وصـال*
ج. كريشنامورتي
إذا لم تكن في وصال مع أيِّ شيء فأنت إنسان ميت. عليك أن تكون في وصال مع النهر، مع العصافير، مع الأشجار، مع الضوء المسائي الخارق، مع ضوء الصباح على صفحة الماء؛ عليك أن تكون في وصال مع جارك، مع زوجتك، مع أولادك، مع زوجك. وأعني بالـوصال عدم تدخُّل الماضي، بحيث تنظر إلى كلِّ شيء نظرة نَضِرة، جديدة، – وتلك هي الطريقة الوحيدة للوصال مع شيء ما، بحيث تموت عن كلِّ شيء من الأمس. وهل هذا ممكن؟ على المرء أن يكتشفه، لا أن يسأل: “كيف لي أن أفعله؟” – فما أحمق هذا السؤال! الناس يسألون دومًا: “كيف لي أن أفعل هذا؟” وهذا يفضح ذهنيَّتهم: تراهم لم يفهموا، لكنهم يريدون أن يتوصلوا إلى نتيجة وحسب.
وإذن، فأنا أسألك إنْ كنت على صلة أصلاً مع أيِّ شيء، وإنْ كنت على صلة أصلاً مع ذاتك – لا مع “ذاتك العليا” و”ذاتك الدنيا” وسائر التقسيمات التي لا عدَّ لها والتي اختلقها الإنسان للتهرب من الواقع. وعليك أن تكتشف – لا أن تلقَّن كيف تتوصل إلى هذا الفعل الكلِّي. إذ ليس هناك “كيف”، ليس هناك منهج، ليس هناك مذهب؛ لا يمكن تلقينك. عليك أن تعمل في سبيله. آسف، لا أقصد تلك الكلمة: عمل؛ فالناس يعشقون العمل – وذاك واحد من هواجسنا: أننا يجب أن نعمل للتوصل إلى شيء. إنك لا تستطيع أن تعمل؛ فحين تكون في حال وصال ليس هناك عمل: الأمر حاضر؛ العطر حاضر، وليس عليك أن تعمل.
اسألْ نفسك إذن – إذا أجزت لي أن أطلب منك – لتكتشف بنفسك إنْ كنت في وصال مع أيِّ شيء، إنْ كنت في وصال مع شجرة. هل اتفق لك يومًا أن تكون في وصال مع شجرة؟ هل تعرف ما معنى أن تنظر إلى شجرة، خالي البال من أيِّ فكرة، من أيِّ ذاكرة تتدخل في رصدك، – بشعورك، بحساسيتك، بحال انتباهك المرهفة، – بحيث لا توجد إلا الشجرة فقط، لا أنت الناظر إلى تلك الشجرة؟ أغلب الظن أنك لم تفعل هذا قط لأن الشجرة بنظرك لا معنى لها. جمال الشجرة لا مدلول له عندك بتاتًا لأن الجمال بنظرك يعني الجنس فقط. لذا فقد أغلقت بابك دون الشجرة، دون الطبيعة، النهر، الناس. وأنت لست على صلة مع أيِّ شيء، ولا حتى مع نفسك. أنت على صلة مع أفكارك أنت، مع كلماتك أنت، شأنك شأن إنسان على صلة مع الرماد. أتراك تعلم ما يحدث حين تكون على صلة مع مجرَّد رماد؟ تكون ميتًا، تكون محترقًا عن آخرك.
وإذن فإن أول شيء لا بدَّ لك من إدراكه هو أن عليك أن تكتشف ما هو الفعل الكلِّي الذي لن يفتعل تناقضًا على أيِّ مستوى من مستويات وجودك، ما هو أن تكون في وصال، وصال مع ذاتك، – لا مع الذات العليا، لا مع الآتمن [الذات الكلِّية]، أو مع إله، إلى ما هنالك، – بل أن تكون فعليًّا على صلة مع نفسك، – مع طمعك، حسدك، طموحك، وحشيتك، مخادعتك؛ – ومن ثَمَّ من هناك تنطلق. عندئذٍ ستكتشف بنفسك – تكتشف، ولا تلقَّن، فذلك لا معنى له – أن هناك فعلاً كلِّيًّا فقط حين يكون صمتٌ ذهنيٌّ تامٌّ ينطلق منه الفعل.
في حالة غالبيتنا، كما تعلم، الذهن صاخب، لا ينفك أبدًا يثرثر مع نفسه، يناجي نفسه أو يلغو حول شيء ما، أو يحاول أن يكلِّم نفسه، أن يقنع نفسه بشيء ما؛ إنه دومًا متحرك، صاخب. ومن ذلك الصخب، نفعل. أيُّ فعل وليد الصخب يُنتِج المزيد من الصخب، المزيد من البلبلة. لكنك إذا رصدت وتعلَّمت ما هو معنى التواصل، صعوبة التواصل، عدم حشو الذهن بالألفاظ، – أن ذاك [الذهن] هو ما يتصل ويتلقَّى الاتصال، – إذ ذاك، بما أن الحياة حركة، سَتَراك، في فعلك، تتحرك قُدُمًا حركة طبيعية، حرَّة، سهلة، من غير أيِّ جهد، نحو حال الوصال تلك. وفي حال الوصال تلك – إذا تقصَّيتَ تقصيًا أعمق – ستجد أنك لست في وصال مع الطبيعة، مع العالم، مع كلِّ شيء من حولك وحسب، بل في وصال مع ذاتك أيضًا.
الوصال مع ذاتك يعني الصمت التام، بحيث إن الذهن يمكن له أن يكون في وصال صامت مع نفسه حول كلِّ شيء. ومن هناك، يوجد فعل كلِّي. فمن الفراغ وحده ينبع الفعل الذي هو كلِّي وخلاق.
ڤارنسي، 22 تشرين الثاني 1964
* From the Verbatim Report of the second public talk in Varanasi, 22 November 1964, in Collected Works of J. Krishnamurti, copyright ©1991 Krishnamurti Foundation of America.