أن نكون لاشيء*
ج. كريشنامورتي
كُنْ متيقِّظًا لجمال كلِّ يوم، كلِّ صباح جديد، لأعجوبة العالم. إنه لَعالمٌ رائع، ونحن مابرحنا ندمِّره، في علاقة بعضنا مع بعضنا الآخر وفي علاقتنا بالطبيعة، بأشياء هذه الأرض الحية كافة.
*
هلا تقصَّينا ماهية مخٍّ صامت؟ تراك لا تتعلَّم، لا ترصد، إلا عبر صمت عظيم، لا وأنت تُحدِث الكثير من الضجيج. فحتى ترصد تلك التلال، وهذه الأشجار الجميلة، حتى ترصد أسرتك وأصدقاءك، لا بدَّ لك من فضاء ولا بدَّ من وجود صمت. أما إذا كنت تهذر، تثرثر، فلا فضاء لديك ولا صمت. ونحن بحاجة إلى فضاء، ليس فيزيائيًّا وحسب، بل نفسانيًّا أكثر بكثير. وذاك الفضاء ينتفي عندما نفكر في أنفسنا. الأمر شديد البساطة. إذ إنه حين يوجد فضاءٌ – فضاءٌ شاسعٌ نفسانيًّا – توجد حيوية عظيمة. ولكنْ عندما يحدُّ المرءُ ذاك الفضاء بذاته الصغيرة فإن تلك الطاقة الهائلة تُحتجَز كليًّا ضمن حدودها. ولهذا السبب فإن التأمل هو إنهاء الذاتية.
يمكن للمرء أن يستمع إلى هذا كلِّه إلى ما لا نهاية، لكنك إنْ لم تفعل هذا، فما الجدوى من استماعك؟ إنْ لم تكن فعليًّا واعيًا بنفسك، بكلماتك، بحركاتك، بمشيتك، بطريقة أكلك، بأسباب شربك وتدخينك، وبسائر الأشياء كلِّها التي يفعلها البشر – إنْ لم تكن واعيًا بالأمور المادية كلِّها كيف يمكن لك أن تعي ما يجري عميقًا؟ إنْ لم يكن المرء واعيًا فإنه عندئذٍ يصير مدَّعيًا، من طبقة وسطى، متوسط الجودة [mediocre]. إن المعنى الأصلي لكلمة mediocre تلك هو “صعود طريق التلَّة حتى منتصفه”، صعود طريق الجبل حتى منتصفه، عدم بلوغ قمَّته أبدًا. تلك هي الجودة المتوسطة [mediocrity]: أي عدم تطلُّبنا من أنفسنا الامتياز أبدًا، عدم تطلُّبنا من أنفسنا أبدًا الجودة الكاملة أو الحرية التامة – لا حرية أن نفعل ما يحلو لنا (فتلك ليست حرية، تلك تفاهة)، بل التحرر من ألم صنوف الجزع والوحشة واليأس، إلى سائر ما هنالك.
وإذن، لكي نكتشف ذاك، أو لكي نقع عليه، أو من أجل يوجد ذاك، لا بدَّ من فضاء وصمت عظيمين – لا الصمت المفتعَل، ليس قول الفكر: “يجب أن أصمت”. الصمت شيء خارق؛ إنه ليس الصمت بين ضجَّتين. سلامٌ بين حربين ليس سلامًا. الصمت شيء يحلُّ حلولاً طبيعيًّا عندما تراقب: عندما تراقب من غير دافع، من دون أيِّ نوع من الطلب، بل محض المراقبة، ورؤية جمال نجمة متوحِّدة في السماء، أو مراقبة شجرة بعينها في حقل، أو مراقبة زوجتك أو زوجك، أو أي شيء تراقبه. المراقبة في صمتٍ وفضاءٍ عظيمين. إذ ذاك، في تلك المراقبة، في ذاك الانتباه، ثمة شيء يتعدَّى الكلمات، يفوق كلَّ قياس.
نحن نستعمل كلمات لنقيس اللامقيس. لذا يجب على المرء أن يعي شبكة الكلمات أيضًا، كيف تغشُّنا الكلمات، كيف تعني الكلماتُ كلَّ ما تعنيه: [كلمة] شيوعية، عند رأسمالي، تعني شيئًا رهيبًا! تصير الكلمات خارقة الأهمية. أما وعي تلك الكلمات والحياة مع كلمة صمت، مع العلم بأن الكلمة ليست هي الصمت، إنما الحياة مع تلك الكلمة ورؤية وَزْن تلك الكلمة، مضمون تلك الكلمة، جمال تلك الكلمة!… بذا يبدأ المرء يدرك، حين يكون الفكر هادئًا، مراقِبًا، أن هناك شيئًا يفوق كلَّ خيال وشكٍّ وبحث. ويوجد شيء كهذا – على الأقل بنظر المتكلِّم. لكن ما يقوله المتكلِّم لا يصلح لسواه. إذا أصغيتَ، تعلَّمتَ، راقبتَ، كنتَ حرًّا كلَّ الحرية من صنوف جزع الحياة كلِّها، إذ ذاك فقط يكون ثمة دِيْن من شأنه أن يولِّد ثقافة جديدة، مختلفة كليًّا. نحن لسنا أناسًا مثقَّفين بتاتًا. قد يتفق لك أن تكون بارعًا جدًّا في الأعمال، قد تكون خارق البراعة تكنولوجيًّا، قد تكون طبيبًا أو أستاذًا جامعيًّا؛ لكننا نبقى مع ذلك محدودين للغاية.
إنهاء الذات، “الأنا”: أن تكون لاشيء. كلمة لاشيء تعني “لا شيء”: لا شيء من خلق الفكر. أن تكون لاشيء، فتعدم كلَّ صورة عن نفسك. لكن عندنا صورًا عديدة جدًّا عن أنفسنا. أن تعدم كلَّ صورة من أيِّ نوع، كلَّ وهم، أن تكون لاشيء على الإطلاق. الشجرة ليست شيئًا بنظر نفسها: إنها موجودة. وهي، في وجودها بحدِّ ذاته، أجمل شيء، مثل تلك التلال: إنها موجودة؛ إنها لا تصير شيئًا [آخر] لأنها لا تستطيع. مثل بذرة شجرة تفاح: إنها تفاح؛ تراها لا تحاول أن تصير أجاصًا أو فاكهة أخرى – إنها كائنة. أتفهم؟ هذا هو التأمل. هذا هو إنهاء البحث، والحقيقة تكون.
أوهَيْ، 22 أيار 1983
* From the transcript of the tape recording of the fourth public talk at Ojai, 22 May 1983, copyright ©1991 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd.