عن الموروث والقُدْسيَّة*
ج. كريشنامورتي
[…] وأنتم تعلمون أن الماضي هو اللاوعي. أتدري ما هو اللاوعي؟ لا ترجعْ إلى فرويد أو يونگ أو سائر أولئك القوم، بل انظرْ إليه بنفسك واكتشفْ، ليس عبر المذهب التجريبي، بل ارصدْه فعليًّا. الماضي يكمن في موروثك، في الكتب التي قرأتَها، في ميراثك العِرْقي بصفتك هندوسيًّا، بوذيًّا، مسلمًا، مسيحيًّا، إلى آخر ما هنالك، وفي الثقافة التي عشتَ فيها، المعابد، المعتقدات التي انتقلت من جيل إلى جيل. وهذا كله يشكِّل الپروپاگاندا [الدعاية] التي نشأتم عليها وخضعتم لها. أنتم مستعبَدون لپروپاگاندا دامت خمسة آلاف سنة؛ والمسيحي مستعبَد لپروپاگاندا دامت ألفي سنة: هو يؤمن بيسوع المسيح وأنتم تؤمنون بكرشنا، أو أيًّا ما كان الذي تؤمنون به، مثلما يؤمن الشيوعي بشيء آخر. نحن حصيلة الپروپاگاندا. هل تدركون ما يعنيه هذا؟ – [مجرد] كلمات، تأثير الآخرين؛ ومن ثَمَّ ليس هناك من شيء أصيل بتاتًا. ولكي نكتشف أصل أي شيء، يجب أن يكون فينا نظام – نظام لا يمكن له أن يحضر إلا عندما تكفُّ الفوضى التي تعيث في النفس. إذ إننا جميعًا، على الأقل أولئك الذين يتَّصفون حتى بالقليل من الجدية والاهتمام والإخلاص، قد تساءلنا حتمًا إنْ كان ثمة ما هو حَرام أصلاً، ما هو قُدْسي[1]. الجواب، بالطبع، هو أن المعبد أو الكنيسة أو المسجد ليس مقدسًا، ليس حَرَمًا، ولا الصور التي فيه.
لا أدري إنْ كنتَ قد أجريتَ الاختبار على نفسك. خُذْ عصا، ضَعْها على رفِّ المُصْطَلى، ثم واظبْ كل يوم على وضع زهرة أمامها – قدِّمْ لها زهرة، ضَعْ أمامها زهرة وردِّدْ بعض الكلمات – “كوكاكولا”، “آمين”، “أوم”، لا يهمُّ أي كلمة – أي كلمة تريد – اسمعوا، لا تتهربوا من الأمر بالضحك! – افعلْ وستتبيَّن الأمر. فإذا فعلتَ، سترى بعد شهر إلى أي حدٍّ صارت العصا مقدَّسة! لقد تماهيتَ مع تلك العصا، أو مع تلك القطعة من الحجر، أو مع تلك القطعة من الفكر، فجعلتَ منها شيئًا حَرامًا، مقدَّسًا. لكنها ليست كذلك. لقد أضفيتَ عليها صفةً قدسيةً من جراء خوفك، من جراء العادة المستحكمة في موروثك هذا: وَهْبُ نفسك لشيء تعتبره مقدَّسًا وتسليمُ أمرك له. الصورة في المعبد ليست أكثر قدسية من قطعة صخر ملقاة على جانب الطريق. لذا فمن الأهمية بمكان أن تكتشف ما هو قُدْسي حقًّا، ما هو حَرام حقًّا – إنْ كان ثمة شيء كهذا أصلاً.
لقد تكلم الإنسان على هذا طوال القرون، كما تعلمون، طالبًا شيئًا لا يفنى، شيئًا ليس من اختلاق الذهن، شيئًا قُدْسيًّا بحدِّ ذاته، شيئًا لا يمسُّه الماضي أبدًا. ما انفك الإنسان يطلب ذاك. والإنسان، إذ طلب ذاك ولم يجده، بادر إلى اختلاق الدين، وهو المعتقد المنظَّم. على الإنسان الجدي أن يكتشف – ليس عبر حجر أو معبد أو فكرة –، عليه أن يجد ما هو – حقًّا وصدقًا وأبديًّا – حَرام. فإذا لم تتمكن من إيجاده ستبقى دومًا على ما أنت عليه من قسوة، ستبقى دومًا في نزاع. فإنْ شئت، هذا المساء، أصغِ، لعلك أن تقع عليه – لا عبر المتكلم، لا عبر كلماته، لا عبر تصريحاته، بل لعلك أن تحظى به حين يكون ثمة انضباط عبر فهم الفوضى. عندما ترصد، انظرْ ما هي الفوضى؛ رؤية الفوضى بعينها تتطلب انتباهًا. تابعوا هذا، رجاءً. الانضباط عند غالبيتنا، كما تعلمون، مجرد تدريب، كما هو عند الجندي: تدريب، نظام منضم، من الصباح إلى الليل، بحيث لا يكون ثمة إلا العبودية للعادة. وذلك ما نسمِّيه “انضباطًا”: القمع، السيطرة – هذا مميت، وليس انضباطًا على الإطلاق. الانضباط شيء حي، يتصف بجماله الخاص، بحريته الخاصة. وهذا الانضباط يستتبُّ طبيعيًّا حين تعرف كيف تنظر إلى شجرة، كيف تنظر إلى وجه زوجتك، أو تنظرين إلى وجه زوجك، حين يكون بوسعك أن ترى جمال الشجرة أو مغيب الشمس. أن ترى، أن تنظر إلى تلك السماء، إلى ألَقِها، إلى جمال الأوراق على خلفية ذاك الألق، إلى اللون البرتقالي، إلى عمق ذاك اللون، إلى رشاقة ذاك اللون – شاهدْه! فلكي تراه عليك أن توليه انتباهَك كلَّه. ولإيلاء انتباهك كلِّه انضباطُه الخاص، بحيث لا تعود بحاجة إلى أي انضباط آخر. ذاك الشيء، إذن، ذاك الانتباه هو شيء حي، شيء متحرك وحيوي.
هذا الانتباه بعينه هو الفضيلة. لست بحاجة إلى أي معيار أخلاقي آخر ولا إلى أي أخلاقية أخرى. (بكل الأحوال، لا أخلاقية لديك، ماعدا، من ناحية، الأخلاقية التي لقَّنك إيَّاها المجتمعُ الذي أنشأتَه، ومن ناحية أخرى، ما تريد أن تفعله – وكلاهما لا يمتُّ بأي صلة إلى الفضيلة بتاتًا.) الفضيلة هي الجمال، والجمال هو الحب – ومن دون حب، لا فضيلة عندك، وبالتالي، لا نظام.
إذًا أكرر: إذا فعلتَ ذلك الآن، بينما يتحدث المتكلم عنه، ناظرًا إلى تلك السماء بكيانك كله، فإن لفعل النظر ذاك بعينه انضباطه الخاص، وبالتالي، فضيلته الخاصة، نظامه الخاص. إذ ذاك يبلغ الذهن ذروة النظام المطلق؛ وبالتالي، لأنه مطلق النظام، فإنه هو، بحدِّ ذاته، يصبح الحَرام. لا أدري إنْ كنتم تفهمون هذا. اعلمْ أنك حين تحب الشجرة، العصفور، الضوء على صفحة الماء، حين تحب جارك، زوجتك، حين تحبين زوجك، دون غيرة، ذاك الحب الذي لم يمْسَسْه كرهٌ قط – حين يوجد ذاك الحب فإن ذاك الحب بعينه حَرام، وليس ثمة أي شيء آخر يمكن له أن يكون أكثر حُرْمَة منه.
وإذن، هناك ذاك الشيء الحَرام، ليس في الأشياء التي قام الإنسان بتجميعها، بل الحَرام الذي يوجد حين يجتثُّ المرءُ نفسَه اجتثاثًا تامًّا من الماضي، وهو الذاكرة. وهذا لا يعني أن المرء يصير غافل الذهن – إذ إن عليه أن يستعمل الذاكرة في اتجاه معين –، بل سيتبيَّن له أن الذاكرة جزء من هذه الحالة بأسرها التي لا علاقة لها مع الماضي. وهذا الكفُّ للماضي لا يكون إلا حين ترى الأشياء كما هي وتغدو على تماسٍ مباشر معها – كما هي الحال مع مغيب الشمس البديع ذاك. عندئذٍ، من قلب هذا النظام، هذا الانضباط، من قلب هذه الفضيلة، يوجد الحب. الحب هائل الشغف وهو، بالتالي، يفعل على الفور؛ ليس فيه فاصل زمني بين الرؤية والفعل. وعندما تتصف بذاك الحب، تستطيع أن تنحِّي كتبك المقدسة كلَّها، آلهتك كلَّها – ولا مناص لك من تنحية كتبك المقدسة وآلهتك ومطامحك اليومية كي تحظى بذاك الحب. ذاك وحده هو الشيء الحَرام الموجود. ولكي تحظى به، لا بدَّ من إزهار الطيبة. الطيبة – أتفهمون، أيها السادة؟ – لا يمكن للطيبة أن تزهر إلا في الحرية، لا في الموروث.
العالم بحاجة إلى التغيير، وأنت بحاجة إلى ثورة هائلة في نفسك؛ العالم بحاجة إلى هذه الثورة الهائلة (لا إلى الثورة الاقتصادية، الشيوعية، الدموية، التي جرَّبها الإنسان طوال التاريخ؛ فتلك لم تقدْه إلا إلى المزيد من البؤس). بل نحن بحاجة إلى ثورة جذرية، نفسانية، وهذه الثورة هي نظام. والنظام هو السلام؛ وهذا النظام، الذي هو فضيلة وسلام، لا يحلُّ إلا عندما تكون على تماسٍ مع الفوضى في حياتك اليومية. عندئذٍ، من قلب ذاك تزهر الطيبة، وعندئذٍ لا يعود ثمة بحث – إذ إن الموجود… حَرام.
مدراس، 14 كانون الثاني 1968
* From J. Krishnamurti, The Awakening of Intelligence, Victor Gollancz Ltd., London, 1973, pp. 214-217.
[1] “الحَرام” the sacred: ما يتصف بحُرْمَة لا تُنتهَك؛ “القُدْسي” the holy: الطاهر الذي لا يشوبه فساد. يقصد كريشنامورتي بهذين المصطلحين ما لا تطاله عدوى مقولات الفكر والذاكرة المخزونة من الماضي الميت، ما لا يقع في نطاق الزمن. (المحرِّر)