التربية والطبيعة – ج. كريشنامورتي

التربية والطبيعة
من رسائل إلى المدارس*

ج. كريشنامورتي مع أطفال من مدرسة أوك گروڤ، أوهَيْ، كاليفورنيا

ج. كريشنامورتي

 

1 تشرين الثاني 1983

من المؤكد تمامًا أن المربِّين واعون بما يحدث فعليًّا في العالم. الناس منقسمون عرقيًّا، دينيًّا، سياسيًّا، اقتصاديًّا، وفي هذا الانقسام تفتيت؛ إنه يسبِّب فوضى هائلة في العالم: الحروب، وشتى أنواع التضليل السياسي، إلى آخر ما هنالك. هناك تفشٍّ للعنف، الإنسان ضد الإنسان – هذه هي الحال الفعلية للبلبلة في العالم، في المجتمع الذي نعيش فيه. هذا المجتمع يخلقه البشر أجمعون بثقافاتهم، بانقساماتهم اللغوية، بانفصالهم الإقليمي. وهذا كلُّه لا يولِّد البلبلة وحسب، بل الكراهية، كمٌّ هائل من العداء، والمزيد من التباينات اللغوية. هذا ما يحدث، ومسؤولية المربِّي عظيمة للغاية حقًّا.

*

ماذا تفعل هذه التربية فعليًّا؟ أتراها حقًّا تساعد الإنسان أو أبناءه أن يصبحوا أكثر مبالاة أو ألطف أو أكرم؟ أتراها تساعده ألا يرتدَّ إلى النموذج القديم، إلى بشاعة هذا العالم وخُبثه الماضيين؟ إذا كان [المربِّي] مباليًا حقًّا، كما ينبغي له أن يكون، عليه عندئذٍ أن يساعد الطالب على اكتشاف علاقته بالعالم، لا بعالم الخيال أو العاطفة الرومانسية، بل بالعالم الواقعي الذي تجري فيه الأشياء كلُّها؛ وكذلك بعالم الطبيعة، بالصحراء، بالغاب، أو بالأشجار القليلة التي تحيط به، وبحيوانات العالم. الحيوانات – لحسن الحظ – ليست قومية: إنها لا تصطاد إلا للبقاء حية. فإذا فقد المربِّي والطالب علاقتهما بالطبيعة، بالأشجار، بالبحر المائج، فإن كلاًّ منهما سيفقد قطعًا علاقته مع الإنسان.

ما هي الطبيعة؟ هناك كمٌّ كبير من الكلام على الطبيعة والسعي في حمايتها، الحيوانات، الطيور، الحيتان والدلافين، في تنظيف الأنهار الملوَّثة، البحيرات، الحقول الخضراء، إلى ما هنالك. الطبيعة ليست من تجميع الفكر، كما هو شأن الدِّين، كما هو شأن المعتقَد. الطبيعة هي النمر، ذلك الحيوان الخارق بطاقته، بحسِّه العظيم بالقوة. الطبيعة هي الشجرة المتوحِّدة في الحقل، هي المروج والبساتين؛ إنها ذلك السنجاب المختبئ على خَفَر وراء غصن. الطبيعة هي النملة والنحلة وسائر أشياء الأرض الحية. الطبيعة هي النهر، لا نهر بعينه، سواء كان الغانج أو التامس أو الميسيسيپي. الطبيعة هي تلك الجبال كلُّها، المكلَّلة بالثلج، مع الوديان الداكنة الزرقة وسلسلة التلال التي تُلاقي البحر. … على المرء أن يعطف على هذا كلِّه، فلا يدمِّره، ولا يقتل من أجل لذَّته.

*

الطبيعة جزء من حياتنا. لقد نشأنا من البذرة، من الأرض، ونحن جزء من ذلك كلِّه؛ لكننا مابرحنا نفقد الإحساس بأننا حيوانات كسائر الحيوانات الأخرى. هل بوسعك أن تعطف على تلك الشجرة؟ انظرْ إليها، عايِنْ جمالَها، أصغِ إلى الصوت الصادر منها؛ كُنْ حساسًا بالنبتة الصغيرة، بالعشبة البرِّية الضئيلة، بتلك الدويبة التي تتسلق الجدار، بالضوء على أوراق الشجر وبالظلال الكثيفة. عليك أن تعي هذا كلَّه وتتصف بذلك الإحساس بالوصال مع الطبيعة من حولك. قد تعيش في بلدة، لكن عندك أشجار متناثرة هنا وهناك. قد تعاني زهرةٌ في الحديقة المجاورة سوءَ العناية، فتختنق وسط الأعشاب البرِّية، لكنْ انظرْ إليها، اشعرْ أنك جزء من ذاك كلِّه، جزء من الأشياء الحية كلِّها. إذا آذيتَ الطبيعة فأنت تؤذي نفسك.

هذا كلُّه، كما تعلمون، قيل من قبلُ بأساليب مختلفة، لكنْ لا يبدو علينا أننا نولي الكثير من الانتباه. فهل إننا عالقون في شبكة مشكلاتنا نحن، رغباتنا نحن، دوافعنا نحن إلى اللذة والألم، إلى حدِّ أننا لا ننظر حولنا أبدًا، لا نراقب القمر أبدًا؟ راقبْه. راقبْ بعينيك وأذنيك جميعًا، بحاسة الشمِّ لديك. راقبْ. انظرْ كما لو أنك تنظر للمرة الأولى. إذا استطعتَ أن تفعل ذلك فأنت ترى تلك الشجرة، ذاك الدغل، نصل العشب ذلك، للمرة الأولى. إذ ذاك تستطيع أن ترى مدرِّسك، أمَّك وأباك، شقيقك وشقيقتك، للمرة الأولى. هناك عند ذاك شعور خارق: العَجَب، الغرابة، معجزة صباح نَضِر لم يكن من قبلُ قط، ولن يكون أبدًا. كُنْ حقًّا على وصال مع الطبيعة، غير عالق لفظيًّا في وصفها، بل كُنْ جزءًا منها، كُنْ واعيًا، اشعرْ بأنك تنتمي إلى ذاك كلِّه، كُنْ قادرًا أن تُكِنَّ محبةً لذاك كلِّه، أن تعجب لمرأى غزال، لمرأى الضبِّ على الجدار، لمرأى ذلك الغصن المكسور المرتمي على الأرض. انظرْ إلى نجمة المساء أو القمر الوليد، من غير الكلمة، من غير أن تكتفي بمجرد قولك: “ما أجمله!”، ثم تُدبِرَ عنه وقد جَذَبَك شيءٌ آخر، بل راقبْ تلك النجمة المتوحِّدة والقمر الوليد الرقيق كما لو للمرة الأولى. إذا كان ثمة وصال كهذا بينك وبين الطبيعة يمكن لك عندئذٍ أن تتواصل مع الإنسان، مع الصبي الجالس إلى جانبك، مع مربِّيك، أو مع والديك. ترانا لم نفقد فقط كلَّ حسٍّ بالعلاقة خالٍ من التصريح اللَّفظي بالمودة والمبالاة، بل وهذا الإحساس بالوصال الذي ليس لفظيًّا. إنه إحساس بأننا جميعًا معًا، بأننا جميعًا بشر، غير منقسمين، غير مفتَّتين، غير منتمين إلى أيِّ جماعة بعينها أو عرق بعينه، أو إلى تصورات مثالية ما، بل بأننا جميعًا بشر، نحيا جميعًا على هذه الأرض الخارقة، البديعة.

*

على المربِّي أن يتكلَّم على هذه الأشياء كلِّها، ليس لفظيًّا فقط، بل يجب عليه أن يشعر به بنفسه – العالم، عالم الطبيعة وعالم الإنسان. فهما مترابطان. ليس بمستطاع الإنسان أن يتهرَّب من ذلك. عندما يدمِّر الطبيعة فهو يدمِّر نفسه. عندما يقتل سواه فهو يقتل نفسه. العدو ليس الآخر، بل هو أنت. الحياة على مثل هذا التناغم مع الطبيعة، مع العالم، تجلب، بطبيعة الحال، عالمًا مختلفًا.

15 تشرين الثاني 1983

إنك لَتتعلَّم الكثير من المراقبة – مراقبة الأشياء من حولك، مراقبة العصافير، الأشجار، مراقبة السماوات، النجوم، كوكبة الجبار، الدب، نجمة المساء. إنك لَتتعلَّم من محض المراقبة، لا من مراقبة الأشياء من حولك وحسب، بل ومن مراقبة الناس أيضًا: كيف يمشون، كيف يومِئون، أي كلمات يستعملون، ماذا يلبسون من ثياب. وأنت لا تراقب ما هو في الخارج وحسب، بل وتراقب نفسك أيضًا، لماذا تفكر في هذا أو ذاك، كيف تتصرف، كيف تسلك في حياتك اليومية، لماذا يريدك الوالدان أن تفعل هذا أو ذاك. أنت تراقب، ولا تقاوم. إذا قاومتَ لن تتعلَّم. أو تراك إذا توصَّلتَ إلى نوع من الاستنتاج النهائي، إلى رأيٍ ما تظنُّه صائبًا، وتشبَّثتَ به، إذ ذاك، بطبيعة الحال، لن تتعلَّم أبدًا. الحرية ضرورية للتعلُّم، وكذلك حبُّ الاستطلاع، الإحساسُ بأنك تريد أن تعرف لماذا تتصرف أنت أو الآخرون على نحوٍ بعينه، لماذا يغضب الناس، لماذا يعتريك انزعاج.

*

والداك – خصوصًا في الشرق – يأمرانك بِمَنْ يجب أن تتزوج ويرتِّبون لك أمر الزيجة؛ يأمرانك بما يجب أن تكون عليه سيرتك المهنية. وهكذا فإن المخ يقبل بالطريق السهل، والطريق السهل ليس الطريق الصائب دومًا. أتساءل إنْ كنتَ قد لحظتَ بأنه لم يعد أحدٌ يحبُّ عمله، ماعدا، ربما، ثلَّة من العلماء والفنانين والآثاريين. لكن الإنسان العادي، المتوسط، قلما يحب ما يفعل؛ إنه عبد مأمور للمجتمع، لوالديه، أو للدافع إلى كسب مزيد من المال. وإذن، تعلَّمْ أن تراقب العالم الظاهري مراقبةً دقيقةً للغاية، العالمَ خارجك، والعالمَ الباطني – أيْ عالمَ نفسك.


* From Letters to the Schools, vol. 2, copyright ©1985 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd.