ لأننا نعرقل سريان طاقة الحياة سريانًا حرًّا. وعينا لا يدرك كل ما يسعه أن يدرك لأن الماضي والمستقبل يثقلان على المخ ويحدان من حساسيته؛ الصور الخيالية تدور فيه مشكِّلةً نماذج مختلفة، كما في الكاليدوسكوپ[5]. ولكن، ماذا يحدث حين يقع تحلل الجسم الذي نسميه الموت؟ صور الماضي كلها تزول بزوال المخ، فيتاح للحياة أن تتجسم في بنى جديدة وتتعلم أداءً لا يعرقله الماضي.

* * *

ما يفعله هذا الموت المزعوم في آخر العمر، على كلٍّ أن يفعله بنفسه من الآن – واعيًا؛ وإذ يفعله، يحيا حياة أكثر غنى وامتلاءً، بمعنى أنه يتعلم كيف يشحذ حساسية إدراكه إلى أقصى حدٍّ ممكن. لقد قال سقراط ما مُفاده إن الفيلسوف يتدرب على موته كل يوم: إنه ينقِّي وعيه من جميع صوره وذكرياته، فيبقيه بذلك منفتحًا لإدراك ما هو عميق، لا ما هو سطحي فقط، ما هو باطن، لا ما هو ظاهر فقط، ما هو لطيف، لا ما هو كثيف فقط. فكما قلنا أعلاه، الإدراك الواعي يقتضي التواصل. وكلما تعمَّق إدراك أحدهم – لا للأشكال المحيطة به وحسب، بل لجمال الحياة وسرِّها الساري في هذه الأشكال – كان اختباره للمحبة أعمق وقُربه من حقيقة الأشياء أدنى.

تشير الأبحاث التي أجريت في السبعينيات والثمانينيات على "الخبرات على تخوم الموت" near-death experiences إلى أن بعضهم يختبر ساعة مماته "المؤقت" أن المحبة هي غاية الحياة[6]؛ يعي القوم أن الفلاح الحق ليس عبارة عن ذيوع الصيت أو تكديس المال، بل هو القدرة المتعاظمة على التجاوب المحب مع وقائع الحياة. المحبة، في جوهرها، إدراك لوحدة الحياة، من حيث إن هذه تتجسد في صور وأشكال لانهائية، ووضع حدٍّ لوهم الكثرة. هذا الوهم أشبه برؤية انعكاس صورة القمر في الكثير من البرَك والسباخ والبحيرات وتوهُّم أن هناك أقمارًا عديدة! بالمثل، قد نظن بأن الفراغ المحتوى في غرفة هو غيره الفراغ في علبة – لكن الفراغ في الواقع واحد؛ الغرفة سوف تتهدم ذات يوم، والعلبة سوف تزول، لكن الفراغ سيبقى هو هو، واحدًا لا يتجزأ. على النحو نفسه، ثمة فطنة واحدة، محبة واحدة، طاقة كونية واحدة لا تنقسم.

معرفة هذا – بالخبرة المباشرة – هو تعلُّم أبلغ دروس الحياة. وهذا يمكن له أن يحدث إذا تعلَّمنا كيفية فتح عيننا الباطنة – بصيرتنا – وأفسحنا في المجال للوعي ليفصح عن ذاته، متخففًا من أعباء الماضي وأماني المستقبل الوهمية. ففي نمو الإدراك الواعي يكمن مستقبل الإنسان الحقيقي، لأنه من خلاله سوف يكتشف علاقة مختلفة، جديدة كليًّا، مع الأشياء طرا.


* كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.

[1] راجع: ندره اليازجي، هندسة الروح: أشكال صوفيا، فصل "أسرار عالم النبات"، في الأعمال الكاملة، مج 7، دار أمواج، طب 1: بيروت، 2005؛ ص 297-313.

[2] راجع: پيار تلار دُه شاردان، موضع الإنسان في الطبيعة، بترجمة ندره اليازجي، دار الغربال، دمشق (بلا تاريخ)، ص 131-134.

[3] من أصحابها والمروجين لها عالم البيولوجيا الفرنسي جاك مونود الذي نشر في العام 1970 كتابًا بهذا العنوان.

[4] راجع: پول ديڤيس، العوالم الأخرى: صورة الكون والوجود والعقل والمادة والزمن في الفيزياء الحديثة، بترجمة حاتم النجدي، دار طلاس، طب 1: دمشق، 1990.

[5] جهاز مؤلف من أنبوب كتيم يحوي عدة مرايا موضوعة بحيث يُنتج انعكاس قطع زجاجية صغيرة ملونة في الأنبوب، لدى تحريكه، أشكالاً متناظرة ومتنوعة.

[6] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "خبرات على تخوم الموت"، مجلة المعرفة، العدد 401 (شباط 1997)، ص 55-61.

نحو مفهوم أخلاقي للسلام – ديمتري أڤييرينوس

نحو مفهوم أخلاقي للسلام

الوعي التأمُّلي وحلُّ النزاعات

ديمتري أڤييرينوس

إذا لم تكن في سلام مع نفسك لا
يمكن لك أن تساهم في حركة السلام.

تيك نات هَنْه

تفوَّه بهذه العبارة ذات يوم الشاعر والناشط اللاعنفي ومعلم الزنْ الڤيتنامي الذي رشحه مارتن لوثر كينگ لنيل جائزة نوبل للسلام[1]؛ وهي، برأينا، تنطوي على أهم ما ينبغي لـ"حركة السلام" أن تتسم به، لكن تجاهُل مضمونها، مع ذلك، من أسهل ما يكون. إنها تعني، في جملة ما تعني، أن نوعية الوعي الفردي تعيِّن نوعية الوعي الجمعي وتُشرطها. لكن هذا الإدراك، على ما يبدو، يجب أن يتكامل تمام التكامل مع عكسه أيضًا، أي إدراك أن طبيعة الوعي الجمعي تعيِّن هي الأخرى طبيعة الوعي الفردي وتُشرطها. فهذان – الوعي الفردي والوعي الجمعي – سمتان من سمات كلٍّ أعظم يعمل على نحو غير مجزأ: "أنت العالم"، يقول ج. كريشنامورتي.

بيد أن ما يدخل نظريًّا في باب المفارقة المنطقية يتحول عمليًّا إلى صراع دموي! إن رؤية هذه السيرورة الديناميِّة dynamic كشيء سكوني static، ورؤية الأفراد المشاركين فيها كأشخاص مفصولين، بعضهم عن بعض وعن المنظومة الأكبر برمتها على حدٍّ سواء، هي من أسباب الصراع في الأساس. إذ إن مشكلات لا تقبل الحل – من نحو الحرية والمسؤولية والمطالبة بالحق والمساواة والسلام والعدالة – سرعان ما تطفو على السطح وتبدو غير قابلة للحل، لا لشيء إلا لأنها لا تُرى إلا من منظور واحد متعنت ومتجذِّر في وعي جمعي منغلق على نفسه. غير أن رؤية الوضع من منظور مختلف من شأنها أن تذيب خاصيته الثنوية dualistic، فتستبدل بها بصيرة جديدة قوامها التكامل والوحدة: ما كان يبدو منفصلاً وضديًّا يتكشف عن كونه سيرورة كلِّية مترابطة العناصر، تذوب فيها الأضداد لتصير مكمِّلات بعضها لبعض.

إن السيرورة التي يتحقق من خلالها هذا المنظور المختلف وثيقة الصلة بالمبادئ الأساسية للطرق التأملية العديدة التي رسخها أفراد ينتمون إلى الثقافات التي شهدها العالم كافة. لا تخلو ثقافة إنسانية من التأمل meditation لأنه، كما يتبدى لنا، نسق وجودي أصلي مركوز في الكائن الإنساني. ومع أن بعض الثقافات أوْلَته من التقدير والمنزلة ما لم تُوْلِه ثقافات أخرى، تبقى مبادئه الأساسية وتجلياته عالمية شاملة. التأمل، على حدِّ تعريفنا به، تبصُّر بالترابط، بالوحدة المتناغمة مع نظام أكثر إحاطة وشمولية. وهذه وحدة ليس من شأنها أن تمحو التنوع (كما تفعل الثقافة التي تحاول أن تسود العالم اليوم)، بل هي التنوع بذاته تتخلَّله الوحدة: "الوحدة-في-التنوع" l’unité-dans-la-diversité (تلار دُه شاردان). ومنه، لا يوجد مقترَب تأملي بعينه يلغي سواه، بل لانهاية من المقترَبات التأملية التي تصبُّ في الخبرة ذاتها؛ إذ إن التأمل الحقيقي لا يتكئ على الأشكال أو النشاطات الخارجية بتاتًا، بل يرجع بالحري إلى الخصائص الداخلية للبصيرة الروحية، وهي عينها لدى البشر أجمعين، وإن تكن تتصف بـ"مذاق" فريد فرادة الثقافات والأفراد.

من هذه "البصيرة" insight ينبثق المنظور "المختلف" المشار إليه آنفًا، وهو منظور بصير بكمال الكلِّية ويختبره اختبارًا حيًّا. كل "أنية" ego، بوصفها كيانًا منفصلاً، تُرى من هذا المنظور كتعبير فريد عن منظومة أكبر وكجزء منها. من هذا المنظور، أيضًا، تُرى الموجودات جميعًا متساوية من حيث الماهية والقيمة: كمال الكل يتطلب وجود أعضائه كلِّها، كما هي، متحولة أبدًا؛ وهذا الكل، إلى ذلك، ليس شيئًا سكونيًّا خاملاً، بل هو سيرورة عديدة الأبعاد. ومن هذا المنظور "الجديد"، أيضًا وأيضًا، تصير الأضداد أوجُهًا متكاملة، تنفح، معًا، شكلاً وطاقة ديناميين للوجود الكلِّي الأعظم؛ وما كان يبدو من قبلُ مظاهر منفصلة، وبالتالي نزاعية، يُرى من بعدُ كأوجُه وثيقة التواصل، متواكلة ومتكافلة، لسيرورة واحدة لا يُستثنى منها شيء.

* * *

لعل كتاب التحولات (يي-كنگ Yi-king أو I-ching) الصيني أن يزودنا، بهذا الصدد، باستبار ثاقب للمبادئ المبطِّنة لهذه النقلة في الإدراك ولأهميتها من أجل القضايا العملية التي تواجه حركة السلام – عالميًّا ومحليًّا على حدٍّ سواء. إذ لقد كان للـيي كنگ، بطبيعة الحال، تأثير عميق على الثقافة الصينية، وقد امتد هذا التأثير ليشمل شمولاً أقل مباشرة ثقافات أخرى عديدة[2].

تقوم النظرة إلى العالم التي يعبِّر عنها ويَبْسطها الـيي-كنگ على تبصُّر عميق بالطبيعة المتحولة أبدًا للظواهر: ما من شيء سكوني في الوجود؛ فالكيانات الفردية في الظاهر تنبثق جميعًا من سيرورة دينامية تفاعلية أشبه بالشبكة وترجع إليها. ومنه، فإن الاعتقاد بوجود فرديات "واجبة الوجود بذاتها" اعتقاد باطل واهم، وهو ناجم عن الفصل التعسفي الزائف للـ"ذات" عن الـ"عالم". المظاهر كلها، بما فيها الذات والعالم، تصدر عن قوتين طبيعيتين أساسيتين، متحولتين أبدًا، متقلبتين ومتضافرتين: الـينگ yang والـين yin. الينگ والين ليسا منفصلين أحدهما عن الآخر، بل هما وجهان لكلٍّ أعظم (طاو Tao) يتجلى ويفعل عبر تفاعلهما المتناغم. الينگ هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف، السماوي التوجُّه؛ والين هو المبدأ المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب، الأرضي التوجُّه. وعبر تمازجهما المتآلف، بوصفهما قوتين متساويتين ومتكاملتين، يتجلى العالم ويقوم ويتوارى تباعًا.

دائرة الطي-جي الصينية، وفيها قطبا الينگ (أبيض) والين (أسود).

هناك أيضًا، على ما يبدو، تقاطُب polarity مقايس في صميم الكائنات الإنسانية. وإن أحد التجليات العديدة لهذا التقاطُب في بنية الإنسان الفسيولوجية هو ما بيَّنه البحث في الدماغ، في الربع الأخير من القرن العشرين، من اختلافات وظيفية أساسية بين كلٍّ من نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن. يجب ألا يغيب عن بالنا أن الدماغ كلٌّ عضوي متماسك، وأن في كل محاولة لتحليله من حيث أجزاؤه إسرافًا في التبسيط بالضرورة. ومع ذلك، فإن المقارنة التالية قد تكون دقيقة التمثيل لكيفيتَي عمل كلٍّ من نصفَي الكرة المخية المتكاملتين في خطوطهما العريضة: عمل نصف الكرة الأيسر يشدد على التحليل والموضوعية والمنطق والمحاجَجة والعَمْد، بينما يشدد النصف الأيمن، بالمقابل، على الحدس والذاتية والمشاعر والخبرات والعفوية؛ النصف الأيسر ييسر العمل المنطقي، الرياضي، العلمي، الخطِّي linear، "المذكر"، الزمني، التفسيري، والنصف الأيمن يتيح العمل الخيالي، الإيقاعي، الفني، اللاخطِّي non-linear، "المؤنث"، المكاني، التأويلي؛ النصف الأيسر يختص بوضع المقولات، بالفصل، بالنظام التراتبي (الهرمي)، وهو بنيوي التوجُّه، نفعي، بينما النصف الأيمن يختص أكثر باختراق المقولات، بالوصل، بالتكامل، بالحركة، بالتحول، وهو سيروري التوجُّه، مجاني.

يتمتع الناس بكلتا المقدرتين، لكن الثقافة السائدة اليوم، على ما يبدو، تنزع إلى إنزال ميزات المخ الأيسر منزلة أرفع من مكمِّلاتها التي يختص بها المخ الأيمن. ولعل هذا عائد، نوعًا ما، إلى التمييز المطلق بين العقل والجسم الذي قال به ديكارت وأشياعه من العقلانيين والذي يشير فيه مصطلح "العقل" raison إلى خاصيتَي المخ الأيسر الرئيستين: الصواب والعَمْد. ولقد انساقت التربية الحديثة إلى التشديد على تنمية نصف الكرة الأيسر وعززتها، ما أنتج رجحانًا خطيرًا لكفة ميزان الخصائص العلمية و"المذكرة" والانفصالية على كفة الخصائص الفنية و"المؤنثة" والاتصالية، سواء في الأفراد أو في الثقافة ككل.

إن ما نحن بأمس الحاجة إليه الآن، على ما يبدو، هو تنمية واعية للملَكات الحدسية والاستقبالية والتكاملية التي قُمِعَت أو، في أحسن الأحوال، تُركَت للضمور. هذا هو "تحرير المرأة" بالمعنى العميق للكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو النمط الجسماني والاجتماعي gender، بما هو سماح بتفتح الخصائص المؤنثة النبيلة عند البشر كافة. لكن حصول هذا يتطلب نقلة هائلة في القيم؛ إذ إن المخ الأيسر التحليلي، المنطقي، "النهاري" لم يقوِّم نصفه الآخر – بقيمه وخصائصه الصوفية، "الليلية" – حق قيمته. فسيطرته لم تشمل محاولة السيادة على النشاط الذهني الداخلي وحسب، بل طالت أيضًا التجليات الخارجية لخصائص نصف الكرة الأيمن وقيمه، بمن فيها النساء وأبناء الثقافات غير الصناعية والطبقات الأقل انتفاعًا من مزايا الثقافات الصناعية والفنانين والمتصوفة والحيوانات غير البشرية والمنظومة الإيكولوجية برمتها، في بريتها وتنوعها المذهلين. ومن عجائب التقدير أنه كلما ازداد هؤلاء معاناة من السيطرة والقمع والعدوان والاستغلال على يد الخاضعين لسيطرة مخهم الأيسر، ارتفعت قيمتهم كمعلمين وقدوات – وهذا لأنهم يمثلون في الواقع الإمكانية الوحيدة لإعادة التوازن إلى نصابه. إن "سادة الدماغ الأيسر"، إذا جازت التسمية، إذ يدمرون مكمِّليهم باعتبارهم "الآخر"، يدمرون أنفسهم من حيث لا يدرون.

* * *

التأمل، كما عرَّفنا به أعلاه، هو كيفية الوجود الأساسية لنصف الكرة الأيمن، من حيث كونه لامنطقيًّا، حدسيًّا، تكامليًّا، لاثنويًّا non-dual في الأساس. إن ذهنًا لا يستطيع أن يعمل بالفعالية نفسها بالكيفيتين التحليلية والتأملية لهو ذهن منقسم، محترب مع نفسه، سائر حتمًا نحو الجنون. فمن موقف السيطرة والتحكم الأساسي الذي تتبناه كيفية عمل نصف الكرة الأيسر، ومن اختلال التوازن الداخلي الذي يستتبعه ذلك، تنخلع النزاعات والحروب الخارجية العديدة وتُستهلك ممكناتُها البشعة حتى النفاد.

إن الإدراك التحليلي الذي يتصدر ثقافة العولمة السائدة اليوم ملَكة ذهنية بائسة المحدودية، وهي، إلى ذلك، لا تستطيع أن تدرك طبيعة حدودها. أما البصيرة التأملية، فهي مدركة لهذه الحدود إدراكًا عميقًا؛ لكنْ بما أن عملها غير منطقي أساسًا، فهي لا تستطيع أن تنقل معرفتها إلى الملَكة التحليلية للمخ الأيسر بلغة يستطيع هذا أن يفهمها؛ لذا تراها تفصح عن نفسها من خلال واسطات أخرى، من نحو الحلم والأسطورة والفن والشعر والموسيقى والرقص والوجدان الحدسي العميق. وربما كان في عجز المخ الأيسر عن الارتياح إلى كيفيات التعبير هذه تعليل لأزمة الثقة بينه وبينها ولنزوعه إما إلى مهاجمتها وإما إلى الاتِّجار بها لتعزيز إحساسه بالتفوق والسيطرة، من حيث هي أمثلة حية فاضحة على محدودية مقترَبه.

وحدها البصيرة الحدسية (المكبوتة اليوم) بوسعها أن تعالج هذا الوضع الشاذ، فرديًّا واجتماعيًّا على حدٍّ سواء. فهي، إلى جانب كونها مصدر كل فنٍّ حقيقي (بوصفه فعل كشف)، منبع المحبة والحكمة أيضًا. وهذه الخاصية عبَّر عنها بطرق مختلفة عديدة صوفيون مختلفون عديدون في لحظات إشراقهم التأملي.

بذا فإن المنظور المولود من البصيرة التأملية يقوم على استبار اختباري مباشر (لا يتكئ على وساطة النطق/المنطق) للترابط بين تجلِّيات الحياة-الأم كافة. ومن هذه البصيرة تولد الرحمة والتراحُم وحسٌّ بالتضامن يحيط بكل شيء. وعندما تندمج هذه البصيرة اندماجًا متوازنًا، تكامليًّا، في الإدراك العقلاني المنطقي (ما يسميه بعضهم "العقل الخطابي" discursive reason)، فإن أخلاقًا "سلامية" غنية عضويًّا تبدأ بالظهور عفويًّا. وإذ يبدأ الجانبان، ضمن الفرد الواحد، يعملان معًا عملاً متناغمًا عن طريق زيادة فعالية الجسم الثفني corpus callosum الواصل بين نصفَي الكرة المخية، فيما يمكن أن يُدعى "العلاقة الصحيحة" (التعبير لكريشنامورتي)، فإن الشرخ بينهما يلتحم، ومعه الشرخ بين الفرد والجماعة الأوسع، وبعبارة نفسانية يونگية، تتم مواجهة "الظل" shadow. وإذ يتم اعتناق الظل، يتكشف عن كونه جزءًا لا يتجزأ من النفس، لا بل هو النفس في مظهر آخر من مظاهرها[3].

وهكذا فإن الموجودات جميعًا، بما فيها الذات، تُرى تدريجيًّا كأعضاء مترابطة في سيرورة كلِّية، وليس كفرديات منفصلة؛ والمحبة والرحمة والفرح بفرح الآخرين تتصاعد عفويًّا كمشاعر متجذِّرة عميقًا في منظور متكامل لا يعود منحصرًا بالهموم الأنانية. خير الآخرين و"خيري" لا يعودان متضادين؛ فهما في الواقع لا ينفصلان. ومع نمو الأفراد، إذ يدركون أن خيرهم خير واحد لا يتجزأ ولا ينفصل عن خير المنظومة الأوسع، يبدؤون أيضًا بإدراك أن جماعتهم والجماعات الأخرى متصلة اتصالاً مماثلاً. الجماعات كلها متساوية من حيث مشروعيتها في الوجود، على أن يعي كلٌّ منها أن "الآخر" أيضًا، بالمقدار نفسه، مظهر مكمِّل له يساهم في بناء الكل الأكبر. بعض الجماعات، على ما يبدو، "ظلٌّ" بعضها لبعضها الآخر – ومن هنا عداؤها لها. فإذا تجرأ كل منها على اعتناق الآخر وتقبُّله، انطلق مقدار هائل من الطاقة النفسية، الفردية والجماعية، من أجل لحم الشروخ وحل النزاعات على مستويات الفرد والجماعة والمنظومة الأكبر، حسبما يقتضيه العدل وسائر القيم الإنسانية الشاملة.

ضمن هذه السيرورة، تصبح الأخلاق أجلى وأكثر عفوية، إذا صح التعبير. فالسلوك الأخلاقي إذ ذاك هو ببساطة السلوك الطبيعي السوي لدى فرد أو جماعة نمَّتْ لديها البصيرة التأملية تنمية تامة. عندئذ تكون دوافع نصفَي الكرة المخية الأيسر والأيمن كليهما على علاقة يُغْني فيها كلٌّ منهما الآخر ويتكامل معه، بحيث يصبح كلٌّ من السلام في الداخل والسلام في الخارج انعكاسًا للآخر.

ومنه، فإن تربية تولي تنمية الملكات الحدسية اهتمامًا ناضجًا تربية مصيرية الأهمية من أجل تحقيق الالتحام الداخلي والرحمة والسلوك الأخلاقي و… السلام العالمي، وهي أيضًا مصيرية من أجل تنمية الحكمة. إن تعريف الإپستمولوجي گريگوري بَتِسون بالعقل (المختلف جدًّا عن تعريف ديكارت!) يضيء علة الأمر: فهو يعرِّف بالعقل كنموذج تعضِّي (= تنظيم) organization لا غنى عنه للمنظومات الحية كلها. وبذلك لا يقتصر وجود العقل على أشكال معينة "راقية" من أشكال الحياة، بل يتخلل أيضًا المنظومات الإيكولوجية والكون بأسره، بوصفه "نموذجًا رابطًا" a pattern which connects (التعبير لبَتِسون) يلحم ما بين الأشياء وينظِّمها.

ويبدو أنه بمقدار ما تربي الثقافة الناس على الاختصاص وعلى تضييق حقل تقصيهم ومهارتهم، يفقد هؤلاء قدرتهم على جعل حياتهم وخبرتهم متصلتين بالنماذج الأوسع التي ترسو فيها. إن طبيعة التفكير والاستعراف cognition الإنسانيين قائمة على ملَكة الربط ما بين الأفكار في سياق، وبالتالي، إيجاد القيمة والمعنى، في مقابل كومپيوتر لا يوجِد المعنى من خلال الارتباط، بل يعالج المعلومات وحسب. وهذه القدرة على الجمع بين المتآلفات من الخصائص الأساسية للفطنة intelligence في أي منظومة مترابطة. وعندما يفقد الناس هذه الملَكة من جراء الاختصاص الأكاديمي الحصري والتفتت الاجتماعي المعمَّم، فإنهم في الواقع يقزِّمون ذهنهم ويضيِّقون مجال فطنتهم ويصيرون أغبى[4]. فمن دون سيرورة البصيرة الحدسية التي يختص بها نصف الكرة المخية الأيمن والتي تحوك الروابط، تصير الفطنة الإنسانية مجرد ذكاء صنعي AI.

ينجم الغباء الأخلاقي عن ذلك حتمًا. فالحكمة ترخم في ملَكة حياكة الروابط على عدة أبعاد؛ وهي الوجه المكمِّل للرحمة التي لا توضع موضع التطبيق إلا بالتراحم الذي هو فن إيجاد الصلات وصونها بامتياز. ومثلما تسير الحكمة والتراحم والسلام يدًا بيد، كذلك يسير الغباء والأنانية والاستغلال والعدوان. ففي جهلهم الأعمى بالترابط الأساسي للحياة، يلتمس الأفراد والجماعات تلبية مصالحهم بطُرُق منحصرة في ذواتهم أو في الفئة الضيقة التي ينتمون إليها، فيسعون فيها ضاربين بخير الآخرين والكل الأكبر عرض الحائط. وهذا المسعى، أخلاقيًّا، مسعى شرير، لكنه يتفرع أساسًا عن جهل مطبق بالطبيعة الحقيقية للاتصالية الإنسانية والكونية.

* * *

لا يمكن لمفهوم أخلاقي للسلام أن يكون عادلاً وشاملاً، على ما يبدو، ما لم يلتحم الشرخ بين العقل والحدس. فبتنمية البصيرة التأملية بأن الموجودات ومجتمعات الموجودات كلها مترابطة، ربما أمكن حل الغباء الذهني والاجتماعي والإيكولوجي والأخلاقي، الذي يبدو أنه بات سمة عصرنا السائدة، في منظور أشمل[5].

إن الإمكانات المتضمنة في هذا المنظور الأكثر توازنًا موجودة في الواقع فعلاً، وهي واعدة بتوطيد رؤية مقوِّية وتبصُّرات طازجة في سيرورة تحقيقها. وبالنظر إلى الأهمية العاجلة للمشكلات الجارية وإلى هول المعاناة الناجمة عنها، فإن الجهود الرامية إلى صياغة مفهوم أخلاق سلامية من منظور أكثر تكاملاً وأكثر انسجامًا مع الطبيعة الإنسانية تستحق منا جميعًا المزيد من التقصي والمزيد من نذر النفس.


[1] راجع: "المستقبل متضمَّن في الحاضر"، حوار مع تيك نات هَنْه، في كاثرين إنغرام، على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، بترجمة أديب الخوري ومراجعة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008، ص 140-165.

[2] يعود الفضل في هذا التأثير إلى ترجمات رائدة لهذا الكتاب (ولغيره)، كالتي قام بها عالم الصينيات الكبير ريتشارد ڤيلهلم إلى الألمانية واهتم بها وقدم لها مؤسِّس علم النفس التحليلي كارل گ. يونگ.

[3] قوام الظل الجوانب المرفوضة في النفس، غير المعترَف بوجودها، التي تظهر في الأحلام على هيئة شخص أسود اللون؛ راجع بهذا الصدد: شارل بودوان، علم النفس المركب: تفسير أعمال يونغ، بترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق، 1992، ص 194-197.

[4] الأحرى بـ"تربية" تقطع الناس عن قابليتهم الإنسانية الفطرية لإيجاد الصلة والمعنى والقيمة أن تسمى "تغبية"!

[5] هذا الغباء ليس جديدًا على الإنسان، لكن المفارقة هذه المرة هي في أنه يتجاسر على تسمية نفسه "حضاريًّا"!

أسرار حرف النون – رونيه گينون

أسرار حرف النون*

guenon

رونيه گينون**

جاء في مستهل سورة القلم: "ن والقلم وما يسطرون"؛ وهو قَسَم بالعلم والتعليم والكتابة التي من شأنها الرفعة والخروج إلى النور (ولادة) بعد معاناة الظلمات والبطون فيها (موت). وبين المفسرين الأعلام اختلاف في تفسير ن: فسرها بعضهم بالدواة لملاءمة القلم المُقسَم به؛ وفسرها فريق آخر بالحوت؛ وفسرها آخرون تفسيرات شتى يجدر الرجوع إليها، ولهم في ذلك اجتهادات. وتفسيرها بالدواة يرجع إلى شكل الدواة التي على هيئة الكوب، والنقطة في وسطها رأس القلم المغموس في المداد الذي هو مادة العلم وهو أصل الحياة الروحية. وفي تفسير روح المعاني للعلامة الآلوسي أن الظاهر من كلام المفسرين أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة، بل هي دواة خُلقت يوم خلق ذلك القلم المقسَم به، وهو قلم اللوح المحفوظ. هذا وقد جاء في ختام السورة خطاب للرسول: "فاصبر لحكم ربِّك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربِّه لنُبذَ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربُّه فجعله من الصالحين" (الآيات 48-50). وقد وُصف النبي يونس – عليه السلام – هنا بأنه "صاحب الحوت"، وورد وصفه "ذا النون" في سورة الأنبياء (الآية 87).

ف.ص.

* * *

حرف النون هو الحرف الرابع عشر في كلتا الأبجديتين العربية والعبرية[1]، وقيمته العددية 50؛ لكنه في الأبجدية العربية يشغل، فضلاً عن ذلك، منزلة ملحوظة بصفة أخص لأنه يختتم النصف الأول من حروف هذه الأبجدية التي يبلغ مجموعها 28 حرفًا، على حين أن عدد حروف الأبجدية العبرية 22 حرفًا. أما بخصوص توافقاته الرمزية، فهو يُعَدُّ، في المنقول الإسلامي خاصة، تمثيلاً للحوت؛ إذ يتوافق عندئذ مع المعنى الأصلي لكلمة نون نفسها التي تدل على الحوت والتي تعني أيضًا "سمكة"؛ وبسبب هذه الدلالة بالذات دُعي سيدنا يونس (النبي يونان) ذا النون. وهذه التسمية ذات صلة طبيعية بالرمزية العامة للسمكة، ولاسيما بجوانب معينة منها نظرنا فيها هاهنا في الدراسة السابقة[2]، وبخاصة، كما سنرى فيما يلي، رمزية "السمكة المخلِّصة"، أكانت الـمتسيا أڤتارا Matsya-avatāra في المنقول الهندوسي[3] أو الـإخثيس Ichtus عند المسيحيين الأوائل[4]. فالحوت، بهذا الصدد، يؤدي أيضًا الدور نفسه الذي يؤديه الدلفين في غير مكان، وهو، مثله، يوافق في دائرة البروج برج الجدي، من حيث كونه بابًا انقلابيًّا يفضي إلى "طريق الطالع". وربما كان التشابه أقوى ما يكون مع الـمتسيا أڤتارا، كما تبيِّن ذلك الاعتبارات المأخوذة من شكل حرف النون، لاسيما عند مقارنتها بقصة النبي يونان التوراتية.

نصب جنائزي مسيحي (بداية القرن الثالث) نُقش عليه رمزا السمكة والمرساة وعبارة "سمكة الأحياء".

ولكي يُفهم المقصودُ حق فهمه، يلزمنا أولاً أن نتذكر أن ڤشنو Vishnu، حين تجلَّى على هيئة السمكة (متسيا Matsya)، أمر ستياڤرتا Satyavrata، الذي صار المَنو ڤيڤسوتا Manu Vaivaswata، ببناء الفُلْك التي حُبستْ فيها جراثيمُ حياة العالم الآتي، وأنه، على تلك الهيئة عينها، يقود الفُلْك فوق لجة المياه في أثناء النازلة الكبرى التي عينت الفاصل بين دهرين (منڤنترا manvantara) متواليين[5]. إن دور ستياڤرتا هذا يشبه دور سيدنا نوح؛ إذ إن فُلْكه تحوي، كفُلْك نوح على حدٍّ سواء، جميع العناصر التي ستفيد في إعادة بناء العالم بعد الطوفان. وليس مهمًّا إذ ذاك أن يختلف تطبيقه في الكتاب المقدس، من حيث إن الطوفان التوراتي، في دلالته الأكثر مباشرة، يبدو وكأنه يحدد بداية دور أصغر من أدوار الـمنڤنترا؛ فحتى لو لم يكن الحدث هو نفسه في كلتا الحالتين، فهما على كل حال حدثان متقايسان تمامًا، تهلك فيهما حال سابقة للعالم لتحل محلها حال جديدة[6]. فإذا قارنا الآن قصة يونس بما ذكَّرنا به لتوِّنا، لرأينا أن الحوت، بدل أن يؤدي دور السمكة التي تقود الفُلْك، يتماهى في الواقع مع الفُلْك نفسها: فبالفعل، بقي يونس محبوسًا في بطن الحوت، كما بقي ستياڤرتا ونوح كلاهما في الفُلْك طوال فترة هي أيضًا بالنسبة إليه، إنْ لم تكن كذلك بالنسبة إلى العالم الخارجي، فترة "إظلام" تُوافق الفاصل بين حالين أو كيفيتين كونيتين. وهنا أيضًا الفارق ثانوي وحسب، حيث إن الصور الرمزية، كما هو شأنها في واقع الأمر دومًا، قابلة لتطبيق مزدوج: تطبيق كوني أكبري وتطبيق كوني أصغري. ونحن نعلم، من ناحية أولى، أن خروج يونس من بطن الحوت اعتُبر دائمًا رمزًا للقيامة، أي للعبور إلى حال جديدة؛ وهذا يلزم تقريبُه، من ناحية ثانية، من معنى "الولادة" الذي يرتبط، في القبالة العبرانية بالأخص، بحرف النون، والذي ينبغي فهمه روحيًّا بوصفه "ولادة جديدة"، أي تجديدًا روحيًّا للموجود الفردي أو الكوني.

رسم هندي يمثل المتسيا أڤتارا، "تنزيل" الإله ڤشنو على هيئة السمكة.

هذا ما يدل عليه دلالة واضحة للغاية رسمُ حرف ن العربي: فهذا الحرف مكوَّن من النصف السفلي لدائرة، ومن نقطة هي مركز هذه الدائرة نفسها. وهكذا فإن نصف الدائرة السفلي هو أيضًا على هيئة الفُلْك الطافية على المياه، والنقطة في باطنه تمثِّل جرثومة الحياة المحتواة في الفُلْك أو المغلَّفة بها؛ وموقع هذه النقطة المركزي يبيِّن، إلى ذلك، أن المقصودة في الواقع هي "جرثومة الخلود" أو "النواة" التي لا تهلك، فتنجو من التحلُّلات الخارجية كافة. كما يمكن لنا أن نلحظ أن نصف الدائرة هذا، بتقعُّره نحو الأسفل، إنما هو أحد المكافئات المختصَرة للكوب؛ فله إذن، مثله، على نحو ما، معنى الرحم التي تنطوي على تلك الجرثومة التي لم تنمُ بعدُ والتي تتماهى، كما سنرى فيما يلي، مع النصف الأسفل أو "الأرضي" من "بيضة العالم"[7]. وتحت مظهر العنصر "المنفعل" passif هذا للصيرورة الروحية transmutation spirituelle، يمثِّل الحوت أيضًا، على نحو ما، لصورة كل فردية، من حيث إن هذه الفردية حاملة لـ"جرثومة الخلود" في مركزها الذي يتمثل رمزيًّا بالقلب. ونستطيع أن نذكِّر، بهذا الصدد، بالصلات الوثيقة، التي سبق لنا أن عرضنا لها في مناسبات أخرى، بين رمزية القلب وبين رمزية الكوب ورمزية "بيضة العالم"[8]. إن نمو هذه الجرثومة الروحية يتضمن أن الموجود يخرج من حاله الفردية ومن الوسط الكوني الذي هو المجال الخاص به، مثلما أن يونس، لدى خروجه من بطن الحوت، "يُبعث" نشأة جديدة. وإذا ما تذكَّرنا ما كتبنا أعلاه، لفهمنا من غير مشقة أن هذا الخروج هو نفسه الخروج من كهف المُسارَرة initiation الذي يمثَّل لتقعُّره نفسه بنصف الدائرة التي يُرسَم بها حرفُ النون. فـ"الولادة الجديدة" تقتضي بالضرورة موتًا عن الحال السابقة، سواء كان المقصود فردًا أو عالَمًا؛ إذ إن الموت والولادة (أو القيامة) هما وجهان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، لأنهما في الواقع ليسا سوى الوجهين المتقابلين للتغيُّر عينه في الحال.

رسم من مخطوط بيزنطي يمثل خروج النبي يونس من بطن الحوت، ويظهر في أعلاه المسيح القائم من بين الأموات. الإشارة إلى الكيمياء واضحة، حيث نجد عملية نفخ القدر الكيميائية بالكير تتم في جوف الحوت.

والنون في الأبجدية تلي مباشرة الميم التي من جملة معانيها الرئيسية معنى الموت[9]، والتي يمثل شكلُها م الكائنَ منطويًا تمامًا على نفسه، مختزَلاً، نوعًا ما، إلى كمون محض يوافقه شعائريًّا موقف السجود؛ ولكن هذا الكمون، الذي قد يبدو فناءً وقتيًّا، سرعان ما يصير، عبر تركيز جميع الممكنات الذاتية للموجود في نقطة فريدة لا يمسُّها الفناء، الجرثومة ذاتها التي تخرج منها تحقُّقاته كافة بأحوال الوجود العليا[10].

جدير بالقول إن رمزية الحوت ليس لها جانب "ميمون" فقط، بل لها أيضًا جانب "مشؤوم"، الأمر الذي، عدا الاعتبارات العامة لازدواجية معنى الرموز، يبرَّر بصفة أخص بارتباطه بصورتَي الموت والبعث اللذين يظهر عليهما كل تغيُّر في الحال، حسب النظر إليه من جانب أو آخر، أي بالنسبة إلى الحال السابقة أو الحال اللاحقة. ومنه، فإن الكهف هو، في الآن نفسه، مكان للدفن ومكان "ولادة جديدة"؛ وفي قصة يونس يؤدي الحوت هذا الدور المزدوج بعينه. كذلك، أليس بوسعنا القول إن الـمتسيا أڤتارا نفسه يتمثل أولاً في مظهر ضارٍّ[11] يُنذر بوقوع النازلة، قبل أن يصبح "المخلِّص" من هذه النازلة عينها؟ من ناحية أخرى، فإن المظهر "المشؤوم" للحوت ينتسب انتسابًا واضحًا إلى اللوياثان العبراني[12]؛ لكنه متمثِّل خاصةً، في المنقول العربي، بكوكبة بنات الحوت التي تكافئ، من وجهة النظر الفلكية، راهو Rāhu وكيتو Kētu في المنقول الهندوسي، ولاسيما فيما يتعلق بالكسوف[13]، ويقال إنهن سوف "يشربن البحر" في آخر أيام الدور، يوم "تشرق الكواكب من المغرب وتغرب من المشرق". ولا نستطيع أن نتوسع أكثر في هذه النقطة دون أن نخرج تمامًا من موضوعنا؛ لكننا يجب، على الأقل، أن نلفت الانتباه إلى أننا نقع هنا أيضًا على صلة مباشرة بنهاية الدور الكوني وتغيُّر الحال الذي يتبعه، لأن لذلك دلالة عظيمة تضيف توكيدًا جديدًا إلى الاعتبارات السابقة.

لنعد الآن إلى شكل الحرف نون الذي يجيز ملاحظة هامة من جهة العلاقات القائمة بين أبجديات مختلف الألسن النقلية: ففي "الأبجدية" السنسكريتية، يقابل النونَ حرفُ نا na الذي، إذا أرجعناه إلى عناصره الهندسية الأساسية، لوجدناه أيضًا يتألف من نصف دائرة ونقطة ؛ لكن التحدُّب هنا متَّجه إلى الأعلى، بما يجعل منه نصف الدائرة العلوي، وليس النصف السفلي، كما في النون العربية. فهو إذن الصورة نفسها، لكنْ موضوعة في شكلها المقلوب[14]؛ أو لنقل، بالأصح، إنهما صورتان متتامتان بكل دقة: بالفعل، إذا جمعنا بينهما، تندغم النقطتان المركزيتان اندغامًا طبيعيًّا، فنحصل على الدائرة تتوسطها نقطة المركز circle_with_dot، ممثِّلة للدور التام؛ وهي، في الوقت نفسه، رمز الشمس على الصعيد الفلكي ورمز الذهب على الصعيد الكيميائي[15]. وكما أن نصف الدائرة السفلي يرمز إلى الفُلْك، فإن النصف العلوي يرمز إلى قوس قزح الذي "يناظرها" بالمعنى الأدق للكلمة، أي بتطبيق "الاتجاه المعكوس"؛ وهما أيضًا نصفا "بيضة العالم": نصفها الأول "الأرضي" في "المياه الدنيا"، والآخر "السماوي" في "المياه العليا". والشكل الدائري، الذي كان تامًّا في بدء الدور، قبل انفصال هذين النصفين، لا بدَّ أن يعود ويتركَّب ثانية في نهاية الدور نفسه[16]. يجوز لنا القول، إذن، إن اجتماع الصورتين اللتين نحن بصددهما يمثل اكتمال الدور، وذلك بالوَصْل بين بدايته ومنتهاه، ولاسيما أننا، إذا ما حملناهما بخاصة على محمل الرمزية "الشمسية"، فإن صورة النا السنسكريتية توافق الشمس الشارقة وصورة النون العربية تقابل الشمس الغاربة. من ناحية أخرى، فإن صورة الدائرة التامة هي عادة رمز العدد 10 أيضًا، حيث المركز هو 1 والمحيط 9، لكنها هنا، بوصفها حاصل جمع نونين اثنتين[17]، تساوي 2 × 50 = 100 = 10 × 10، مما يدل على أن الوَصْل يجب أن يتم في "العالم الأوسط"؛ إذ إن الوَصْل محال في العالم السفلي الذي هو مجال الانقسام و"الفَرْق"، بينما هو، بالمقابل، موجود دائمًا في العالم العلوي، حيث يتحقق من حيث المبدأ، بكيفية سرمدية دائمة، في "الآن الدائم"[18].

فسيفساء جدارية من أحد أديرة قبرص تمثل فلك نوح بعد الطوفان "يناظرها" قوس قزح.

لن نضيف إلى هذه الملاحظات، التي طالت أصلاً، إلا كلمة واحدة نثبت بها الصلة بمسألة أشرنا إليها مؤخرًا[19]: إن ما قلناه لتوِّنا يجيز استشفاف أن تمام الدور، كما نظرنا فيه، لا مناص من أن يكون على ارتباط، على صعيد التاريخ، بالتقاء شكلين نقليَين يوافقان مبدأه ومنتهاه، لساناهما الشريفان، على التوالي، هما اللسان السنسكريتي واللسان العربي: المنقول الهندوسي، بصفته يمثِّل الميراث الأقرب مباشرة إلى المنقول القديم Tradition primordiale، والمنقول الإسلامي بصفته "خاتَم النبوة"، وبالتالي، الشكل الأخير للأرثوذكسية النقلية للدور الحالي.

المترجمة عن الفرنسية: فاطمة عصام صبري

مدقِّق الترجمة: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, août-septembre 1938 ; repris dans René Guénon, Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 154-158.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المنقولات الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] وفقًا لترتيب "أبجد هوز". (المحرِّر)

[2] Cf. René Guénon, « Quelques aspects du symbolysme du poisson », dans Symboles de la Science sacrée, pp. 149-153.

[3] اسم مَتْسِيا يعني بالسنسكريتية "سمكة"؛ وهو أول "التنزيلات" avatāra العشرة للإله ڤشنو Vishnu. وفي "تنزيل" أو تجلِّي السمكة هذا، يخلِّص ڤشنو العالمَ من الطوفان الكبير. (ف ص)

[4] معنى كلمة إخثيس باليونانية "سمكة"؛ وحروفها ΙΧΘΥΣ أوائل ألفاظ تتألف منها عبارة يونانية تفيد: "يسوع المسيح ابن الله مخلِّص". ومنه، غدت السمكة رمزًا إلى المسيح عند المسيحيين الأوائل. (المحرِّر)

[5] منڤنترا manvantara كلمة سنسكريتية تُطلق، في علم الكونيات الهندوسي، على كلٍّ من العصور الأربعة عشر التي تشكل الدور الكوني kalpa؛ وكلُّ واحد من هذه العصور يحكمه Manu، أي ذرية إنسانية. (المحرِّر)

[6] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, ch. 11.

[7] عبر تقريب عجيب، نلحظ أن معنى الرحم (الـيوني yoni بالسنسكريتية) موجود ضمنًا في كلمة ذلفِس delphus اليونانية، التي هي بنفس الوقت اسم الدلفين.

[8] Cf. René Guénon, « Le Cœur et l’Œuf du Monde », dans Symboles de la Science sacrée, pp. 209-212.

[9] يقال ميمَ الرجل، على البناء للمجهول، مَوْمًا: أصابه الموم أي البرسام، وهو التهاب الصدر؛ والموم أيضًا: أشد الجدري؛ والمومياء: الجثمان المحنط؛ والموماة: الفلاة التي لا ماء فيها ولا أنيس. (ف ص)

[10] من الطريف أن نلفت النظر هنا إلى أن الكاف واللام والميم والنون متلاحقة ومتلازمة في أكثر أبجديات العالم K-L-M-N. وعندنا أن "كلمن"، أي الكلام واللغة، مطية الفكر ورسول المعرفة. (ف ص)

[11] نذكِّر هنا بأن الضار من الأسماء الحسنى في الإسلام. (المحرِّر)

[12] على الرغم من أن للمكارا Makara الهندوسي، وهو أيضًا مسخ بحري، قبل كل شيء، معنى ميمونًا يتعلق ببرج الجدي الذي يشغله من فلك البروج، فإن له، في كثير من التصاوير، بعض السمات التي تذكِّر بالرمزية "الإعصارية" للتمساح.

[13] يفسَّر كسوف الشمس، في المعتقد الشعبي الشائع، بابتلاع الحوت إياها ونهاية الكسوف بلفظه لها. (المحرِّر)

[14] من الملاحظ أن الرياضيين يكتبون بالعربية حرف النون بالمقلوب. (المحرِّر)

[15] يمكن لنا أن نتذكر هنا رمزية "الشمس الروحية" و"المضغة الذهبية" (هرنياگربها Hiranyagarbha) في المنقول الهندوسي؛ فضلاً عن ذلك، فإن النون، بمقتضى توافقات أخرى، هي حرف فلك الشمس.

[16] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, ch. 11.

[17] جاء في بداية المقال أن النون في حساب الجمَّل تساوي 50؛ ونلاحظ أن رسم هذا العدد بالرقم الهندي يشتمل على النقطة والدائرة التامة اللتين أشار إليهما گينون كرمز إلى الدور الكوني التام. (المحرِّر)

[18] "هو امتداد الحضرة الإلهية الذي يندرج به الأزل في الأبد، وكلاهما في الوقت الحاضر، لظهور ما في الأزل على أحايين الأبد، وكون كلٍّ منها مجمع الأزل والأبد، فيتحد به الأزل والأبد والوقت الحاضر. فلذلك يقال له باطن الزمان وأصل الزمان، لأن الآنات الزمنية نقوش عليه وتغيرات تظهر بها أحكامُه وصورُه، وهو ثابت على حاله دائمًا سرمدًا […]" (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية). (المحرِّر)

[19] راجع: F. Schuon, « Le Sacrifice », dans Études traditionnelles, avril 1938, p. 137, note 2 [ف. شووُن، "القربان". المقطع المقصود بهذه الإشارة هو: "… بالعودة إلى الهند، يجوز لنا القول بأنه يبدو أن انتشار منقول أرثوذكسي غريب فيها، هو الإسلام، يشير إلى أن الهندوسية نفسها لم تعد تتصف بملء حيوية أو فاعلية منقول يتوافق توافقًا كاملاً مع شروط عصر دوري بعينه. فهذا التلاقي بين الإسلام، بما هو الإمكانية الأخيرة المتفرعة عن المنقول القديم، وبين الهندوسية، بما هي في الغالب فرعه الأكثر مباشرة، ذو دلالة قوية ويستدعي اعتبارات شديدة التعقيد." (المحرِّر)].