المرأة – ديمتري أڤييرينوس

المـرأة
رسالة مفتوحة إلى رجال هذا الزمان

 

ديمتري أڤييرينوس

 

الرجل يفقد الرجولة / المرأة لم تصبح امرأة
المرأة سلالةٌ مضت / الرجل نَسْلٌ يأتي
أدونيس، مفرد بصيغة الجمع

 

أيها السادة،

أستميحكم عذرًا إنْ طلبتُ منكم الخروج هنيهاتٍ من سباتكم في هذا الزمان الفريد الذي لا يشهد له التاريخ نظيرًا إلا كل أربعة وستين ألفًا وثمانمئة سنة – هذا الزمان الذي سيبقى ماثلاً في أعماق الذاكرة، لا يبرحها أبدًا. ولعلَّ كلامي النابع من معرفة تقصِّر عن “علمكم” موضوعيةً قد يبدو غريبًا على أذواقكم، لذا سأختصر فيه ما أمكن.

أجل، أيها السادة، بين عشقٍ لم يعد موجودًا وهيامٍ يكاد أن ينقرض أتساءل أيَّ لعبة تعسة يلعب الرجل مع المرأة، وأيَّ لهو منفيين يلهو في صحبتها؟!

لن أكلِّمكم على العشق – فهذا أمسى رابع المستحيلات! – بل حسبي أن أحدِّثكم عن الهيام، أو بالحري عن شرطه الأوحد المتاح، على ما يبدو. إنما عليَّ قبلئذٍ أن أنبِّهكم إلى أمر هام.

كان العشق والهيام فيما مضى بابين لا يحلم بفتحهما إلا التوَّاقون إلى الإفلات من أمراس هذا الكوكب وسلاسله. أنتم تعرفون ذلك خيرًا مني: السفر إلى النجوم، الاتصال بعقول أرفع… من كلِّ صوب، أيها السادة، ينشرخ الجدار الذي يفصلنا عن الخارق للعادة والمألوف. وإنكم لَتقومون بدوركم في هذا الاتجاه (ولعل هذا سبب احتجاب الأخويات والطُّرُق الصوفية القديمة).

ألا كم سيبدو تافهًا، بعد بضع سنين، الهمُّ الذي أهجس به اليوم، حين نفكر، نحسُّ، ونعيش آنذاك على نحوٍ مختلف. لا بدَّ أن انقلابات هائلة سوف تحدث، في رؤوسنا وفي قلوبنا. وعند ذاك، أي هراء سوف يكون الكلام على الأنثى الأزلية! أي ترَّهات سوف تكون غزلياتنا – نحن المائتين المساكين – يوم يستولي الروح على كياننا ويُلهِبُه حتى الترمُّد! بانتظار ذلك اليوم، لا مناص لنا من أن نستيقظ… أجل، أن نستيقظ ونسهر… وإنِّي لأأتَمِنُكُم على سرٍّ إذ أقول إن الرجل، يستحثُّه هذا الرجاء العظيم، يكابد منه الأمَرَّين!

ما بالي، أيها السادة، أستشعر قدوم السادة الحكماء وانبثاق حالة وعي جديدة، لا هي بالموت، ولا بالنوم، ولا باليقظة… ما بالي أحلم بزوَّار من الفضاء الخارجي، ذوي عيون ذهبية، قادمين على متون مركبات فضية صامتة… ما بالي أروِّض نفسي على الهويِّ في دوَّامة الزمن، وأحلم بمدينة فاضلة حقيقةً آتيةً لا ريب فيها… ما بالي أراني قد انفتحتْ فيَّ عينٌ ثالثةٌ على علوم الغد ومعارفه المتقدِّمة… ما بالي ألتمسُ مجيء الروح الكوني – الروح ذي السكينة الهائلة المرعبة! – الذي بلغ اليوم من الدنوِّ حدًّا يجعلني أحدِّق عبر نافذتي إلى عتمة الليل، وأنا مُكَهْرَبُ الرأس، مُخْتَزَلُ الجسم إلى رعشة، وأصغي، راغبًا، إلى موسيقى الفضاء اللانهائي… ما بالي، أيها السادة، أفعل ذلك كلَّه، ولا أشعر بأني مُعاصِرٌ للمستقبل كلَّ المُعاصَرة، فأحس بالسأم، وأدرك بأني لا أزال مشدودًا إلى فراش من الزمان القديم؟!

إنما الرجل، أيها السادة، شجرة مقلوبة رأسها على عقبها: جذورها في السماء، وأغصانها ضاربة في الأرض. لذا، ففي كلِّ رجل يتبذَّل في الكلام على النساء ويسيء (غالبًا) معاملة امرأته، متكالبًا على الأخريات، وفيه منزعٌ خفيٌّ مسعورٌ إلى إخضاعهنَّ وإذلالهنَّ – في كلِّ رجل من هذا الصنف أستشفُّ جرحًا وجوديًّا مفتوحًا.

وإني لَراسمٌ لكم صورتي، أيها السادة، وما أظنُّها بمفاجِئتكم. فأنا منكم: مثلكم ولدتُ وبي شوقٌ لافحٌ إلى الانعتاق من محدوديَّتي يومًا و”النهل من كأس الماء الحيِّ ولبس عباءة النور”، على حدِّ قول أحد العارفين؛ وإني – يشهد الإله – ما توقفتُ يومًا عن التفتيش بكلِّ السبل عن هذه الكأس وتينك العباءة. وإني لَمُواجِهٌ مخاطر الحياة كلَّ يوم وكلَّ ساعة… لكن متاهة حياتي تبدو، للناظر إليها من عَلٍ، وكأنها خطٌّ مستقيم، وكأن كلَّ شيء يطرأ عليَّ كي أتمِّم أمرًا ما. تعلَّقتُ منذ نعومة أظفاري بالذين في أيديهم مقاليد حياتي ويدفعون بي إلى الأمام، بترغيبي في الحلوى تارةً، وبترهيبي من السوط طورًا. وإني لَماضٍ قُدُمًا لا ألوي على شيء؛ والخيرات التي أجنيها، مثلها كمثل الأوجاع التي أُبتَلى بها، تدلُّني على النواميس التي تنتظم حياتي وحياة كلِّ موجود في هذا العالم.

لا، أيها السادة! ليس القدر بأعمى، بل نحن العميان!

هل مقيَّضٌ لي أن أشرب من كأس الماء الحي؟ هل سيكون لي أن ألبس عباءة النور؟ الله أعلم!

لا تبتسموا، أيها السادة! فرجائي أن يكون لي هذا الشرف، ولسوف يكون لي… أؤمن أنه سيكون لي… وإني لَعاهِدٌ إليكم بسرٍّ آخر انكشف لبصيرتي: ليس المهمُّ ما نترقَّب، بل الموقع الذي نتَّخذه في أنفسنا للمراقبة.

تسألونني عن هذا “الموقع”؟ تشير الدلائل كلُّها إلى أن فينا، في أعماقنا، غورًا سحيقًا نكفُّ فيه عن النظر إلى الحياة والموت، إلى الماضي والآتي، إلى الجسد والروح، بوصفها متناقضات. قال ذلك شاعر كان صديقي، ربما لم يكتب في حياته بيت شعر واحدًا، لكن حياته كلَّها كانت قصيدة؛ وقاله كثيرون غيره – قاله البشر منذ آلاف السنين ألف ألف مرة، ونَسَوْهُ ألف ألف مرة. إن مثل أنْفَس المعارف التي تنكشف لنا كمثل النجوم: تولد، فتتألَّق، ثم يخبو نورُها، حتى تولد من جديد.

كلُّ شيء يحمل على الظن أن من المتعذر على الرجل أن يبلغ هذا الموقع في نفسه بسبب النساء. لذا يجب حرق النساء، أيها السادة… أجل، يجب حرقهن! ذلكم واجب كلِّ مَن يرنو إلى الكمال. لن يجديه ذلك نفعًا في الغد لأن العالم سوف يكون تغيَّر، والنفس البشرية انتقلتْ من حالٍ إلى حال. إنما اليوم، في هذا العالم الذي لا يزال غنيًّا بالموروثات القديمة، يجب أن يكون شأننا مع النساء شأن الكيمياوي مع المادة: النار، ثم النار، ثم النار! هذه النار نار العشق أو الهيام. من دونها لا حظَّ لنا في بلوغ الغور السحيق فينا. أما وأن زمان العشق ولَّى، لم يبقَ إلا الهيام.

لكنْ… ليس كلُّ النساء يحترقن – وتلكم هي المشكلة! الكيمياوي بات مفتقرًا إلى المادة الأولية التي يشتغل عليها. لا أكتمكم أن العالم اليوم يكاد أن يعدم النساء، ولا أظنني مغاليًا في قولي إن جنس النساء قد تشتَّت تحت أنظارنا الحسيرة واندثر.

المرأة، أيها السادة، سليلة العصر الحجري، – أمُّنا، أنثانا، إلهتنا، الكائن الذي سأسمِّيه “امرأة الرجل” والذي لم تعد لدينا أدنى فكرة عنه، – طاردَها الرجل حتى أصابها بسهامه المسمومة في ظهرها، ونحرها، وبطنها؛ أرداها قتيلة ورمى بجثَّتها في غياهب العدم.

أحشاءُ الأرض متخَمةٌ بالغابات المبتلَعة، تغصُّ ببقايا الأنواع الحيوانية المندثرة، برماد السلالات البشرية وما فوق البشرية التي تتحدى قصَّتُها أبعد شطحات مخيِّلتنا… وأنثانا الحق، هي الأخرى، ممتزجة بتربة أغوار الأرض السحيقة. لماذا؟! هيه… فكِّروا، أيها السادة، فكِّروا!

إن المرأة هي التي دفعت، من نفسها ومن دمها، ثمن الحملة على العبادات القديمة – تلك الحملة التي هي عماد العالم المتمدِّن. أنا على يقين، أيها السادة، أن العالم القديم عرف، طوال آلاف السنين، خبرةً روحيةً رفيعةً تحدَّرتْ إليه من ليل الدهور، خبرةً مكرسةً لإله الطبيعة الأقْرن بواسطة المبدأ المؤنث. وإني لأكاد أجزم أن هذه الروحانية الأصيلة قد اكتسحها، بالنار والحديد والدم، ربٌّ غاضبٌ، منتقمٌ جبارٌ، ينتصر لأمَّة على أمَّة، ويعادي كلَّ مَن لا يؤمن به! أما الإله الأقْرن، إله الخصوبة والتجدد، فقد أمسى في نظر الناس شيطانًا رجيمًا، لا مناص من محاربة أوثانه، ومعها مَن تمثِّل له هذه الأوثان: المرأة الأم، المرأة الإلهة، المرأة الأنثى، المرأة الحق… ويحدِّثوننا اليوم عن شرور الاستعمار الحديث، عن إبادة الهنود الحمر، عن محو الثقافات الأفريقية؛ يحدِّثوننا عن أصنامنا القديمة المحطَّمة، عن إلهنا الذي امتُهِنَ وأُذِلَّ، عن كاهناتنا اللائي قَضَيْنَ مدافعاتٍ عن حياتهنَّ، عن أنثانا التي نُفِيَتْ… آه، أيها السادة، ماذا يسعني أن أقول؟! لقد استبيحت نفوسُنا، واغتُصِبَتِ الأنثى الساكنة فيها، ونحن واقفون مكتوفي الأيدي لا نحرِّك ساكنًا.

پان، إله الطبيعة عند الإغريق، يعزف على نايه السحري

ما تاريخ الرب الذي نتعبَّد له اليوم إلا تاريخ حرب شنَّها أتباعُه الصناديد على العبادات القديمة قِدَمَ الإنسان نفسه، المتجذِّرة في أعماقنا، تاريخ جريمة اقتُرِفَتْ في حقِّ الجنس المؤنث بأسره. لقد سلَّمنا نصفنا خانعين، أيها السادة، حتى سيق إلى الذبح.

لست أتَّهم أحدًا. فلعل تلك المذبحة الأسطورية كانت محتَّمة، وربما ضرورية من بعض الوجوه: فما كان للمدنية أن تصير إلى ما آلت إليه لو كانت المرأة الحق لا تزال موجودة، ولكُنَّا لا نزال نؤمن بالفردوس على الأرض… لو كانت المرأة الحق لا تزال حية في قلوبنا لما كنَّا شققنا دروبًا جديدة، ولما كنَّا اليوم على وشك ارتياد المجرَّات القصية، ولما كنَّا استطعنا فتح كوى صغيرة في الكون، يتسرَّب منها اليوم نداءُ الإله الأخير الذي سوف تنصهر في بوتقته آلهتُنا كلُّها، فيغور في هذه الصَّهارة يومًا روحُ الكوكب نفسه وقد أدَّى رسالته الكونية.

ولكن فلنقفْ عند المذبحة التي حصلت، وما انفكت تحصل: إبادة بدنية على المحرقة! الآلاف من النساء الحقيقيات اللائي رُمينَ بالسحر وقَضَيْنَ بهذه الصفة؛ والآلاف المؤلَّفة من النساء الأخريات ممَّن أُركِعْنَ واختزلهنَّ الرعبُ إلى إماء… وإبادة بالدعاية! وهذه، كما بتنا نعلم اليوم، سلاح أمضى من التعذيب والقتل بالرمي من شاهق أو السحق أو القميص المُكَبْرَت… حرب شعواء شنَّها فرسانُ الرب الأشاوسُ على المرأة الحق، لصالح معبودة جديدة، خصالُها دَعَة عمياء، وفضيلة كاذبة، وجمال محنَّط، لكنها خلوٌ من الحياة! أضف إلى ذلك كلِّه – على صعيد أوسع، وأكثر إبهامًا، لكنه ملازم للأصعدة الأخرى، وهو علَّتها في الوقت نفسه – الانحطاط المتدرِّج للنوع، بحيث حلَّ شيئًا فشيئًا كائنٌ غريبٌ هجينٌ محلَّ الأنثى الحقيقية الأصيلة.

الكائن الذي ندعوه اليوم “امرأة”، أيها السادة، ليس المرأة. إنه مجرد نسخة عنها، فارقَها الجوهر، وغاب عنها المبدأ، وكذلك فرحُنا، ورجاؤنا، وخلاصنا… إننا ندعو “نساء” مخلوقاتٍ لم يبقَ فيهنَّ من المرأة إلا المظهر وحسب، ونضمُّ بين أذرعنا محاكاةً بائسةً لجنس منقرض كلِّيًّا، أو يكاد أن ينقرض.

كلِّيًّا، أو يكاد؟!

أقول “يكاد”، إذ لا يزال ثمة عددٌ من النساء الحقيقيات. لكنهنَّ حييَّات كالكواعب العذارى، جفولات كالوعول البرية، يعشن مختبئاتٍ وراء نقاب من السرِّ، فلا يُسفِرْن عن وجوههنَّ إلا لِمَن هو حقيق بأن يحدِّق إليهنَّ بلا وَجَل. ففي الغور السحيق مكمن التنين المقدس!

السير توماس بروك، "حواء"، 1900

أجل، لا يزال ثمة عددٌ من النساء الحقيقيات، نَجَوْنَ بقدرة قادر من الإبادة البدنية والنفسية. وبالمثل، لا يزال ثمة عددٌ من الكيمياويين الحقيقيين، ورثة الحكماء الأقدمين من مدبِّري الإكسير الأعظم. لا يزال يحيا بين ظهرانينا عددٌ من المؤتَمنين على العلم القديم الذي تلتقي فيه النهاية بالبداية. أجل، إن روعة كوكبنا ليست في التغيُّر، إنما في الحضور الآني للأصول والغايات واشتباكها جميعًا في كلٍّ واحد.

زماننا، أيها السادة، آنةٌ يتلقَّى فيها البشرُ رموزَ الماضي كلَّها وإشاراتِ المستقبل كلَّها؛ آنةٌ يقفون فيها على مفترق طريق مصيرهم، وقد حَبَتْهُم الأيام والليالي حساسيةً داخليةً ما كانوا ليحلموا بها طوال تاريخهم المعروف. لذا لست وحدي محدِّثكم عن المرأة الحق: سبقني إلى الحديث عنها كثيرون؛ وهناك أصوات عديدة ترتفع في أماكن أخرى من العالم تطالب بالبحث عمَّن تبقى من هذا الجنس الكريم العزيز من الكائنات وبإعادة الاعتبار إليه.

قلت إننا لكي نبلغ فينا ذلك الغور السحيق لا بدَّ لنا من حرق النساء – بالعشق أو بالهيام… قلت إن العشق انتهى، وإن امرأة الهيام عزَّ وجودُها، وإن المرأة الحق متحجِّبة اليوم بسبعة حُجُب من نار… لقد استبدلنا، نحن معشر الرجال، بالمرأة-القربان المرأةَ-الطريدة، وبتنا، معشر الرجال، ننكح نسخًا مزيَّفة رخيصة عنا، أمْيَس منَّا قدًّا وأكثر لدانة – ليس إلا! بتنا نرى أنفسنا نمشي في الطرقات، ونطارد أنفسنا، ونعانق أنفسنا، وننكح أنفسنا… فهذا، على كلِّ حال، خير من نكاح مرآة، وأقل برودة، لكنه لا يُغْني عن المرأة الحق – لا يُغْني، ولا بأيِّ حال من الأحوال!

أين هي المرأة الحق، الكاهنة، معلِّمة أسرار الخصب والحياة، داكِكَة العروش، مروِّضة أعتى الرجال، الممسكة بأعنَّة الأيام والليالي… أين هي؟! هذه المرأة، حيثما وُجِدتْ، آخَتْ بين الحياة والموت، بين الجسد والروح، بين الظلمة والنور… لكن، أين هي؟!

إلى أين تمضي الأنهار، والسحب، والطيور المتوحِّدة؟ إنها ترتمي في أحضان المرأة.

المرأة الحق، أيها السادة، حَرَمٌ، وملاذٌ، ورَحِم…

لكنْ، إذا اتفق لكم أن تواجهوا هذه المرأة يومًا لن أنحو عليكم باللائمة إذا لذتم أمامها بالفرار، لأنها مهيبة في جمالها إذا أحبَّتْ، رهيبة في جلالها إذا غضبت… أما حُرمتُها فويل لِمَن ينتهكها، وأما رحمتها فلا حدَّ لها… لكن، أين هي؟ أين؟!

يحدوني يقينٌ إلى القول بأن بعض النساء – الحقيقيات منهنَّ – متحدِّرات من صُلْب الإله، بينما كلُّ مَن تبقَّى منهنَّ متحدِّرات من أصلاب الرجال! أجل، حُقَّ لنا، أيها السادة، أن نُعجَب بأنفسنا: لقد أبدعنا سلالة بديلة، ليست من المرأة في شيء، بل هي صورتنا نحن، لكنْ بفم مكتنز، وصدر ناهد، وخصر ضامر، وفخذين لفاوين! وإلا فممَّ شعورنا في الحب بأننا لا نكابد إلا محدوديَّتنا، وبأن حسَّنا المرهف لا يتكشَّف في الحاصل إلا عن مرارة النفي؟ لا نزال أطفالاً يتعلَّمون السباحة مستعينين بدولاب هوائي، ويجدون في ذلك لذة ما بعدها لذة! أما إذا شئنا أن نشرع في الغوص في غورنا السحيق فلا بدَّ لنا من الاستغناء عن الدولاب. وحدها المرأة الحق تستطيع مرافقتنا في رحلتنا تلك، فتعطينا من وزنها ما يهوِّن علينا ذلك الغوص. أما مَن تواضَعْنا على تسميتها “امرأة” فلا تُحْسِنُ سوى النفخ في دواليب الهواء!

لا، أيها السادة، ما من حبٍّ مع نسخة المرأة هذه – من قبيل اللهو كان أم مخلصًا – بوسعه أن يكون لنا دافعًا إلى الكمال؛ ليس بوسع مثل هذا الحب أن يثمر غير العطالة والبلادة والسأم، فيحُول دون زهرة النفس – التي هي جوهرتها الإلهية – والتفتحَ على رحابة الوجود وأمدائه اللانهائية.

المرأة الحق – تلك التي تَقْدِمُ علينا من أعماق الدهور – تنتمي بكلِّيتها إلى عالم غريب عن عالم الرجل: إنها المشعَّة في الطرف الآخر من الخليقة؛ إنها “الآخر” بامتياز؛ إنها الواقفة على أسرار الماء، والحجر، والنبات، والحيوان؛ إنها المحدِّقة إلى الشمس في رابعة النهار، والرائية بجلاء في ديجور الليل؛ إنها المؤتَمنة على مفاتيح الصحة والراحة، والمُسارَرة بألحان المادة؛ إنها الضالعة بالسحر الحلال – الجنِّية ذات الكشحين الرطبين والعينين الشفافتين التي تنتظر الرجل لتعود به إلى الفردوس الأرضي… إذا بذلتْ نفسَها له، ففي رعشة من الذعر المقدس، فاتحةً له، في ظلمة بطنها الدافئ، باب عالم آخر. إنها نبع الفضيلة، لأن الشوق الذي تُلهِمُه يستهلك الشهوة إليها. عناقها طهارة، والغوص فيها عفَّة، والانطلاق في رحابها انعتاق… إنها العاقر… لأنها توقف دورة الزمن، أو لأنها بالحري هي التي تُخصِبُ الرجل، تلده من جديد، وتغرس فيه طفولة العالم… إنها تكرِّس فيه عمل الرجال، ألا وهو الاستغراق أعمق فأعمق في غياهب كيانه الداخلي، فتجعل منه أكثر من رجل، لا بل أكثر من بشريٍّ! أما هي فحسبها أن تحيا كي تمتلئ بغبطة الوجود. ولا مفرَّ للرجل من اجتياز امتحانها كي يكون حقيقًا برجولته، لا بل بإنسانيته – اللهم إلا أن يختار طريقًا أخرى، لا مناص له فيها من أن يلتقي المرأة في صور رمزية.

كلا، ليس للرجل من المرأة مهرب! كان العارفون يدعونها “امرأة الرجل الحق” و”أخت الرجال”، ويسمُّون ماءها “ندى النور”! أما المرأة الأخرى، الموفورة العدد، فيسمُّونها “امرأة المرأة”، أي المرأة المتحدِّرة من المرأة، وينعتونها باليبوسة وبالخلوِّ من الروح – كما هي حقًّا.

إن اكتشاف المرأة الحق، أيها السادة، عطيَّة، وتمالُك النفس أمامها نعمة؛ أما الاتحاد بها فيحتاج إلى مَدَد من الإله: “كلما رأيتُ على الأرض – يقول على لسان روح عليا أمْلَتْ بدورها على أحدهم ما أمْلَتْ – حبًّا ينمو فوق الأخيلة ظلَّلتُه بيديَّ هاتين كأغصان حامية، لأني أنا الشجرة الباسقة الخضراء أبدًا.”

أي لقاء خارق هو اللقاء بالمرأة الحق! إنها تظهر، على حين غرة، وسط قطيع أشباه النساء؛ والرجل المصطفى الذي يبصرها يأخذ في الارتعاش شوقًا ورهبة. كفاه لهوًا مع نفسه… آنَ له أن يثوب إلى رشده ويبلغ أشُدَّه.

يلوح لي أنه يصعب على غير الشاعر الحق – الشاعر لا بما يكتب، بل بما يحيا – أن يواجه إحدى الناجيات من جنس النساء الحق. وتتعيَّن هاهنا معرفةُ أي نور، أي عطر، أي موج، يعبق به شعر الحياة، وكيف يفتش هذا النور، هذا العطر، هذا الموج، عن المرأة الحق – ذلك التنين المفترس! – ويقود خطاها إلى خيمة الشاعر حتى يتمِّم معها، وبها، سرَّ الحياة.

أما نساؤنا، أيها السادة، – أما نساؤنا، فهنَّ لا يحترقن! لا العشق العظيم ينبجس منهنَّ ولا الهيام. هنَّ لَسْنَ إلا الصورة الفاتنة لما نحن عليه في المناطق الدنيا والفاترة من أنفسنا. إنهنَّ طبيعتنا وقد تبرجتْ كي تصير مرغوبة! أقول “طبيعتنا” فحسب: فما يجب أن نبلغه اليوم، أيها السادة، أكثر من أيِّ يوم مضى، هو طبيعتنا الفائقة! ثمة دروب عدة لبلوغها، أحدها درب الحب غير المحدود؛ وهذا الدرب، لا بدَّ للرجل الذي لم يمتْ عن نفسه أن يطأه يومًا إذا ما اصطفاه الحق. فإذا كنَّا، أيها السادة، نريد أن نسلك نحو كمالنا من دون أن نزهد في الجسد، لا مندوحة لنا من لقاء التنين. وعلينا بالحري أن نعلم تمام العلم أن لا شيء ثمة ننتظره من النساء الأخريات: فأجملهنَّ، وأعذبهنَّ، وأشدَّهنَّ إخلاصًا واتِّقادًا، لا تستطيع أن تعطي إلا مما عندها – وليس عندها إلا طبيعتنا العادية!

وحدها المرأة الحق تُلهِمُ حبًّا يكاد أن يكون مفترسًا، فيصيب بالذعر، لأن الرجل الذي يلتقيها يجد نفسه، فجأةً، في غمرة لُجَّة لم يَخُضْ فيها من قبل. يلوح له أن الأرض بأسرها تتحول إلى مهرجان من السحر، ويستشعر أنه مُقْبِلٌ على تحوُّل جذري، وأنه موعود بالخلود… ما يحياه ينغرس في آنةٍ يلتقي فيها الأزل بالأبد… وإذ يتغمَّده عَبَقُ الغابات الندية، ويغوص في رَحِم تلك المرأة كما في ليل أعماق البحر، تتراءى له آلاف الإشارات التي غفل عنها حتى ذاك… ثملاً وبصيرًا يغدو، مخطوفًا من ذاته، وشاعرًا، في الوقت نفسه، أنه وجد أخيرًا مَن يفهم أعماقه ويقبله كما هو؛ ملتهبًا بشوق لا اسم له، ومنتعشًا مع ذلك، متخفِّفًا من أوزار حياته، ومتطهِّرًا من أوضارها – تلكم، أيها السادة، حال المسافر الأرضي الذي يتوقف التنين ويزور خيمته ذات مساء، قبل أن يرحل إلى غير ما رجعة.

في عينيها الثاقبتين، الساذجتين، يفتش الرجل عن صورته الإلهية – هو الذي لم يكن يقع في نظرة النساء الأخريات إلا على انعكاس وجهه هو. وماذا يحدث عندئذٍ، أيها السادة؟ يحدث أن المرأة الحق، فيما إذا دَنَتْ، فيما إذا بَذَلَتْ، تَستهلِك أو تُستهلَك! لقد وصلتنا حكاياتٌ عن شعراء قتلوا محبوباتهنَّ لأنه ما كان ثمة خيار آخر: فمادامت النار اتَّقدت لا بدَّ لها أن تحرق! والمرأة، في أغلب الأحيان، هي التي تصعد على المحرقة، كونها سليلة الساحرات اللائي قَضَيْنَ وسط ألسنة اللهب. إنها تمضي كي تلتحق بأخواتها من العصور القديمة، فما تكاد ترفع طرف حجابها حتى تعود إلى العدم. الهيام، مثله كمثل العشق العظيم، مِقتال! كذا ينبغي للمرأة أن تكون هي القربان الحي؛ إذ لا يمكن التحصُّل على الذهب في البوتقة من دون تعريض المادة للَّهب – حتى المحق.

ويستيقظ المسافر تحت خيمته ذات صباح، ليجد نفسه بمفرده في عالم بارد، لا رحمة فيه ولا غفران. لقد تمَّ كلُّ شيء، أيها السادة… آنَ للشاعر أن يكتشف، للمرة الأولى، مرارة الوحدة المطلقة… هو ذا الآن مستعدٌّ للسير على الدرب الأوحد المفتوح أمامه، الدرب الذي يخترق فلواتٍ شاسعاتٍ، قبل أن يبلغ به سفح طوده الجَوَّاني.

نيكولاي ريرخ، "أم العالم"، 1930

ألا ما أشد الرجال الذين التقوا المرأة الحق، ثم رأوها تختفي من أمام أنظارهم كأنها لم تكن، فدخلوا عندئذٍ في يأس الغربة العظمى، ووجدوا أنفسهم عراة، بل أشد عريًا منهم ساعة ولدوا، ولا خيار لهم سوى الموت أو النمو، أو بالحري، لا خيار سوى الموت والنمو – واختاروا!

غاية أعمالنا ومساعينا، أيها السادة، إنما هي أن نستقطر من الوجود حقيقتَه، وذلك برياضة الإنسان على إيقاظ ملكات غافية في أعماقه؛ ملكات تفتح له باب ولوج حالات من الوعي رفيعة؛ حالات تكلَّم عليها الحكماء الأقدمون بوصفها ذكرى وموعدًا. وهذه المساعي تتطلب ذائقة باطنية صحيحة، وإخلاصًا للحقيقة غير مقيَّد، كما ومواهب روحية استثنائية، أهمُّها نقاوة القلب، والتضحية بالنفس، والزهد بالأمجاد الدنيوية… وهذه عينها غاية الإشراق العقلي ووسيلته في آنٍ معًا. ونشدان هذه الغاية، وقد أضحى حتميًّا في زماننا هذا، يشي بتفاهة – إنْ لم نقل بضرر – مخالطة الكائن الذي أطلقنا عليه خطأً اسم “المرأة”.

أستحلفكم بالإله، أيها السادة، ألا تبدِّدوا طاقاتكم فيما لا طائل فيه، وأن تُباشِروا الساعة البحثَ عن التنين المقدس وتستعدوا للألم الماحق.

نحن، أيها السادة، قومٌ أشداء، مجتهدون، بصيرون… فينا الباحث، والجهبذ، والعلاَّمة، ولا نعوِّل على المخيِّلة في شيء! ولئن بَدَتِ الوقائع التي نكتشفها ونسلِّط الضوء عليها من قبيل الهذيان في أحيان كثيرة، ليس الهذيان فينا، بل هو متأتٍّ من كون الواقع – الواقع الحق، إذا جاز لي القول – لا ينطبق البتة على عادات الذهن البليد.

بيد أننا نعلم، أيها السادة، بالخبرة وبالدرس، أن الكبار فينا – أساتذتنا في سائر مجالات المعرفة – أناس قطعوا شوط البشرية العادية وشرعوا في تدبير الإكسير. يعلن هؤلاء مقدم حالة الوعي الأخرى؛ وهُم دومًا الرجال الذين كفَّت المرأة – بالمعنى العادي للكلمة – عن لعب دور في حياتهم: جميعهم عزفوا، في لحظة ما من مسارهم، عن نكاح أنفسهم والاغتواء بصورتهم – أكان العلم نَقَلَهم إلى وحدة رهيبة، أو سورِروا بمعرفة عُلْوية، أو قادتْهم الظروفُ إلى مواجهة الموت، أو قُيِّض لهم أن يلتقوا المرأة النادرة – امرأة العشق – ويكابدوا الانسلاخ التام الذي يعقب هذا اللقاء.

عزيزة هي المرأة، أيها السادة، عزيزة هي تباركت…

تباركت، لأنها تحيل مشهدَنا الداخلي صحراءَ قاحلة. بينما المرأة الأخرى، العديدة، تُضاعِفُ هذا المشهد، تعقِّده تعقيدًا لذيذًا، تحوِّله إلى رياض غنَّاء، تضمِّخه بالعطور والأفاوية، وتُبقينا مشدوهين، حالمين، – إنما مشلولين.

بيد أن ثمة، في هذه الرياض، متاهات.

وثمة، في الصحراء، طريق تقودنا إلى ذروتنا.

هيه… أيها السادة!

لقد قلت ما عندي… فعودوا إلى سباتكم!