رسالة تولستوي الأخيرة إلى گاندهي[1]
كوتشيتي، 7 أيلول 1910
تلقَّيتُ نُسَخَ مجلتكم الرأي الهندي، فسُررتُ بالغ السرور بقراءة كلِّ ما يمتُّ فيها بصِلةٍ إلى اللاَّمقاومة[2]، وأودُّ أن أشاطرك الخواطر التي ألهمتْني إيَّاها هذه القراءة.
كلما تقدَّمتْ بي السنُّ – ولاسيما الآن وأنا أشعر بدنوِّ الأجل – أزداد رغبة في أن أقول للآخرين ما أستشعره بكلِّ قوة وما يتَّسم في نظري بأهمية بالغة – وأقصد ما يُسمَّى “اللاَّمقاومة”، وإنْ هو ليس في الواقع غير شريعة المحبة وقد تخلَّصتْ من تفسيراتها الزائفة كلِّها. يشعر كلُّ إنسان ويتعرَّف في أعماق نفسه (وهذا نراه في وضوح عند الأطفال) أن المحبة – أي توق النفوس إلى الاتحاد والسلوك المتولِّد عنه – هي شريعة الحياة الوحيدة والعليا؛ إنه يعرف ذلك مادامت لم تغرِّر به تعاليمُ العالم الكاذبة. وهذه الشريعة أعلنها حكماءُ الكون جميعًا، رومانًا كانوا أم إغريقًا أم يهودًا أم صينيين أم هندوسًا. وأعتقد أن أجلى صياغة لهذه الشريعة جاء بها المسيح الذي أكَّد أنها حتى تلخِّص الناموس والأنبياء[3]. لا بل إنه، وقد توقَّع التشويهات التي قد يُنزِلها البشرُ بهذه الشريعة، أشار إلى أن الخطر يمكن له أن يأتي من البشر المغالين في التعلق بأمور الدنيا، خطر رؤية بعضهم يجيز لنفسه العنفَ ذودًا عن مصالحه، أي الرد على الضربة بمثلها واسترداد ما أُخِذَ منه بالقوة، إلخ. كلُّ إنسان عاقل فهو يعرف أن ممارسة العنف لا تتوافق مع المحبة، بوصفها قاعدةَ الحياة الأساسية، وأن المرء ما إنْ يُقِرَّ العنفَ في حالات بعينها حتى يعترف بقصور شريعة المحبة، وبالتالي، يُنكِرها. والحضارةُ المسيحيةُ التي تظهر بكلِّ هذا البريق مؤسَّسةٌ برمَّتها على هذا التناقض البيِّن والعجيب، الواعي أحيانًا، غير الواعي في أغلب الأحيان.
وفي الواقع، ما إنْ أُقِرَّتِ المقاومة[4] حتى لم تعد المحبة – ولم يعد بمستطاعها أن تكون – شريعة الحياة، فكان العنف، أي سلطان الأقوى. هكذا عاش العالم المسيحي طوال تسعة عشر قرنًا. صحيح أن البشر، في جميع العصور، لم يؤمنوا إلا بالعنف لبناء حياتهم؛ لكن الفارق بين الشعوب المسيحية وبين غيرها أن شريعة المحبة عُبِّرَ عنها في العالم المسيحي بجلاء أنصع وإحكام أكبر منهما في أيِّ مِلَّة أخرى، وأن المسيحيين اعتنقوا رسميًّا هذه الشريعة، في حين أجازوا لأنفسهم العنفَ وأقاموا عليه حياتهم. لذا فإن حياة الشعوب المسيحية على تناقُض تامٍّ مع ما تبشِّر به: تناقُض بين المحبة، معترَفًا بها شريعةَ حياة، وبين العنف، معترَفًا به ضروريًّا في حالات بعينها، كسلطان القادة والجيش والمَحاكم، – معترَفًا به ومهلَّلاً له! وهذا التناقض ما انفك يتفاقم مع توسُّع العالم المسيحي، وهو الآن بالغٌ أوْجَه. والمشكلة تنطرح من الآن فصاعدًا على النحو التالي: من الأمرين أحدهما: إما أن نقرَّ بأننا لا نعترف بأيِّ أخلاق ولا بأيِّ دين، وبأننا لا ننصاع في حياتنا إلا لسلطان الأقوى، وإما أن نقرَّ بأن ضرائبنا، المجبيَّة قسرًا، وبأن هيئاتنا القضائية والشُّرطية – والجيش بالأخص – لا مناص من إلغائها.
في الربيع الفائت، في أثناء امتحان في التعليم الديني في مدرسة إعدادية للبنات في موسكو، استجوب المدرِّس، تلاه رجلُ دين كان حاضرًا، التلميذاتِ حول وصايا الرب، ولاسيما الوصية السادسة[5]. وحين كانت الإجابة صحيحة كان رجل الدِّين يطرح سؤالاً آخر هو الآتي في الغالب: “هل تحرِّم الشريعة الإلهية القتل دومًا وفي كلِّ مكان؟” وكان على تلك الفتيات المسكينات، اللواتي أضلَّهُنَّ مدرِّسوهنَّ، أن يُجِبْنَ – وكنَّ يُجِبْنَ فعلاً – بأن القتل محلَّل في الحرب وللاقتصاص من المجرمين. غير أن إحدى هاتيك المسكينات (وأنا لا أختلق، إذ نقل إليَّ الواقعةَ شاهدُ عيان)، حين أُلقِيَ إليها بالسؤال المعتاد: “هل القتل خطيئة دومًا؟”، أجابت، محمرَّةً انفعالاً، بأن القتل خطيئة دومًا، وواجهت سفسطات رجل الدِّين كلَّها بقناعتها الراسخة بأن القتل محرَّم دومًا، بأنه محرَّم في العهد القديم، وبأن المسيح لم يحرِّم قتل الإنسان أخاه وحسب، بل إنزالُه أقل أذًى به[6]. وعلى الرغم من هيبة رجل الدين وفصاحة لسانه فقد أعياه الردُّ على الفتاة التي خرجت من المعركة منصورة.
أجل، إن بوسع صحفنا أن تتكلَّم على فتوح الطيران، على العلاقات الدپلوماسية، على النوادي، على المكتشَفات، على التحالفات من كلِّ لون، على الأعمال الفنية المزعومة – وتصمت عما قالت هذه الفتاة. لكننا يجب ألا نصمت عن ذلك، لأنه أمر يستشعره، في وضوح كثير أو قليل، الذين يعيشون في العالم المسيحي. الاشتراكية، الشيوعية، الفوضوية، “جيش الخلاص”، الإجرام المتنامي، البطالة، رفاهية الأثرياء الوقحة في مقابل بؤس الفقراء، أعداد المنتحرين المتزايدة تزايدًا مروِّعًا – هذه كلُّها إشارات إلى التناقض الداخلي الذي لا مناص من حلِّه، ولسوف يُحَلُّ – ولن يُحَلَّ قطعًا إلا في منحى تبنِّي شريعة المحبة ورفض العنف بتاتًا. لذا فإن ما أنت ناهض له في الترانسڤال[7]، الذي يبدو في أنظارنا وكأنه آخِر العالم، هو حدث مركزي، هو أهمُّ المهمَّات واجبة الإنجاز في العالم حاليًّا، المهمَّة التي لا مناص من أن يشارك فيها الكونُ بأسره، لا الأمم المسيحية فحسب.
أحسب أنه سيسرُّك أن تعلم أن ثمة في روسيا أيضًا جهودًا تُبذَل في هذا المنحى، على هيئة رفض الخدمة العسكرية، وهو رفض يزداد عدد أصحابه كلَّ عام. ومهما بلغت ضآلة عدد ممارسي اللاَّمقاومة عندكم وعدد العُصاة عندنا في روسيا، يستطيع هؤلاء وأولئك أن يؤكِّدوا في جسارة أن الله معهم – والله أقوى من البشر!
إن لفي الاعتراف بالمسيحية – حتى على الشكل المحرَّف الذي قُدِّم للشعوب المسيحية – والإقرار، في الوقت نفسه، بضرورة الجيوش وآلات الحرب المهيَّأة للقتل على أوسع نطاق – إن لفي ذلك تناقُض صارخ صار من الوضوح بحيث إنه سيظهر حتمًا، عاجلاً أم آجلاً (وأغلب الظن قريبًا)، وفي وضح النهار، فيضع حدًّا إما للاعتراف بالدين المسيحي، الضروري لبقاء السلطان، وإما لوجود الجيش والعنف بكلِّ أشكاله، الذي لا يقلُّ ضرورةً للسلطان. وهذا التناقض باتت تستشعره جميع الحكومات، بما فيها الحكومة البريطانية والحكومة الروسية، التي تدفعها غريزةُ بقاءٍ طبيعيةٌ إلى قمعه في ضراوة أكبر من قمعها أيَّ نشاط آخر مناوئ للحكومة، كما تبيِّن ذلك مجلتكم. فالحكومات تعرف أين مكمن الخطر وتبدي أشد الاحتراس منه، لأن المستهدَف لم يعد مصالحها وحسب، بل مسألة: أن تكون أو لا تكون.
مع فائق احترامي،
ليڤ تولستوي
[1] كان لليڤ تولستوي، “حكيم ياسنَيا پوليانا”، أثرٌ عميقٌ على تطور الفكر الأنارخي (الفوضوي)؛ إذ كان يرى أن على المسيحي الحقيقي أن ينظر إلى مكنون قلبه ودخيلة نفسه طلبًا للخلاص الروحي، وذلك بالجهاد في سبيل الكمال عبر العمل بوصية محبة الله والقريب (إنجيل متى 22)، وذلك بدلاً من طلب إرشاد الدولة والكنيسة المتحالفة معها. وإيمانه باللامقاومة تصدِّيًا للقهر والقمع والاستغلال سمة أخرى من سمات فلسفته؛ إذ كان يرى أيضًا أن الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية السائدة تشكل عبئًا باهظًا على الفقراء؛ والحل الذي ارتآه للمشكلة هو التعايش الأنارخي، حيث لا يُعترَف بسلطة الدولة ما بقيتْ قائمةً على التسلُّط والعدوان، ولا بمرجعية الكنيسة ما ظلَّتْ مخالِفةً لتعاليم المسيح. لذلك عارض مبدأ الملكية الشخصية ومؤسَّسة الزواج، مفضِّلاً على الثانية مبدأ التبتُّل والعفة الجنسية (وهو مثال اعتنقه موهنداس گاندهي أيضًا). في سنة 1908، كتب تولستوي لصحيفة هندية مقالاً مغفل الاسم بعنوان “رسالة إلى هندوسي” بسط فيه رأيه بأن اللامقاومة هي سبيل الهند الأوحد إلى الفوز بالاستقلال من الحكم الاستعماري، فكان المقال فاتحة لمراسلة موصولة بينه وبين گاندهي الذي وقعت بيده نسخة من الصحيفة بعد ذلك بسنة – وكان آنذاك محاميًا في جنوب أفريقيا يباشر نشاطَه في مقاومة التمييز العنصري –؛ إذ لامَسَه النصُّ في الصميم، فبعث برسالة إلى الكاتب الروسي يسأله إنْ كان هو صاحب “الرسالة”. ولا شك أن هذه المراسلة التي دامت حوالى سنة (من تشرين الأول 1909 حتى قُبيل وفاة تولستوي في تشرين الثاني 1910) أثَّرت في گاندهي كثيرًا وساعدته على صياغة مفهوم أوضح عن المقاومة اللاعنفية التي كان تولستوي يسمِّيها “اللامقاومة” (وكانت برأيه التطبيق الحي لتعاليم المسيح)، حتى إنه أطلق على الأشرم الثاني الذي أسَّسه في جنوب أفريقيا اسم “مزرعة تولستوى” تيمُّنًا به. بالمثل، كان لكتاب تولستوي ملكوت الله في داخلكم (راجعْه بترجمة هڤال يوسف، معابر للنشر، دمشق 2010) تأثير بالغ على گاندهي، حيث اقتنع نهائيًّا بفريضة تفادي العنف واعتناق المقاومة اللاعنفية؛ وهو دَيْن اعترف به في سيرته الذاتية، حيث قال في تولستوي إنه “أعظم رُسُل اللاعنف الذين أنجبهم عصرنا الحالي”. جدير بالذكر أنه كان بين الرجلين قاسم مشترك آخر هو قناعتهما بفضل التغذية النباتية التي تناول تولستوي فوائدها في أكثر من مقالة. (المحرِّر)
[2] “اللامقاومة” هو المصطلح الذي أطلقه تولستوي على منهاجه في عدم مقاومة الشرِّ بالشر؛ وقد تبنَّى المهاتما گاندهي هذا المصطلح في بَدْو نضاله، ثم ما لبث أن استبدل به مصطلح “اللاعنف”. (المحرِّر)
[3] سأل أحد الفرِّيسيين المعلِّم الناصري ليُحرِجَه: “يا معلِّم، ما هي الوصية الكبرى في الشريعة؟” فقال له: “أحبب الربَّ إلهك بكلِّ قلبك وكلِّ نفسك وكلِّ ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحببْ قريبَك حبَّك لنفسك. بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلُّها والأنبياء” (إنجيل متى 22: 35-40). (المحرِّر)
[4] المقصود هو مقاومة الشرِّ والردُّ عليه بالشر. (المحرِّر)
[5] المقصود وصية: “لا تقتل”، الوصية السادسة من الوصايا العشر المنسوبة إلى النبي موسى (التوراة، سفر الخروج 20: 13). (المحرِّر)
[6] يقول المعلِّم الناصري: “سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتلْ، فإن مَن يقتل يستوجب حكم القضاء. أما أنا فأقول لكم: مَن غضب على أخيه استوجب حكم القضاء، ومَن قال لأخيه: يا أحمق! استوجب حكم المجلس، ومَن قال له: يا جاهل! استوجب نار جهنم” (إنجيل متى 5: 21-23). (المحرِّر)
[7] مقاطعة في جنوب أفريقيا، عاصمتها پريتوريا. (المحرِّر)