أرشيف التصنيف: مقالات

الصلة بين الأبجدية العربية وعلم الملائكة – رونيه گينون

ملحوظة حول ملائكيات

الأبجدية العربية*

guenon

رونيه گينون**

يمثَّل العرش المحيط، كما يسهل فهمُه، برسم دائرة، في مركزها الروح، كما شرحنا ذلك في غير مكان[1]؛ والعرش يحمله ثمانية ملائكة يشغلون مواقعهم على محيط الدائرة: الأربعة الأولون عند الجهات الأربع الأصلية، والأربعة الآخرون عند الجهات الأربع الفرعية. وأسماء هؤلاء الملائكة الثمانية مشكَّلة من ثماني مجموعات من الحروف، مأخوذةً [وفق قواعد حساب الجُمَّل][2] تبعًا لترتيب قيمها العددية، بحيث إن جملة هذه الأسماء تضم حروف الأبجدية ككل.

بيد أن المقام هنا يجيز لنا إبداء ملاحظة: المقصودة بطبيعة الحال هي الأبجدية ذات الـ28 حرفًا؛ ولكن يقال إنه لم يكن للأبجدية العربية أولاً غير 22 حرفًا، تقابل بالضبط حروف الأبجدية العبرية؛ ومنه التمييز المعمول به بين الجفر الصغير، الذي لا يستعمل غير هذه الحروف الـ22، وبين الجفر الكبير، الذي يستعمل الحروف الـ28، آخذًا بها جميعًا مع قيم عددية متميزة. ويجوز القول، إلى ذلك، بأن الـ28 (8 + 2 = 10) محتوى في الـ22 (2 + 2 = 4)، مثلما أن الـ10 محتوى في الـ4، تبعًا لصيغة الرابوع Tétraktys الفيثاغورثي الشريف: 1 + 2 + 3 + 4 = 10[3]؛ والواقع أن الحروف الإضافية الستة ليست إلا حروفًا معدلة عن ستة من الحروف الأصلية التي تتشكل منها بمجرد إضافة نقطة وتُرَدُّ إليها فورًا بحذف هذه النقطة عينها. وهذه الحروف الإضافية الستة هي التي تؤلف المجموعتين الأخيرتين من المجموعات الثماني التي تكلمنا عليها لتوِّنا؛ ومن البيِّن أنه لو لم يكن يُنظَر إليها كحروف متميزة، لتبدلتْ هذه المجموعات، إنْ من حيث عددها وإنْ من حيث تأليفها. ومنه، لا بدَّ أن العبور من أبجدية الـ22 حرفًا إلى أبجدية الـ28 حرفًا قد ترافق بالضرورة بتغيير في أسماء الملائكة التي نحن بصددها، وإذن، بتغيير في "الكيانات" التي تشير إليها هذه الأسماء. ولكنْ، مهما بدا ذلك من الغرابة بنظر بعضهم، فمن السوي في الواقع أن يكون الأمر على هذا النحو: إذ إن جميع التعديلات على الأشكال النقلية، وبالأخص منها تلك التي تقع على بنيان ألسنتها الشريفة، لا مناص من أن تكون لها بالفعل "أنماط بدئية" archétypes في العالم السماوي.

أما وقد قيل ما قيل، فإن توزيع الحروف والأسماء هو التالي:

شرقًا

أبجد[4]

عند الجهات الأصلية

غربًا

هوز

الأربع:

شمالاً

حطي

جنوبًا

كلمن

شمال شرق

سعفص

عند الجهات الفرعية

شمال غرب

قرشت

الأربع:

جنوب شرق

ثخذ

جنوب غرب

ضظغ

يلاحَظ أن كلاً من هاتين الجملتين ذات الأربعة أسماء يحوي نصف الأبجدية بالضبط، أي 14 حرفًا، موزعةً على التوالي على النحو التالي:

في النصف الأول: 4 + 3 + 3 + 4 = 14

في النصف الثاني: 4 + 4 + 3 + 3 = 14

والقيم العددية للأسماء الثمانية، المشكَّلة من حاصل جمع قيم حروفها، مأخوذةً بالطبع على الترتيب أعلاه نفسه، هي:

[أبجد =] 1 + 2 + 3 + 4 = 10

[هوز =] 5 + 6 + 7 = 18

[حطي =] 8 + 9 + 10 = 27

[كلمن =] 20 + 30 + 40 + 50 = 140

[سعفص =] 60 + 70 + 80 + 90 = 300

[قرشت =] 100 + 200 + 300 + 400 = 1000

[ثخذ =] 500 + 600 + 700 = 1800

[ضظغ =] 800 + 900 + 1000 = 2700

وقيمة كل من الأسماء الثلاثة الأخيرة مساوية على الترتيب لقيمة كل من الأسماء الثلاثة الأولى مضروبةً بـ100؛ وهذا بطبيعة الحال بيِّن إذا لوحظ أن الأسماء الثلاثة الأولى تحوي الآحاد من 1 إلى 10 وأن الثلاثة الأخيرة تحوي المئين من 100 إلى 1000؛ والحروف في كلا المجموعتين موزعة توزيعًا متساويًا إلى 4 + 3 + 3.

قيمة النصف الأول من الأبجدية تساوي حاصل جمع قيم الأسماء الأربعة الأولى: 10 + 18 + 27 + 140 = 195.

بالمثل، فإن قيمة النصف الثاني تساوي حاصل جمع قيم الأسماء الأربعة الأخيرة: 300 + 1000 + 1800 + 2700 = 5800.

وأخيرًا، فإن القيمة الإجمالية للأبجدية ككل تساوي 195 + 5800 = 5995.

العدد 5995 هذا لافت للنظر بتناظره: قسمه الأوسط هو 99، عدد أسماء الله الصفاتية؛ والرقمان على طرفيه يشكلان العدد 55، الذي يساوي حاصل جمع الأعداد العشرة الأولى، حيث ينقسم المثنى إلى نصفيه (5 + 5 = 10)؛ فضلاً عن ذلك، فإن 5 + 5 = 10 و 9 + 9 = 18 هما القيمتان العدديتان للاسمين الأول والثاني.

من الممكن تبيُّن الطريقة التي يتم بها الحصول على العدد 5995 تبينًا أفضل بتوزيع الأبجدية، تبعًا لتقسيم آخر، إلى ثلاث متواليات ذات تسعة حروف، يُزاد عليها حرفٌ مفرد: حاصل جمع الآحاد، من 1 إلى 9، يساوي 45: القيمة العددية لاسم آدم (= 1 + 4 + 40 = 45، أي من منظور المراتب الباطنية: القطب الغوث في المركز، الأوتاد الأربعة عند الجهات الأربع الأصلية، النجباء الأربعون على المحيط[5])؛ حاصل جمع العشرات، من 10 إلى 90، يساوي 45 في 10؛ حاصل جمع المئين، من 100 إلى 900، يساوي 45 في 100؛ أما مجموع حواصل هذه المتواليات الثلاث التساعية فيساوي، إذن، حاصل جداء 45 في111 [= 1 + 10 + 100]، العدد "القطباني" الذي هو عدد حرف الألف [= 1 + 30 + 80 = قطب = 100 + 9 + 2] "مبسوطًا": 45 في 111 يساوي 4995؛ ثم لا بدَّ من إضافة عدد الحرف الأخير، 1000، واحدة الدرجة الرابعة التي تنهي الأبجدية، مثلما تبدؤها واحدة الدرجة الأولى، وبذا نحصل في الآخِر على 5995.

أخيرًا، فإن حاصل جمع أرقام هذا العدد يساوي 5 + 9 + 9 + 5 = 28، أي عدد حروف الأبجدية نفسه، الذي يمثل قيمتها الإجمالية.

بالوسع قطعًا التوسع في المزيد من الاعتبارات انطلاقًا من هذه المعطيات، لكن هذه المؤشرات القليلة كافية للتمكن، على أقل تقدير، من تحصيل لمحة عن بعض تطبيقات علم الحروف وعلم العدد في المنقول الإسلامي.

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, VIII-IX, 1938, pp. 324-327 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 62-67.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] راجع: رونيه گينون، "الروح"، سماوات: http://samawat.org/articles/ruh_guenon. (المحرِّر)

[2] ما بين معقوفتين […] في النص من إضافة المترجم بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[3] Cf. René Guénon, « La Tétraktys et le carré de quatre », Études traditionnelles, avril 1937 ; repris dans Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 107-112.

[4] بطبيعة الحال، فإن كلاً من حرفَي الألف والباء، ككل حروف الأبجدية الأخرى، يشغل هنا موقع ترتيبه العددي: وهذا لا يمت بصلة إلى الاعتبارات الرمزية التي عرضنا لها في غير مكان والتي تخص كلاً منهما، فضلاً عن ذلك، بدور آخر أكثر خصوصية. [راجع: "الروح"، سماوات: http://samawat.org/articles/ruh_guenon. (المحرِّر)]

[5] "القطب – وقد يُسمى غوثًا باعتبار التجاء الملهوف إليه –: وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلَّسْم الأعظم من لَدُنْه؛ وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد؛ بيده قسطاس الفيض الأعم، وزنُه يتبع علمَه، وعلمُه يتبع علمَ الحق، وعلمُ الحق يتبع الماهيات غير المجعولة؛ فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل. وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته؛ وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية؛ وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها؛ وحكم عزرائيل كحكم القوة الدافعة فيها" (تعريفات الجرجاني)؛ "الأوتاد: هم الرجال الأربعة الذين على منازل الجهات الأربع من العالم، أي الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ بهم يحفظ الله – تعالى – تلك الجهات لكونهم محالَّ نظره تعالى" (الكاشاني، اصطلاحات الصوفية)؛ "النجباء: وهم الأربعون المشغولون بحمل أثقال الخلق – وهي من حيث الجملة كل حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله –، وذلك لاختصاصهم بموفور الشفقة والرحمة الفطرية، فلا يتصرفون إلا في حق الغير؛ إذ لا مزيد لهم في ترقِّياتهم إلا من هذا الباب" (تعريفات الجرجاني). (المحرِّر)

الروح – رونيه گينون

الـرُّوح*

رونيه گينون**

تبعًا للمعطيات النقلية لعلم الحروف [في التصوف][1]، لم يخلق الله العالم بحرف الألف، أول الحروف، بل بحرف الباء، ثانيها. وبالفعل، على الرغم من أن الواحد هو بالضرورة المبدأ الأول للتجلي، فإن الاثنين هو ما يقتضيه الواحدُ مباشرة، وهو الذي سوف تحدث بين حدَّيه، – كما لو بين قطبَي هذا التجلي المتكاملين، اللذين يرمز إليهما طرفا حرف الباء، – الكثرةُ غير المنتهية للأكوان العَرَضية existences contingentes كلُّها. فالباء، إذن، هو بالذات أصل الخلق، وهذا الخلق يتم "به" و"فيه"، بمعنى أنه في آن معًا "واسطة" الخلق و"محلُّه"، تبعًا لمعنيَيه الاثنين حين يؤخذ كحرف جر. والباء، في دوره القديم هذا، يمثل الروح، الذي يجب فهمه بوصفه الروح الجامع للكون الكلي existence universelle والذي يتطابق مع النور[2] أساسًا؛ وهو يحدث بالأمر الإلهي مباشرةً ("من أمر ربِّي" [الإسراء 85])، وما إنْ يحدث حتى يكون، بمعنى ما، الأداة التي بواسطتها يُجري هذا "الأمرُ" الأشياءَ كلها التي سوف "تترتب" بذلك جميعًا بالنسبة إليه[3]؛ فقبله لا يوجد إذن غير الأمر: إثبات الوجود المحض والصياغة الأولى للمشيئة العليا، مثلما أنه قبل الاثنين لا يوجد سوى الواحد أو قبل الباء لا يوجد سوى الألف. بيد أن الألف هو الحرف "القطباني"[4] الذي صورته بالذات هي صورة "المحور" الذي يتم الأمر الإلهي تبعًا له؛ ورأس الألف الأعلى – وهو سر الأسرار – ينعكس في نقطة الباء، باعتبارها مركز الدائرة الأولية التي تحدُّ مجال الكون الكلي وتحيط به؛ دائرة، إذا نُظِرَ إليها إلى ذلك من جميع الجهات الممكنة في آن معًا، هي في الواقع كرة: الصورة القديمة والجامعة التي تولد منها بالتمايز جميع الصور الخاصة.

إذا نُظِرَ إلى الشكل العمودي للألف وإلى الشكل الأفقي للباء، لتبيَّن أن الصلة بينهما هي الصلة بين مبدأ فاعل ومبدأ مفعول؛ وهذا يتوافق مع معطيات علم العدد حول الواحدية والاثنينية، لا في التعليم الفيثاغورثي وحسب (والاطلاع عليه هو الأوسع بهذا الخصوص)، بل وفي تعليم جميع المنقولات أيضًا. وخاصية المفعولية هذه ملازمة بالفعل لدوره المثنى (كـ"واسطة" وكـ"محل" كلي) الذي تكلمنا عليه لتوِّنا؛ لذا فإن كلمة "روح"، باللسان العربي، كلمة مؤنثة – على أن ننتبه إلى أن المفعول أو السالب بالنسبة إلى الحق يصير، بحسب قانون القياس، فاعلاً أو موجبًا بالنسبة إلى الخلق[5]. فمن الجوهري أن نتدبر هنا هذين الوجهين المتضادين، بما أن المقصود هنا بالدقة، إذا جاز لنا أن نعبِّر على هذا النحو، هو عينه "الحد" الموضوع بين الحق والخلق، وهو "حد" ينفصل به الخلق عن مبدئه الإلهي ويتصل به في آن معًا، وذلك تبعًا للجهة التي يُنظَر إليه منها؛ فهو إذن، بعبارة أخرى، البرزخ بامتياز[6]؛ ومثلما أن الله هو "الأول والآخِر" [الحديد 3] بالمعنى المطلق، فإن الروح هو "الأول والآخِر" بالنسبة إلى الخلق.

هذا لا يعني، بالطبع، أن مصطلح "الروح" لا يجوز أن يؤخذ أحيانًا بمؤديات أكثر خصوصية، كما هي حال كلمة "روح" esprit أو مكافئاتها المتفاوتة دقةً في ألسنة أخرى؛ فهكذا قد تبادَر إلى ذهن بعضهم أن المقصودة منها، في بعض سور القرآن بالأخص، إشارة إما إلى سيدنا جبريل وإما إلى ملَك آخر تنطبق عليه تسمية "الروح" هذه بصفة أخص. وذاك كله قد يكون صحيحًا قطعًا، تبعًا للحالة أو تبعًا للتطبيقات الناتجة عنها، لأن كل ما هو مشاركة في الروح الكلي أو مواصَفة من مواصفاته، أو ما يؤدي دوره من هذا القبيل وعلى مراتب متنوعة، هو روح أيضًا بمعنى نسبي، بما في ذلك الروح بوصفه مقيمًا في الإنسان أو في أي موجود خاص آخر. غير أن ثمة نقطة لا يوليها العديد من المفسرين من أهل الظاهر ما يكفي من الانتباه على ما يبدو: حين يشار إلى الروح صراحة إلى جانب الملائكة تمييزًا له عنهم[7]، كيف يجوز التسليم عندئذ بأن المقصود، في الواقع، هو ببساطة "أحد" هذه الملائكة؟ أما التأويل الباطني فمفاده أن المقصود عندئذ هو سيدنا ميططرون (وهو عينه مِطَطْرون القبالة العبرانية[8])؛ وهذا يتيح، إلى ذلك، توضيح اللبس الذي يقع بهذا الخصوص، بما أن ميططرون يتمثل هو الآخر كملَك، مع أنه حقيقةً، باعتباره مُسْتَعْليًا عن مجال الأكوان "المنفصلة"، شيء آخر وأكثر من ملَك؛ وذاك، في الحاصل، يقابل تمامًا الوجه المثنى للبرزخ[9].

لوحة تمثل كبير الملائكة ميططرون، عامل التجليات الإلهية ومبدأ النبوات.

هناك اعتبار آخر يتوافق تمامًا مع هذا التأويل، وهو التالي: في تمثيل العرش، يقيم الروح في المركز، وهذا المقام هو بالفعل مقام ميططرون؛ والعرش هو محل "الحضرة الإلهية"، أي محل الـشكينه التي هي، في المنقول العبراني، "قرينة" مططرون أو الوجه المتمِّم له[10]. إلى ذلك، يجوز لنا القول حتى بأن الروح يتطابق، على نحو ما، مع العرش بالذات، لأن العرش، إذ يطوِّق العوالم كلها و"يحيط" بها (ومنه نعت المحيط المضاف إليه)، يتطابق مع الدائرة الأولية التي تكلمنا عليها أعلاه[11]. وإننا لنقع هنا أيضًا على وجهَي البرزخ: إنه، من جهة الحق، الرحمن "المستوي على العرش"[12]؛ أما من جهة الخلق، فهو لا يتراءى بمعنى ما إلا منكسرًا من خلال "عدسة" الروح، وهو ما يتصل مباشرة بمعنى حديث النبي: "مَن رآني فقد رأى الحق". وذاك، بالفعل، هو سر التجلي "النبوي"[13]؛ ومعلوم أن مططرون، تبعًا للمنقول العبراني أيضًا، هو عامل "الظهورات الإلهية" théophanies ومبدأ النبوة بالذات[14]، ما يعني، بلغة الإسلام، أنه ليس غير الروح المحمدي الذي ليس جميع الأنبياء والمرسلين فيه إلا واحدًا، وهو الذي، في "الدنيا"، يتخذ تعبيره الأخير فيمَن هو "خاتَمهم"، أي مَن يجمعهم في مختصر أخير هو انعكاس لوحدتهم المبدئية في "العليا" (حيث هو "أول خلق الله": إذ إن الآخِر في النظام المتجلي هو، بالقياس، الأول في النظام المبدئي)، فيكون بذلك "سيِّد الأولين والآخِرين". بذلك – وبه فقط – يجوز فهم جميع أسماء النبي وألقابه بمعناها العميق، بما هي في المحصلة أسماء الإنسان الكامل وألقابه، البرزخ الجامع الذي تجتمع فيه أخيرًا مراتب الكون كلها، مثلما كان يحتويها جميعًا فيه منذ الأصل: "عليه صلاة ربِّ العرش دومًا"!

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, VIII-IX, 1938, pp. 287-291 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 54-61.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste لا يزال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] ما بين معقوفتين […] في النص من إضافة المترجم بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[2] لهذا أيضًا فإن الباء (أو ما يكافئه) هو الحرف الاستهلالي للكتب الشريفة: فالتوراة تبدأ بكلمة براشيت בראשית ["في البدء…"]، والقرآن بالبسملة؛ ومع أنه ليس بحوزتنا حاليًّا نص الإنجيل بلغة شريفة، يجوز لنا على أقل تقدير أن نلحظ بأنه، لو توفر لنا نصُّه العبري، لكانت إذ ذاك الكلمة الأولى من إنجيل يوحنا ["في البدء…"] هي براشيت أيضًا. [لذا جاء في مقدمة هذا الإنجيل عن الكلمة الإلهي: "به كان كل شيء…/ فيه كانت الحياة/ والحياة نور الناس" (1: 2-4).]

[3] من جذر امر אמר يُشتق باللسان العبري فعلُ يامر יאמר، المستعمَل في سفر التكوين للتعبير عن فعل الخلق المتمثل بوصفه "الكلم" [القول] الإلهي. [راجع سفر التكوين 1، حيث يرد فعل "قال…" عشر مرات.]

[4] كما سبق لنا أن أشرنا في غير مكان، ألف = قطب = 111 (راجع: René Guénon, « Un hiéroglyphe du Pôle », Études traditionnelles, mai 1937 ; repris dans Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 113-115)؛ ولنضف بأن للاسم الإلهي أعلى القيمة العددية نفسها [1 + 70 + 30 + 10 = 111].

[5] في القبالة العبرانية، يقابل هذا الوجه المثنى، بمعنى ما، وجه شكينه שכינה، المؤنثة، ووجه مططرون מטטרון، المذكر، كما سيتبين مما يلي.

[6] [يقول ابن عربي: "فكأنه (الإنسان) برزخ بين العالم والحق وجامع لخلق وحق؛ وهو الخط الفاصل بين الحضرة الإلهية والكونية، كالخط الفاصل بين الظل والشمس" (رسالة إنشاء الدوائر، طبعة ليدن، ص 22)؛] راجع: T. Burckhardt, « Du barzakh », Études traditionnelles, décembre 1937.

[7] على سبيل المثال، في سورة القدر، الآية 4: "تنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربِّهم من كلِّ أمر".

[8] هناك خلاف بين الباحثين في القبالة حول أصل اسم "مِطَطْرون" Metatron. فبعضهم يقول بأنه يوناني الأصل: من كلمتَي ميتا meta، "بعد"، وثرونوس thronos، "عرش"، اللتين تعنيان مجتمعتين: "الخادم وراء العرش" أو "المستوي على العرش بعد عرش المجد"؛ وهناك مَن يذهب إلى أن أصله كلمة ميتاتور metator اللاتينية التي تعني "الرسول" أو "القائد"؛ لكن الفرضية التي تهمنا هنا بالأخص هي التي تشتق الاسم من كلمة مطرا mitra الكلدانية التي تعني "مطر"، نظرًا للدور الذي تنسبه غالبية المنقولات إلى المطر كرمز إلى تنزُّل "اللطائف الروحانية" من السماء على الأرض. أيًّا ما كان الأمر، فإن الموروث يفيد بأنه الملَك الذي حال بين النبي إبراهيم وبين ذبح ابنه اسحق (في الرواية التوراتية) أو إسماعيل (في الرواية الإسلامية)؛ ذلك أن قيمة مططرون מטטרון العددية (314) مساوية لقيمة شدَّي שדי ("الشديد" أو "شديد القوى") الذي يقال إنه لقب إله إبراهيم (إل شدي אל שדי). (المحرِّر)

[9] في بعض العبارات الباطنية، يقترن اسمُ "الروح" بأسماء الملائكة الأربعة الكبار الذين مقامه منهم، في النظام السماوي، مقام النبي محمد من الخلفاء الراشدين في النظام الأرضي؛ وذاك يناسب تمامًا ميططرون الذي، إلى ذلك، يتطابق بذلك تطابقًا واضحًا مع الروح المحمدي.

[10] هي النفس الكلية في مذهب ابن عربي، مثلما أن مقابل ميططرون عنده هو العقل الأول أو روح العالم أو البرزخ إلخ. (المحرِّر)

[11] حول موضوع العرش والملَك مططرون هذا، منظورًا إليه من منظار القبالة والملائكيات angélologie العبرانيَين، راجع: Basilide, « Notes sur le monde céleste », Études traditionnelles, juillet 1934 وأيضًا: « Les Anges », Études traditionnelles, février 1935, pp. 88-90.

[12] تبعًا للآية 5 من سورة طه: "الرحمن على العرش استوى".

[13] يجوز لنا أن نلحظ أنه بذلك يجتمع، على نحو ما، تصور النبي وتصور الـأڤتارا Avatāra ["التنزُّل" الإلهي، تجسُّد الإله ڤشنو في المذاهب الهندوسية] اللذان يصدران في اتجاهين متعاكسين: إذ يصدر الثاني اعتبارًا من المبدأ الذي يتجلى، بينما يصدر الأول اعتبارًا من "حامل" هذا التجلي (والعرش هو أيضًا "حامل" الإله).

[14] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, Gallimard, 1958, p. 28.

الفقر – رونيه گينون

الفـقـر*

رونيه گينون**

يجوز لنا التعريف بالكائن العَرَضي l’être contingent بوصفه الموجود غير واجب الوجود بذاته؛ ومنه، فإن مثل هذا الموجود لاشيء بحدِّ ذاته، ولا شيء مما هو إياه يخصُّه بالذات. وتلك هي حالة الإنسان، بوصفه فردًا، كما وحالة جميع الموجودات المتجلية، كائنةً ما كانت حالُها، لأنه مهما يكن الفارق بين مراتب الوجود الكوني فإن هذا الفارق دومًا بحُكم العدم في مرأى من المبدأ[1]. وهذه الموجودات، بشرية كانت أو غير بشرية، هي إذن، في كل ما هي إياه، متكلةٌ اتكالاً تامًّا على المبدأ الذي "لا موجود لما سواه بالحقيقة… فوجودُ الموجودات وعدمُها سيَّان"[2]؛ ووعي هذا الاتكال هو ما تشير إليه بالضبط عدة منقولات بوصفه "الفقر الروحي". في الوقت نفسه، فإن النتيجة المباشرة لهذا الوعي، بنظر الكائن الذي بلغه، هي التجرد من جميع الأشياء المتجلية، وذلك لأنه يعرف مذ ذاك أن هذه الأشياء هي الأخرى لاشيء، وأن أهميتها بكل دقة معدومة بالنسبة إلى الحق المطلق. وهذا التجرد، في حالة الإنسان، يقتضي أساسًا وقبل كل شيء عدم الاكتراث بثمار العمل، كما تعلِّم الـبهگڤدگيتا، وهو عدم اكتراث يفلت به الموجودُ من التسلسل غير المنتهي لعواقب هذا العمل: إنه "العمل عديم الرغبة" (نِشْكاما كرما nishkāma karma)، بينما "العمل المدفوع بالرغبة" (سَكاما كرما sakāma karma) هو العمل المؤدى بقصد نيل ثماره.

بذلك التجرد يخرج الموجود إذن من الكثرة؛ إنه، بحسب العبارات التي تستعملها العقيدة الطاوية، يفلت من تقلبات "تيار الأشكال"، من تناوب أحوال "الحياة" و"الموت"، "التكثف" و"التبدد"[3]، عابرًا من محيط دائرة "العجلة الكونية" إلى مركزها، الذي يشير لاو-تسُه إليه بالذات بوصفه "الفراغ (غير المتجلي) الذي يضم الأشعة ويجعل منها دولابًا"[4]. ويقول لاو-تسُه أيضًا:

مَن يبلغ أقصى الفراغ فذاك يثبت ثباتًا راسخًا في الراحة… الرجوع إلى الجذر (أي إلى المبدأ، الأصل الأول للموجودات كافة وغايتها الآخِرة في آن معًا) هو دخول في حال الراحة.[5]

ويقول لِيه-تسُه:

السلام في الفراغ حال تستعصي على التعريف، لا تؤخذ ولا تُعطى، بل يُتوصل إلى الرسوخ فيها.[6]

هذا "السلام في الفراغ" إنما هو السكينة في التصوف الإسلامي[7]، التي هي في الوقت نفسه "الحضرة الإلهية" في مركز الكائن، الداخلة في الاتحاد مع المبدأ، وهو اتحاد لا يمكن له أن يتم فعلاً إلا في هذا المركز بالذات:

المقيم في اللامتجلِّي تتجلى له الموجودات كلها… إنه، متحدًا بالمبدأ، متناغم، به، مع الموجودات كافة. إنه، متحدًا بالمبدأ، يعرف كل شيء بالعلل العامة العليا، ومن ثَم لا يعود يستعمل مختلف حواسه ليعرف خصوصًا وعلى التفصيل. علةُ الأشياء الحقيقيةُ غير مرئية، لا يُحاط بها، مستعصية على التعريف والتعيين. وحده الروح الذي استعاد مقامه في حال البساطة الكاملة يستطيع بلوغها في المشاهدة العميقة.[8]

و"البساطة" – وهي عبارة عن توحيد قدرات الكائن جمعاء – هي التي يتصف بها الرجوع إلى "الحال القديمة" l’état primordial؛ وإننا لنرى هنا كل الفارق الفاصل بين معرفة الحكيم المتعالية وبين العلم العادي و"الدنيوي" profane. وهذه "البساطة" هي أيضًا المشار إليها في غير مكان بوصفها حال "الطفولة" (بالسنسكريتية باليا bālya)، مفهومةً بالطبع بالمعنى الروحي، التي تُعتبَر في العقيدة الهندوسية شرطًا مسبقًا لاكتساب المعرفة بامتياز. وهذا يذكِّر بالكلام المشابه الوارد في الإنجيل:

مَن لا يقبل ملكوت الله مثل الطفل لا يدخله.[9]
أحمدك يا أبتِ، ربَّ السموات والأرض، على أنك أخفيتَ هذه الأشياء على الحكماء والأذكياء، وكشفتَها للصغار.[10]

"الطفولة" و"الصغر" هنا، عمقيًّا، مكافئان لـ"الفقر"، الذي كثيرًا جدًّا ما يرد في الإنجيل أيضًا والذي يُساء فهمُه للغاية عمومًا: "طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت السموات"[11]. وهذا الفقر يؤدي، بحسب التصوف الإسلامي، إلى الفناء، أي إلى محق "الأنية"[12]؛ وبهذا "الفناء" يتم بلوغ المقام الإلهي، الذي هو نقطة المركز التي يتم فيها تجاوُز جميع التمييزات الملازمة للمنظورات الخارجية، حيث تتلاشى جميع التعارُضات وتنحل في توازن كامل:

في الحال القديمة، كانت هذه التناقضات معدومة. فكلها مشتق من تكثُّر الكائنات (الملازم للتجلي والعَرَضي مثله) ومن ارتباطاتها الناتجة من الدوران الكلِّي (أي من دوران "العجلة الكونية" حول محورها)… وهي تكف من فورها عن التأثير في الكائن الذي اختزل أنيَّته المميزة وحركته الخاصة إلى لاشيء تقريبًا.[13]

هذا الاختزال لـ"الأنية المميزة"، التي تنتهي إلى التلاشي باختصارها إلى نقطة واحدة، هو عينه الفناء وعينه "الفراغ" الذي ورد ذكره أعلاه؛ ومن الجلي، إلى ذلك، بحسب رمزية العجلة، أن تباطؤ "حركة" الموجود يتناسب طردًا مع اقتراب هذا الموجود من المركز:

هذا الكائن لا يعود ينازع أي كائن آخر لأنه راسخ في اللانهاية، ممحو في اللامنتهي[14]. لقد بلغ نقطة انطلاق التحولات وهو واقف فيها، وهي نقطة محايدة لا نزاعات فيها. فبتركيزه طبيعتَه، وبتغذيته روحَه الحيوي، وباستجماعه قدراته كلها، اتحد بمبدأ التكونات كلها. وبما أن فطرته تامة (مجموعة إجمالاً في الوحدة المبدئية) وروحه الحيوي سليم، ليس بمقدور أي موجود أن يمسَّ به.[15]

إن "البساطة" التي ورد ذكرها أعلاه تقابل الوحدة "بلا أبعاد" للنقطة القديمة التي تفضي إليها حركةُ الرجوع إلى الأصل:

الإنسان المطلق البساطة يثني ببساطته الموجودات كلها، … بحيث إن لا شيء يعارضه في أقاليم الفضاء الستة، ولا شيء يعاديه، والنار والماء لا يؤذيانه.[16]

إنه يقف، بالفعل، في المركز الذي تصدر منه – إشعاعًا – الجهاتُ الست وتأتيه، عبر حركة الرجوع، ليحيِّد بعضُها بعضًا مثنى مثنى، بحيث إن تَعارُضها المثلث، في هذه النقطة المفردة، يتوقف تمامًا، ولا شيء مما ينجم عن هذا التعارض أو يقع فيه يقوى على المساس بالكائن المقيم في الوحدة السرمدية. فهذا الكائن، إذ لا يعارض شيئًا، لا يقوى أي شيء على معارضته، لأن التعارض بالضرورة علاقة متبادلة تتطلب وجود حدين متعارضين، وهي، بالتالي، لا تتوافق مع الوحدة المبدئية؛ و"العداء"، الذي ليس غير عاقبة للتعارض أو تجلٍّ خارجيٍّ له، لا يمكن له إلا أن ينعدم حيال موجود بات خارج كل تعارُض وتخطاه. والنار والماء، اللذان هما نمط الأضداد في "عالم العناصر"، لا يمكن لهما أن "يؤذياه" لأنهما، والحق يقال، لم يعودا موجودين بنظره أصلاً بوصفهما ضدين، إذ قد رجعا، – وقد توازَنا وحيَّد كلٌّ منهما الآخر باجتماع خصائصهما المتعارضة في الظاهر، لكنْ المتكاملة في الواقع، – إلى لاتمايز "الأثير القديم".

رمز "عجلة الأشياء" في الطاوية: الدائرة والجهات الست المنطلقة من محيطها إلى المركز

نقطة المركز هذه التي يتم بها، لدى الكائن البشري، الاتصال مع الأحوال العليا أو "السماوية" هي أيضًا "الباب الضيق" في رمزية الإنجيل[17]؛ وبالوسع مذ ذاك فهم ما هم "الأغنياء" الذين يعسر عليهم الدخول منه[18]: إنهم الكائنات المتعلقة بالكثرة والعاجزون، بالتالي، عن الارتقاء من المعرفة التفصيلية إلى المعرفة الإجمالية. فهذا التعلق، بالفعل، مضاد مباشرة للتجرد الذي ورد ذكره أعلاه، مثلما أن الغنى مضاد للفقر، ومن شأنه أن يقيِّد الموجود إلى المتوالية غير المنتهية لدورات التجلي[19]. والتعلق بالكثرة هو أيضًا، بمعنى من المعاني، "الغواية" الكتابية التي، إذ تذيق الكائن ثمرة "شجرة معرفة الخير والشر"، أي المعرفة الثنوية والتفصيلية بالأشياء العَرَضية، تبعده عن وحدة المركز الأصلية وتمنعه من بلوغ ثمرة "شجرة الحياة"[20]؛ فبهذا، بالفعل، يخضع الكائن لتناوب الطفرات الدورية، أي للولادة والموت. وسلوك الشوط غير المنتهي للكثرة ممثل بالدقة بلفات الحية الملتفة حول جذع الشجرة الذي يرمز إلى "محور العالم": إنه طريق الضالين بالمعنى الاشتقاقي للـ"ضلال"، في مقابل الصراط المستقيم، الصاعد شاقوليًّا على طول المحور نفسه والمذكور في فاتحة القرآن الكريم[21].

"الفقر"، "البساطة"، "الطفولة"، مصطلحات مؤداها واحد؛ و"التجريد"[22] الذي تعبِّر عنه هذه الكلمات كلها يفضي إلى "فناء" هو، في الواقع، ملء الوجود[23]، مثلما أن "اللافعل" (وُو-وي wou-wei) [في العقيدة الطاوية[24]] هو كمال الفعل، بما أن منه تُشتق سائر النشاطات الخاصة: "المبدأ دومًا غير فاعل، غير أن كل شيء يتم به"[25]. وبهذا يكون الموجود الذي بلغ نقطة المركز قد حقق بذلك بالضبط تكامُل الحال الإنسانية: إنه "الإنسان الحق" (تشِن-جِن tchenn-jen) في الطاوية؛ وحين، انطلاقًا من هذه النقطة وارتقاءً إلى الأحوال العليا، يحقق محصلة إمكاناته كاملةً، يكون قد صار "الإنسان الإلهي" (تشُن-جِن tcheun-jen)، وهو الإنسان الكامل في التصوف الإسلامي. بذا يجوز لنا القول بأن "الأغنياء" من منظار التجلي هم "الفقراء" حقًّا في مرأى من المبدأ، وعكسه بعكسه؛ وهذا أيضًا ما يعبِّر عنه بوضوح ناصع قولُ الإنجيل: "هكذا يصير الأولون آخِرين، والآخِرون أولين"[26]. وبهذا الخصوص، لا بدَّ لنا من أن نعاين، مرة أخرى أيضًا، التوافق التام بين جميع العقائد النقلية، التي ليست غير تعبيرات متنوعة عن الحقيقة الواحدة.

مصر، 11-12 ربيع الأول 1349 هـ (مولد النبي).

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, octobre 1930, pp. 714-721 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 44-53.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] يقصد رونيه گينون، في لغته الاصطلاحية، بكلمة "مبدأ" Principe العلة الأونطولوجية المستقلة عن معلولاتها. (المحرِّر)

[2] محيي الدين بن عربي، رسالة الأحدية [راجع نصها كاملاً في سماوات: http://samawat.org/texts/epistle_of_unity_ibn_arabi. كل مُضاف بين معقوفتين […] إلى النص الأصلي من تدخُّل المترجم لتوضيح المقصود. (المحرِّر)].

[3] يستعمل أرسطو، بمعنى مشابه، مصطلحَي "الكون" و"الفساد".

[4] طاو-ته-كنگ، 11.

[5] طاو-ته-كنگ، 16.

[6] ليه-تسه، 1.

[7] راجع الفصل حول "الحرب والسلم" في كتابنا رمزية الصليب.

[8] ليه-تسه، 4.

[9] إنجيل لوقا 18: 17.

[10] إنجيل متى 11: 25؛ إنجيل لوقا 10: 21.

[11] إنجيل متى 5: 2.

[12] هذا "الفناء" لا يعدم المقايسة، حتى بخصوص المعنى الحرفي للمصطلح المشير إليه، مع نرڤانا nirvāna العقيدة الهندوسية؛ وفيما يتعدى الفناء، هناك أيضًا فناء الفناء الذي يقابل بالمثل الـپرنرڤانا parinirvāna.

[13] تشوانگ-تسه، 19.

[14] أول هذين التعبيرين ["راسخ في اللانهاية"] يعود إلى "الشخصية" وثانيهما ["ممحو في اللامنتهي"] يعود إلى "الفردية". [و"الشخصية"، في اصطلاح گينون، هي الجانب ما فوق البشري من الإنسان، مقام أحوال الوجود المستعلية عن الموجود كفرد، بينما "الفردية" هي الجانب البشري منه حصرًا، ببُعديه الجسماني والنفسي الفردي. فـ"رسوخ الشخصية في اللانهاية"، إذن، هو تحقيقها لإمكاناتها كافة، بينما "محو الفردية في اللامنتهي" هو زوال الأنية المميزة (أو "شفافيتها" التامة بالأصح) بحيث تعبِّر تعبيرًا غير مقيد عن الإمكانات السابقة في حياة الفرد. (المحرِّر)]

[15] المصدر نفسه. تعود الجملة الأخيرة أيضًا إلى شروط "الحال القديمة": هذه هي ما يشير إليه المنقول اليهودي-المسيحي بوصفه خلود الإنسان قبل "السقوط"؛ وهو خلود يستعيده، بعودته إلى "مركز العالم"، مَن يقتات من "شجرة الحياة".

[16] ليه-تسه، 2.

[17] راجع: إنجيل متى 7: 13؛ إنجيل لوقا 13: 24. (المحرِّر)

[18] راجع: إنجيل متى 19: 23-25؛ إنجيل مرقس 10: 23-26؛ إنجيل لوقا 18: 24-25. (المحرِّر)

[19] إنه سمسارا samsāra البوذية، الدوران غير المنتهي لـ"عجلة الحياة" الذي يجب على الكائن أن يفلت منه حتى يبلغ الـنرڤانا.

[20] راجع: العهد القديم، سفر التكوين 3. (المحرِّر)

[21] هذا "الصراط المستقيم" مطابق لـته te أو "الاستقامة" عند لاو-تسه، وهو المسلك الذي يجب على الكائن أن يتبعه حتى تجري حياته بحسب "الطريق" (طاو Tao) أو، بكلمات أخرى، بالتوافق مع المبدأ.

[22] هو "تجريد المعادن" dépouillement des métaux في الرمزية الماسونية.

[23] هو البقاء في التصوف الإسلامي. (المحرِّر)

[24] راجع: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)

[25] طاو-ته-كنگ، 37.

[26] إنجيل متى 20: 16.

التوحيد – رونيه گينون

التـوحـيـد*

رونيه گينون**

مذهب التوحيد، أي إثبات أن مبدأ كل وجود مبدأ واحد من حيث الماهية، نقطة أساسية تشترك فيها المنقولات الأرثوذكسية كافة – حتى إنه يجوز لنا القول بأن تطابُقها في العمق يظهر حول هذه النقطة بالذات على أوضح ما يكون، مترجَمًا إلى تطابُق في التعبير حتى. فبالفعل، حين تكون المقصودة هي الوحدة يُمَّحى كلُّ تنوع؛ أما حين يتم النزول إلى الكثرة، تظهر اختلافاتُ الأشكال، فتكون كيفيات التعبير نفسها عندئذ عديدةً عديدَ ما تدل عليه، ومن شأنها أن تتنوع تنوعًا غير محدود لتتكيف مع ظروف مختلف الأزمنة والأمكنة. لكن "التوحيد واحد"، كما تقول العرب؛ أي أنه نفسه في كل مكان وفي كل زمان، ثابت ثبات المبدأ، مستقل عن الكثرة والتغير اللذين لا يقدران أن يطالا إلا التطبيقات من رتبة عَرَضية contingent.

كذا فيجوز لنا أن نقول بأنه ما من مكان أبدًا شهد، على العكس من الرأي الشائع، ظهورَ مذهب "شِرْكي" polythéiste حقًّا، أي يقبل تعدُّد مبادئ مطلقة وغير قابلة للاختزال [إلى الوحدة]. فهذه "التعددية" ليست ممكنة إلا كانحراف ناجم عن جهل العوام وقلة فهمهم، عن نزوعهم إلى التعلق حصرًا بكثرة المتجلي: ومنها "الوثنية" idolâtrie بكل صورها، وهي وليدة التباس الرمز بحدِّ ذاته بما هو مخصص للتعبير عنه، وتشخيص personnification مختلف الصفات الإلهية منظورًا إلى كلٍّ منها ككائن مستقل، وهو الأصل الوحيد الممكن لـ"وثنية" فعلية. وهذا النزوع لا ينفك يشتد بمقدار ما نمضي قُدُمًا في انبساط دورة من دورات التجلي، لأن هذا الانبساط نفسه إنما هو نزول في الكثرة، وبسبب من الإظلام الروحي الذي يرافقه حتمًا. لذا فإن الأشكال النقلية الأحدث تاريخيًّا هي التي يجب أن تنص على إثبات التوحيد بأكثر ما يكون من الظهور في الخارج؛ وهذا الإثبات، في الواقع، ليس معبَّرًا عنه في أي مكان آخر بهذه الصراحة وبكل هذا القدر من الإصرار غير الإسلام، حتى ليبدو وكأنه يمتص في ذاته حتى، إذا جاز القول، كل إثبات آخر.

الفارق الوحيد بين العقائد النقلية، بهذه الصدد، هو الفارق الذي أشرنا إليه لتوِّنا: إثبات الوحدة موجود في كل مكان، إنما لم تكن ثمة، في الأصل، حاجة إلى صياغته صياغة صريحة لإظهاره بوصفه أكثر الحقائق وضوحًا، وذلك لأن البشر كانوا آنذاك من القرب الشديد من المبدأ بحيث ما كان لهم أن يغفلوا عنه وما كان له أن يغيب عن أنظارهم. أما الآن، على العكس، فيجوز لنا القول إن غالبيتهم، وقد انخرطوا بكليتهم في الكثرة وفقدوا المعرفة الكشفية بالحقائق من رتبة علوية، لا يتوصلون إلى فهم الوحدة إلا بشق النفس؛ ولهذا تصير من الضرورة، شيئًا فشيئًا، إبان تاريخ البشرية الأرضية، صياغةُ إثبات الوحدة هذا مرارًا وتكرارًا وعلى نحو أكثر فأكثر نصاعة، وإذا صح القول، على نحو أكثر فأكثر إلحاحًا.

إذا أمعنَّا النظر في الوضع الحالي للأشياء، لرأينا أن هذا الإثبات أكثر استتارًا نوعًا ما في بعض الأشكال النقلية، حتى لكأنه يكوِّن أحيانًا جانبها الباطني (على أن تؤخذ كلمة "باطني" بمعناها الأوسع)، في حين أنه، في أشكال أخرى، بادٍ لكل الأنظار، بحيث يصل الأمر إلى عدم رؤية سواه (مع أن ثمة، هاهنا أيضًا، أمورًا أخرى كثيرة، لكنها لا تعود إلا ثانوية حياله). وهذه الحالة الأخيرة هي حالة الإسلام، حتى في وجهه الظاهر: فمذهب الباطن لا يفعل في حالته سوى شرح كل ما هو متضمن في هذا الإثبات وبسط سائر النتائج المشتقة منه؛ وهو إنْ فعل ذلك بعبارات كثيرًا ما تتطابق مع العبارات التي نصادفها في منقولات أخرى، من نحو الڤيدنتا[1] والطاوية[2]، لا مجال لنتعجب من ذلك ولا لنرى فيه أثر "اقتباسات"، هي إلى ذلك مختلَف عليها تاريخيًّا[3]؛ فالأمر هكذا ببساطة لأن الحقيقة واحدة، ولأن التوحيد، على هذه الرتبة المبدئية، كما سبق أن قلنا في البداية، يُترجَم بالضرورة إلى تطابُق في التعبير حتى.

من ناحية أخرى، تجدر ملاحظة – ونحن لا نزال نعاين الأشياء في وضعها الحالي – أن الشعوب الغربية، ولاسيما شعوب الشمال، هي الشعوب التي يبدو أنها تعاني أكثر ما تعاني من المصاعب في فهم التوحيد، من حيث إنها في الوقت نفسه الأكثر انخراطًا من سواها جميعًا في التغير والكثرة. والأمران بالطبع متلازمان؛ ولعل في ذلك ما يعود، جزئيًّا على الأقل، إلى شروط حياة هذه الشعوب: المسألة مسألة مزاج، لكنها أيضًا مسألة مناخ؛ وكل من الأمرين إلى ذلك تابع للآخر، إلى حدٍّ معين على الأقل. ففي بلدان الشمال، بالفعل، حيث ضياء الشمس ضعيف ومحتجب غالبًا، تبدو الأشياء كلها للأنظار ذات قيمة متساوية، إذا جاز القول، وبصورة تثبت إثباتًا بحتًا وجودها الفردي من غير أن تشفَّ عما يتعداه؛ وبهذا، لا تُرى حقًّا، في التجربة العادية نفسها، إلا الكثرة. لكن الأمر على غير ذلك تمامًا في البلدان التي يمتص فيها الشمس[4]، بضيائه الشديد، إذا صح القول، الأشياء كلها في ذاته، فيجعلها تختفي من أمامه مثلما تختفي الكثرةُ من أمام الوحدة، لا لأن هذه الكثرة تنعدم على صعيدها الخاص، بل بالدقة لأن وجودها هذا في حُكم العدم من منظار المبدأ. بذا فإن الوحدة تصير على نحو ما محسوسة: فهذا الوهج الشمسي هو صورة سطوع عين شيڤا[5] التي تستهلك كل تجلٍّ وتحيله رمادًا. فالشمس يفرض ذاته هنا بوصفه الرمز بلا منازع إلى المبدأ ("الله أحد")، واجب الوجود، الغني بذاته عن العالمين في صمدانيَّته المطلقة ("الله الصمد")، الذي تتكل عليه في وجودها ورزقها الموجوداتُ كلها، التي ليست خارجه إلا عدمًا.

إن لـ"وحدانية الله" monothéisme، مع أنها تحدُّ من المعنى بعض الشيء بإيحائها إيحاءً يكاد أن يكون حتميًّا إلى منظور ديني حصرًا، – لـ"وحدانية الله" بالتالي، نقول، خاصية "شمسية" أساسًا: إذ هي ليست "محسوسة" في أي مكان آخر بقدر ما هي محسوسة في الصحراء، حيث تنوُّع الأشياء مختزَل إلى حدِّه الأدنى وحيث يُظهر السراب، في الوقت نفسه، كل ما يقع من العالم المتجلي على صعيد الوهم. هناك، يوجِد ضياءُ الشمس الأشياءَ ويعدمها على التوالي، أو بالأحرى، – لأن من الغلط قولنا إنه "يعدمها" – يحوِّلها ثم يعيد امتصاصها بعد إظهاره إياها[6]. وليس بالوسع إيجاد صورة أصح للوحدة التي تسري خارجيًّا في الكثرة، مع بقائها هي هي ومن غير أن تتأثر بها، ثم تعيد إلى ذاتها، بحسب المظاهر أيضًا، هذه الكثرةَ التي لم تخرج أصلاً من الوحدة قط، وذلك لأنه لا يمكن لأي شيء أن يوجد خارج المبدأ، الذي لا يمكن أن يضاف إليه شيء ولا أن يُحذَف منه شيء، كونه كلية الوجود الواحد التي لا تتجزأ. ففي ضياء بلدان الشرق الشديد، حسب المرء أن يرى لكي يفهم هذه الأمور، فيعقل من فوره حقيقتها العميقة؛ وبالأخص، يبدو من المحال عدم فهمها هكذا في الصحراء، حيث الشمس يخط الأسماء الإلهية بحروف من نار في كبد السماء[7].

جبل سيدنا موسى، 23 شوال 1348 هـ؛
مصر، سيدنا الحسين، 10 محرم 1349 هـ
(ذكرى موقعة كربلاء).

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, juillet 1930, pp. 512-516 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 37-43.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] المقصود هو مذهب "اللاثنوية" (أدڤيتا advaïta) أو التوحيد الخالص في الهندوسية. (المحرِّر)

[2] راجع: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)

[3] المقصود هو الرد على رأي بعض المستشرقين القائل بأن التصوف الإسلامي ليس من الإسلام الأصلي في شيء، بل نشأ كمذهب بعد نزوع المجتمع الإسلامي للانصراف إلى الدنيويات واحتكاك تيار الزهد في الإسلام، بوصفه ردة فعل على ذاك النزوع، بالفلسفة اليونانية والرهبنة المسيحية والتصوف البوذي واقتباسه منها. (المحرِّر)

[4] ارتأى المترجم تذكير الشمس، وذلك لثلاثة أسباب: الأول لغوي بحت، باعتبار أن الفرنسية تذكِّر الشمس وتؤنث القمر؛ والثاني متعلق بالرمزية الكوسمولوجية والميثولوجية للشمس كمبدأ فاعل (مذكر)، في مقابل رمزية القمر كمبدأ منفعل (مؤنث)؛ والثالث انسجامًا مع ميثولوجيا الشرق الأدنى القديم التي جعلت الألوهة الشمسية مذكرة (الإله شمش مثلاً). (المحرِّر)

[5] شيڤا هو المظهر المميت من مظاهر الثالوث (تريمورتي trimūrti) الإلهي الهندوسي: برهما، ڤشنو، شيڤا؛ ويمثل برهما نقطة التوازن بين قوة الحفظ والتجديد (ڤشنو) وبين قوة التدمير والإتلاف (شيڤا). ولشيڤا أعين ثلاث، تتوضع ثالثتها عموديًّا في مركز الجبهة؛ وهي ترمز إلى الشمس، القمر، النار الماحقة والحكمة العليا. (المحرِّر)

[6] راجع الهامش السابق. (المحرِّر)

[7] نود هنا، تعقيبًا على كلام گينون، لفت النظر إلى أن الإسلام، من منظار باطني بحت، دين "شمسي" و"قمري" في آن معًا، كونه يربط مواقيت الصلاة – ركنه الروحي بامتياز – بحركة الشمس في القبة السماوية، حيث إن إقامتها هي التي تربط الزمن الأرضي (النسبي) بالزمن الكوني (المطلق) الذي ترمز إليه حركة الشمس، بينما يربط بداية الصوم ونهايته، مثلاً، برؤية الهلال، باعتبار الصوم منسكًا مرتبطًا بالصعيد الأرضي (النسبي) للأشياء، ويتعلق أساسًا بالعمل الداخلي على الجسم والنفس؛ بعبارة أخرى، كل ما يتصل من مناسك الإسلام بالروح (الجانب ما فوق الفردي من الإنسان) مرتبط رمزيًّا بالشمس، وكل ما يتصل منها بالنفس (الجانب الفردي منه) مرتبط بالتقويم القمري وبمنازل القمر. (المحرِّر)

نظرات في مفهوم الثقافة – ديمتري أڤييرينوس

نظرات في مفهوم الثقافة*

ديمتري أڤييرينوس**

يحظى مصطلح ثقافة ومشتقاته باهتمام متزايد في عصرنا. فكثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام كلمات من نحو: "المثقفون"، "إشعاع ثقافي"، "مثقف طليعي"، "دور المثقف الثوري"، "ثقافة شعبية"، "ثقافة عالِمة"، إلخ؛ وكذلك شعارات من نحو: "الثقافة هي الحاجة العليا للمجتمع"، "الثقافة غذاء العقل"، إلخ. فهل تساءلنا جديًّا عن معنى هذه العبارات؟!

كلمة "ثقافة"، بالعربية، هي المصدر من فعل ثَقِفَ أو ثَقُفَ، وهي تحتمل معنيين: إما الحذق والخفة والظرف في الفهم والحديث، وإما تهذيب الشخصية الإنسانية وتأديبها والمضي بها إلى أعلى درجات الكمال – والمعنى الثاني، بالطبع، هو الذي اخترت أن يكون موضوع حديثي اليوم.

أما كلمة culture، بالفرنسية أو بالإنكليزية، فهي مشتقة من المصدر اللاتيني cultura، وتعني "فن الزراعة والعناية بالنباتات". (لعل هذا الأصل اللساني للكلمة يشير إلى أن بدايات الثقافة مرتبطة باستقرار الإنسان البدائي في قرى ونشوء المجتمع الزراعي.) كلنا يعلم أنه توجد على كرتنا الأرضية أعداد لا حصر لها من النباتات التي تنمو، من دون معونة الإنسان، وفقًا لسيرورات طبيعية؛ وكلنا يعلم أيضًا أنه تجري في الطبيعة سيرورات خَلْق من أبدع ما يكون: أشجار باسقة، زهور رقيقة، نباتات متسلقة، نباتات زاحفة، ليس لجمالها الخارق أي دخل بالجهود التي يبذلها الإنسان.

أما الزراعة، في مقابل نمو النباتات الطبيعي، فتعني تكريس مجهود أو اهتمام لتطور النبتة المزروعة. لذا يتضمن عمل المُزارع – أي مُزارع – القيام بكل ما من شأنه أن يشجع عملية التطور تلك، بما يرافقها من إزهار وإثمار وإيناع، ويكفل الحفاظ على النبتة في صحة طيبة. وتتضمن الزراعة عددًا من العمليات: علينا، أولاً، أن نحرث الأرض، ثم أن نغذيها بأن نُمِدَّها بالعناصر الضرورية؛ ثم علينا أن نرويها، كما علينا أن نقتلع منها الأعشاب الضارة اقتلاعًا مستمرًّا. والمجهود الذي نقوم به يجب ألا يكون عشوائيًّا أو مزاجيًّا، بل منظم ودقيق. لكن هذه العمليات جميعًا، من حرث وتسميد وري إلخ، لن تجدي نفعًا إذا خَلَتِ التربة من بذرة أو جذر، من بصلة أو غرسة، أي إذا لم تتضمن عنصرًا من عناصر الطبيعة، أولاً وآخرًا.

الإنسان، إذن، عاجز عن خلق بذرة أو تصنيع غرسة. بوسعه طبعًا أن يُصالِب بين أجناس مختلفة من النوع نفسه، فيحصل بالتلقيح المتصالب على ثمار مختلفة في شكلها ومذاقها وخصائصها؛ أو أن يُجري تطعيمًا، كأنْ يغرس طُعمًا من شجرة مثمرة في شجرة مثمرة أخرى (الحمضيات مثلاً)، وأن يقوم بعمليات أخرى كثيرة. لكن جميع هذه التجارب تحتاج إلى مواد من إنتاج ذلك المعمل المعقد الشاسع الذي ندعوه الطبيعة.

لذا، مهما بدا لنا عمل المُزارع أصيلاً وعبقريًّا، فهو لا يفعل أكثر من مدِّ يد العون إلى سيرورة طبيعية. للنبتة طبيعتها الخاصة: فهي تنمو بمقتضى قوانين محددة، بحسب سيرورة متضمنة في برنامجها الجيني: لا يمكن لنا أن نحصل على بلوطة من حبة قمح، ولا على تينة من بذرة كرز؛ إذ إن كلاً منهما ينمو بحسب السيرورة التي تنطوي عليها البذرة. انظروا إلى بذرة التين ما أصغرها! إنها تكاد ألا تُرى بالعين المجردة، لكنها تحوي إمكانية أن تصبح شجرة ضخمة تستظل بها جحافل من الناس. هذه القدرة الكامنة توجد في كل بذرة، ويقتصر دور المُزارع على مساعدة هذه القدرة الطبيعية على التفتح، وذلك بدراستها ومحاولة تفهُّم سيرورات عملها.

كثيرًا ما تدور نقاشات – عقيمة في الغالب! – حول الأهمية النسبية لكلٍّ من "الطبع" و"التطبع": هناك مَن ينادي بترك الطبيعة تعمل بمطلق الحرية؛ وهناك أيضًا مَن يعتقد بضرورة تطبيق قوى خارجية "تطبِّع" القوى الداخلية وتحل محلها. الزراعة تعني إمكانية وجود قوى خارجية يمكن لها أن تلعب دورًا في عملية إفصاح القوى والعوامل الكامنة عن ذاتها (فلو لم يكن الأمر كذلك لما احتاج المُزارع إلى بذل أي مجهود)؛ لكن كونَ بعض العمليات يتضمن وجود عامل مساعد يشير إلى أن عوامل البيئة والقوى الخارجية تأتلف مع الإمكانية الداخلية؛ وعلى هذا الائتلاف يتوقف نمو النبتة وتفتُّحها. أما التدخل البشري القسري فتكون نتائجه كارثية في الغالب. يروي الحكيم الصيني منشيوس القصة التالية، أنقلها لكم من غير تعليق:

كان في مملكة سونگ رجل عجوز عَجول زرع حقله وأخذ يترقب نمو الأشتال فيه بفارغ الصبر. غير أن الأشتال واصلت نموها الطبيعي وخيبتْ أمل الرجل. وذات يوم، خطر بباله أن يسحب الأشتال إلى أعلى حتى يسرِّع في نموها. أنهى الرجل سَحْب الأشتال كلها، ثم عاد إلى بيته منهوك القوى وقال لذويه: "تعبت كثيرًا من سَحْب الأشتال طوال اليوم، لكن تعبي لم يذهب سدى، إذ أمست اليوم أطول منها بالأمس." ولما سمع ابنه هذا الخبر ذهب إلى الحقل مسرورًا، فرأى الأشتال آخذة في الذبول.

تتجلى الطبيعة من خلال تناغم الداخل والخارج، الباطن والظاهر، في عملية تطورية متصلة الأسباب والنتائج. فمهما تكن الدرجة التي يبلغها التطور في تجليات الحياة، يُعَدُّ الباطن والظاهر خطان متوازيان يتفاعلان تفاعلاً متواصلاً، ويتوقف النمو على طبيعة هذا التفاعل. فالقوى الخارجية، على سبيل المثال، يمكن لها إما أن تثبط القوى الداخلية وإما أن تنشطها.

* * *

يعتقد علماء النفس السلوكيون behaviorists بوجود إمكانية لإشراط conditioning الفرد، بحيث يتصرف بحسب المطلوب منه. ويقوم اعتقادهم هذا على إمكانية تطويع الحيوان: فهُم يُشرطون الحيوانات بمعاقبتها عندما تمتنع عن تنفيذ ما يتوقع منها مروضوها وبمكافأتها عندما تطيعهم. ويتم ترويض حيوانات السيرك على هذا النحو: فالفيل، بجثته الضخمة ووزنه الهائل، يصعب عليه أن يقف على قائمة واحدة؛ لكنه يُساط ويقدَّم له الموز وسائر أنواع المكافآت لينفذ هذا التطويع المخالف لطبيعته. بالطريقة ذاتها، يُجبَر المساجين في معسكرات الاعتقال على الكلام والتصرف وفقًا لرغبة السلطات. ومنه، يتوهم السلوكيون أن بوسعهم، باستعمال قوى خارجية، تطويع البشر على التصرف بحسب ما يُملى عليهم.

ولهذا السبب أيضًا، كثيرًا ما يُظَن، عندما يأتي ذكر الثقافة، بأنها مسألة فَرْض قوالب معينة على الناس – قَوْلَبَتهم – ليس إلا. يمكن لنا، على سبيل المثال، أن نتعلم كيفية التصرف، كيفية التحدث بأسلوب أو بلهجة معينين، ارتداء ثيابنا بحسب الموضة الدارجة في المجتمع، إلخ. إن الطريقة التي تتم التربية وفقًا لها، والتقاليد التي يجد المرء نفسه، منذ ولادته، محاطًا بها، والتعليم الذي يلقِّن الطفل ماذا يفكر وكيف يفكر – هذه العوامل جميعًا تشكل جانبًا من "الثقافة" المزعومة. وبالمثل، فإن التراث – وهو خلاصة التفكير الجمعي للأجيال السابقة – يُفرَض فرضًا على الذين "ينتمون" إليه، فيدخلون في قالبه.

على نحو مماثل، يلعب كلٌّ من التاريخ والعرق واللغة والدين والمناخ الاجتماعي دوره في تكوين أسس شخصية الفرد. وهكذا يتلون تعبير "ثقافة" – عندما يُستعمَل بالمعنى الجمعي – بصبغة إقليمية، قطرية، قَبَلية، دينية، طائفية، متعصبة ومتزمتة غالبًا. من هذا المنطلق، نجد "الثقافة الإسلامية" و"الثقافة المسيحية"، "الثقافة العربية" و"الثقافة الغربية"، إلخ. لقد أضحت الثقافة عامل تفتيت وتجزئة، وكأن مهمة كل ثقافة باتت "منافسة" الثقافات الأخرى! إن كل أمة أو جماعة بشرية تخشى فقدان ثقافتها أو "طمسها" أو "غزوها" لأن كل فرد من أفراد هذه الأمة أو الجماعة يماهي بين هذه الثقافة وبين الأفكار الجمعية التي كونتها "عشيرته" وطريقتهم في السلوك. فالثقافة، لدى كل جماعة بشرية، هي الوسيلة الجماعية للبحث عن الأمان – أكانت هذه الجماعة دينية، عرقية، إقليمية، أو قومية. والفرد نفسه مشروط كذلك من الخارج، لأن ما دعوناه "ثقافة" ما هو إلا مسألة عادات وأذواق مكتسَبة وتقيُّد بقواعد معينة للسلوك.

* * *

يقيم المجتمع، في كل حضارة، أطُرًا ومقاييس (= قوالب) غير قابلة للتبديل؛ وكل مَن يراعي هذه الأطُر والمقاييس، كل مَن يدخل في هذه القوالب، يرتقي على الصعيد الاجتماعي ويُعَد، بنظر الناس، "مثقفًا". قد تكون لحضارة أخرى عادات مختلفة وأساليب ومناهج تربوية (= قوالب) أخرى؛ ومع ذلك، يَعدُّ المجتمع اكتساب هذا "الورنيش" ثقافةً! قد تتضمن كلمة "ثقافة" قدرة المرء على القيام بعدد من الأمور، كأن يكون صاحب ذوق أدبي أو موسيقي، أو يكون متكلمًا بارعًا، فيلمع في المناقشات والمناظرات – ولا همَّ فيما بعد إذا ربط "ثقافته" بمصلحة فردية (أي بـ"الأنا" ego) أو بمنفعة اجتماعية. إنما يجب ألا يغيب عن بالنا أن المصلحة أو المنفعة الضيقة، بما أنها تختلف من شخص لآخر ومن فئة اجتماعية لأخرى، فإن الثقافة، إذا فهمناها على هذا النحو، تعدم أية قاعدة فعل.

* * *

لا يمتُّ عنوان هذا الحديث إلى "التثقف" بأية صلة، لأن التثقف، في الواقع، أمر لا وجود له! فعندما "نتثقف"، أو بتعبير آخر، عندما نزيد من "مركزية الأنا" egocentricity لدينا، لا تكون ثمة ثقافة-زراعة حق، مهما كانت القدرات والمواهب التي ننمِّيها فينا ذات شأن. الثقافة-الزراعة الحقيقية فعل داخلي، بناء باطني للإنسان، يرمي إلى تهذيب شخصيته، كما جاء في بداية الحديث، وإلى ربطه، من خلال كل عمل يقوم به وكل فكرة يفكر فيها وكل شعور يشعر به، بالعالم كله. في وسعنا أن نطبِّق قوى خارجية مختلفة، لكن هذا لا يُعَدُّ ثقافة-زراعة إلا بقدر ما يفيد في نمو النبتة، أي في بث الحركة في العمل الداخلي. ويؤسفني أن أقول إن مَن لم يمعن النظر بعدُ في فكرة انتماء ما ندعوه الـ"أنا" إلى طبيعة الإنسان الحق أو عدم انتمائه لن يتمكن من أن يصبح إنسانًا مثقفًا، لا اليوم ولا في أي يوم!

إن رغبتنا في التثقف – أقول الرغبة ولا أقول الإرادة – غالبًا ما تكون شكلاً من أشكال الأنانية. هي رغبة ليس في التفوق على عامة الناس وحسب، بل ورغبة في نيل منزلة رفيعة بين المتفوقين منهم! إنها تتحول إلى طموح إلى المجد والتميز وإلى إيجاد هوية متفوقة. (جدير بالذكر أن "الطموح" و"الطمع" يشيران إلى دافع واحد، إلى آلية فكرية واحدة، وإنْ يكن على مستويين مختلفين.) وتكون الثقافات الدينية والقومية إلخ بمثابة المعبَر إلى بلوغ تلك المنزلة المنشودة.

* * *

أضحت حاجة "البحث عن هوية" أحد المفاهيم الأوسع انتشارًا في أيامنا هذه، لأنه يؤلمنا أن نكون بلا هوية، أن نكون "لاأحد"‍‍ nobody! فمنذ طفولتنا المبكرة نُشرَط – بل نُبرمَج – على تعلُّم كيف نصبح "أحدًا" somebody! لذا نجد معظم فئات المجتمع تُنشئ أبناءها على تحقيق أهدافها ومطامحها (= مطامعها). وهكذا يقتصر دور الأبناء على تلبية طموح الآباء وأحلام المجتمع ورغباته. نقرأ، بهذا الصدد، في النبي لجبران:

إن أولادكم ليسوا بأولادكم.
إنهم أبناء وبنات توق الحياة إلى ذاتها.
بكم يأتون إلى الحياة، لكنْ ليس منكم […].
لكم أن تمنحوهم محبتكم، ولكن دون أفكاركم،
فلهم أفكارهم. […]
ولكم أن تجتهدوا لتكونوا مثلهم، لكن لا تسعوا أن تجعلوهم مثلكم.
فالحياة لا تعود القهقرى، ولا هي تتمهل عند الأمس.

إن زرع مطامح (= مطامع) الآباء في نفوس البنين يجرِّد التربية من مضمونها الأخلاقي والروحي. فهي إذ ذاك، إذا اقترنت بالعلم، تشير إلى بلوغ هدف اجتماعي وتولِّي منصب مرموق: يجب أن أصبح طبيبًا، مهندسًا، محاميًا، "مسؤولاً" (كذا!) – وإلا فلن أكون نفسي حقًّا. لذا أضحت الثقافة الحقيقية عملة نادرة في مجتمعنا وفي سائر المجتمعات.

* * *

أود هنا، وقد أتيت على ذكر التربية، أن أتوسع قليلاً في مفهومها – بقدر ما يسمح به الوقت المخصص للحديث – لأنها، برأيي، تهدف إلى تحقيق غاية نبيلة وسامية، هي إفصاح صميمي وجوهري عن غاية وجود الإنسان نفسه. فالتربية الحقيقية هي سيرورة تعليم الإنسان معنى وجوده والغاية منه. وليس من معنى لوجود الإنسان وغاية إلا بتحقيق المعرفة والمحبة: تتجلى المعرفة في تعليم الإنسان بأنه قد وُجد في هذا العالم ليعرف وبأن عليه، بالتالي، أن يصرف حياته مفتشًا عن حقيقة وجوده؛ وتتجلى المحبة في تعليم الإنسان بأن وجوده مرتبط بغاية أخلاقية أصيلة فيه، سامية غاية السمو، تتلخص في سعيه إلى تحقيق الحرية والطمأنينة والسلام، التي تتجسد بأنصع صورها في الخدمة والتضحية والعمل في سبيل سعادة الإنسانية جمعاء. الإنسان موجود في المجتمع، مع الآخرين، لأن الإنسان "المجرد" أو "المعزول" غير موجود؛ فوجوده مع الآخرين يشير إلى التضامن والمشاركة والتعاطف، لا إلى الانقسام والمنافسة والتناحر.

هكذا تكون التربية السوية – والثقافة جزء منها – وسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان. لكن التربية في عالم تكنولوجي وإيديولوجي منقسم على ذاته تهدف إلى إشباع نَهَم الإنسان في مجتمع فاسد، إلى إشباع غروره وعنجهيته، وتشير إلى "تربية" شهواته ونزواته من خلال تحصيل المعرفة. ففي حقل العلم، مثلاً، يتعلم الإنسان السعي في اكتساب المعلومات للتزوُّد بمعرفة تقنية، لكنْ دون ربط هذه المعرفة بغاية إنسانية رفيعة. ولعل التعلق بالقومية أو الإقليمية أو الدين، والعمل على توطيد هذا التعلق، أمسى غاية من غايات العلم في شكله الحديث. وجليٌّ أن الإيديولوجيات السائدة لا تدعو الإنسان إلى تحصيل العلم والثقافة إلا لمنافسة الإيديولوجيات الأخرى. لذا يندر أن نعثر على إنسان يتعلم أو يتثقف ليزداد رقيًّا في سلَّم المعرفة والمحبة، أو لأن واجبه الإنساني السامي يستدعي ضرورة المعرفة لأنها وثيقة الارتباط بمعنى وجوده.

ومنه، نرى أن كل ثقافة مقيدة بإيديولوجيا معينة، أو بأية فكرة لا تُعنى بصقل باطن الإنسان ولا تكرِّس المعرفة كوسيلة للتحرُّر وللسمو بإنسانية الإنسان، تؤدي حتمًا إلى النزاع والحروب. إن ربط الثقافة بالإيديولوجيا مسعى مغلوط من أساسه، لكنه، بكل أسف، واقعي: فالواقع يشير إلى أن الثقافة تتضمن، في مفهومها الواقعي الممارَس، فكرة التجزئة والنزاع.

* * *

نحن، إذن، نعبِّر عن "هويتنا" بالانفصال عن الآخرين، بالإصرار على خصائصنا "الفريدة"، بعَزْونا إلى أنفسنا مميزات خاصة، وبالتمسك بثوابنا الخاص. وهكذا، كلما أصررنا على أهمية هوية ما، ازددنا انفصالاً عن بقية الناس: يحاول كلٌّ منا أن يحس بأهميته كفرد، بأنه "أنا"، وأن يُبقي على هذا الإحساس ويحافظ عليه بكل قواه، فيقول: "أنا كذا وكذا…" مع ذلك، تبقى هذه الهوية وهمية، لأنها مجرد صورة من صنع الـ"أنا" نفسها. فواقع أن الإنسان، عندما يشعر بأنيَّته (الفردية أو الجمعية) وقد تقلَّصتْ، لسبب من الأسباب، وانتُقِص من أهميتها، يصاب بالذعر وبالقلق، ويناضل بكل قوته ليعيد إلى الـ"أنا" حجمَها المتوهَّم. يشير كل ما سبق إلى أن الاحتفاظ بهوية ما ثابتة من المحال.

الثقافة، إذن، عاجزة عن تحقيق ما ليس موجودًا أصلاً. فهذه الهوية الزائفة، هذا الإحساس الوهمي بـ"الأنا"، هذا الشعور الزائف بالانفصال، ما هو إلا نتاج للإشراطات المطبقة علينا بفعل التربية المشوهة التي تُعَدُّ الثقافةُ – للأسف – جزءًا منها، كما سلف. ومن هنا تنجم معاناة البشرية، شقاؤها المزمن: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس العنف ويتعمد الوصول به إلى أقصى درجات القسوة وقَهْر الآخرين؛ إنه الكائن الوحيد الذي يحفر قبره بيديه وبأظافره؛ إنه وحده الذي يبني من جهة، ليهدم ما بناه من جهة ثانية؛ وحده الذي يدمر الطبيعة ويستنفد مواردها؛ وحده الذي يستقتل للوصول إلى السلطة والنفوذ ويطلب، في جشع لا يعرف الحدود، أشياء تافهة ليس في حاجة إليها. هذه الرغبة في النفوذ، هذا الجشع، هذه القسوة، تنجم جميعًا عن أفكاره الخاصة التي يروق له أن يدعوها "ثقافة"! ومع ذلك، فهو يأبى إلا أن يتشبث بهذه الأفكار، وكأن حياته نفسها متوقفة على الاستمرار في اعتناقها! هل تعلمون كيف يصيد بعضُ قبائل الزنوج القرود؟

أتذكر – منفعلاً – أنني، وأنا بعدُ طفل، شاهدت عند أحد رفقائي – وكانت عنده آلة عرض سينمائية للأطفال – فيلمًا قصيرًا إلى حدِّ السذاجة، فيلمًا لا تزال صورُه مرتسمة في مخيِّلتي وتستدعي فيَّ ذلك الانفعال الأول إلى اليوم. على ملاءة سرير بيضاء، مثبَّتة بدبابيس على حائط غرفته، رأينا صورًا متراقصة لكيفية اصطياد الزنوج للقرود: يقوم الزنوج بربط قرعة مجوفة إلى نخلة جوز هند، ثم يتوارون بعد أن يلقوا في قاعها بحفنة من حبات الفول السوداني. وما هي إلا هنيهات حتى يظهر القرد، فيحشر يده في عنق القرعة الضيق جدًّا ويقبض على حبات الفول. لكن عنق القرعة أضيق من أن يسمح له بسحب يده منها وهي قابضة على الحبات. فيشد القرد ويشد، ويزعق جزعًا، لكن من غير جدوى. فما قَبَضَ عليه، متوسمًا فيه الغذاء، هو الذي يستبقيه أسيرًا! ثم ما يلبث الزنوج أن يعودوا، فيوثقون الحيوان المسكين ويكسرون القرعة لتخليص قبضته العالقة. وإلى اليوم، لا أزال أتساءل: ما الذي يمنع القرد من فتح قبضته المغلقة على حبات الفول والإفلات من الفخ المنصوب له؟ بربكم، ألسنا نفعل عين ما يفعله القرد عندما نتشبث بركام من الأفكار والمفاهيم والمعتقدات الضيقة التي تغذي فينا وهم الثقافة والمعرفة، بينما لا تفعل هذه في الواقع غير إبقاء عقولنا مأسورة، حبيسة جدران صماء وأفق ضيق؟!

(أدعوكم، بهذا الصدد، إلى قراءة رواية ميخائيل نعيمه اليوم الأخير، حيث نقرأ كيف صرف أستاذ جامعي كبير الساعات الـ24 المتبقية من حياته بعد أن جاءه في منتصف الليل هاتفٌ خاطبَه قائلاً: "قُمْ ودِّعْ اليوم الأخير!")

* * *

يقول أرنولد توينبي: "إن التقدم الذي ندعوه حضارة ليس إلا تطورًا في التكنولوجيا والعلم والتحكم بمصادر الطاقة." هذا "التقدم" المزعوم، إذن، ليس ارتقاءً في سلَّم الفضيلة والأخلاق، لأن الفضيلة والأخلاق لا تنمو مترافقةً مع الشعور بالانفصال عن الآخرين، ولا مع الرغبة في أن نكون "أحدًا"! لنعد إلى مثال البذرة: إنها لا تنمو بفضل عناية المُزارع، بل بفضل طاقة الحياة الكامنة فيها، فتهبنا شموخ السنديان ورقَّة البنفسج. لكن المُزارع إذا أتلف البذرة لن تنمو أبدًا؛ على النحو نفسه، لن ينمو الإنسان إذا احتفظ بصورة "الأنا" الوهمية هويةً وتمسَّك بها وتشبث، أي إذا حاول "زراعة" ما هو غير موجود أصلاً!

الثقافة الحقيقية هي ما يساعد على تجاوز "الأنا"، أو بالأدق، على إدراك وهمها، بحيث تنكسر قوقعتها، فتتسع وتتسع لتشمل الكون بأسره. لقد كتب المفكر الثيوصوفي جيناراجاداشا يقول:

الإنسان المثقف ليس كذلك بفضل نشأته ومحتده، لكن بفضله هو. هكذا يمكن لنا أن نصادف أناسًا لم ينالوا إلا حظًّا يسيرًا من الثقافة والتعليم، لكنهم صقلوا في أنفسهم وجهات نظر تعبِّر عن ثقافة رفيعة، لأن وجهة النظر التي يتبناها المثقف الحقيقي هي مركز ليس هو بذاته، بل هو "أنا" أوسع بما لا يقاس.

الثقافة الزائفة، إذن، تتضمن كوننا مشروطين بإحساسنا الوهمي بالانفصال والتفرُّد؛ إنها كل ما يسعى إلى توطيد إحساسنا بـ"الأنا".

* * *

يتوهم الإنسان أن ذكاءه وقدراته ملك له. لهذا يلتذ كل رجل، كل امرأة، كل طفل، – عن وعي منهم أو عن غير وعي، – بحالة الرضا الذاتي. نحن نحاول دومًا إرضاء أنفسنا بالإحساس بثوابنا؛ وبالطبع، كلما وجدنا تقصيرًا لدى الآخرين، نصير – مباشرةً – أشد إحساسًا بتفوقنا عليهم. وإلى هذا مردُّ استعدادنا الدائم للنقد؛ ولهذا يلذ لنا كشف عيوب الآخرين: إذ إننا عندما نرى ذواتنا خالية من هذه العيوب، يزداد إحساسنا بالتفوق؛ ولهذا نرى "القشة" في عين قريبنا، بينما نعمى عن رؤية "الخشبة" في عيننا، كما يقول المسيح. إن وعينا لحسناتنا وثواباتنا أكبر حجر عثرة أمام تفتُّح الثقافة الحقيقية.

* * *

بذا، ليست الثقافة الحقيقية توطيدًا لإحساسنا بالأنا وبالتفرُّد، بل إدراك نافذ لوهم صورة "الأنا" واستئصال لها من الجذور؛ الأمر الذي يستدعي يقظة كلِّية دائمة. فإذا انعدمت اليقظة، تغيب الثقافة الحقيقية، لتسود "ثقافة الأنا"! محال أن نحصل على حديقة جميلة غنَّاء إذا اكتفينا فقط باقتلاع عشبة طفيلية من حين لآخر؛ إذ يجب علينا ألا نكف عن تكريس انتباهنا بكامله، يقظتنا، وكل ما أوتينا من قدرة، لتحقيق هذه الغاية. بالمثل، يجب علينا أن نولي اجتثاث "الأنا" من أعماقنا اهتمامنا كله، في كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية. فكلما تقلصت حدود "الأنا"، ازداد عمق شعور الإنسان بالطبيعة، بروعة الأصوات والألوان، بطيبة الإنسان، بالنظام وبالتناغم، بالصحة النسبية للأفكار المعروضة أمامه أو بغلطها النسبي، بخصال الآخرين، وبالانفتاح على الكون والحياة، حيثما تجلَّت.

لقد عجز الإنسان عن اكتشاف مغزى وجوده لأنه كرس صورة "الأنا" هويةً له؛ ومع هذا العجز، فقد علاقته المباشرة مع الطبيعة، ففقدت نظرته إلى الأشياء المحيطة به بساطتها وصفاءها، واختل توازنه الداخلي، فراح يبحث عن مخرج، في محاولة منه لاستعادة حالة التوازن تلك – فكانت الثقافة بالمفهوم الرائج هي البديل، بكل ما تتضمن من علم وفلسفة وفن وتراث وتكنولوجيا إلخ. وبذلك تشكَّل لدى الإنسان ميلٌ إلى تنمية قدراته الذهنية، فبات يُكثِر من القراءة، ولا يدع حفلة موسيقية أو معرضًا فنيًّا يفوته؛ صار يسرد آراء الآخرين في الفلسفة والعلم والفن، متهافتًا على قشورها، متناسيًا الجمال الذي يحيط به! يروي تراث بوذية زنْ القصة التالية، أنقلها لكم هي الأخرى من غير تعليق:

كان التلميذ دائم الشكوى لمعلِّمه: "أنت تحجب عني سرَّ الزنْ الأعظم." وما كان ليتقبل نفي المعلم ذلك. ذات يوم، بينما كان المعلم والتلميذ سائرين في نزهة على التلال، صدح طائر يشدو. قال المعلم: "هل سمعت ذلك الطائر يشدو؟" "نعم"، أجاب التلميذ. "طيب، أنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئًا." "نعم"، أجاب التلميذ.

الثقافة الحقيقية، إذن، فعل وعي، ولا قيمة فيها للقشور أو للطلاء الخارجي. إنها ثمرة تربية طبيعية سليمة وتعمُّق في فهم سلَّم القيم الأزلية التي ليست من خَلْق الإنسان: فالفطنة كلها، والجمال كله، والكمال كله في الطبيعة؛ والإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وما يتحلى به من فطنة أو مواهب ما هو إلا وسيلة للإفصاح عن الحقيقة التي تعتمل في أعماقه وتُعَدُّ جميع قوانين الكون كذلك إفصاحًا عنها. إن روائع العالم الحقيقية ليست ثمرة جهود الإنسان، بل هي في الطبيعة نفسها: فلننظر إلى روعة التعايش بين الحشرات والنباتات، إلى هجرات الطيور، إلى الزهرة التي تيمِّم وجهها شطر الشمس، إلى مودة الدلفين، وإلى ظاهرات طبيعية أخرى لا حصر لها، لندرك عظمة عجائب الطبيعة والمعجزات التي تجترحها كل لحظة. أمام ذلك كله، ليست "فتوح" العلم التي يتشدق بها الإنسان إلا ضربًا من لهو الأطفال و"مخدرات معنوية"، على حدِّ تعبير ميخائيل نعيمه، إنْ خدرت شعوره بسموه ونبل رسالته حينًا فلن تخدره إلى الأبد!

* * *

عندما يقر الإنسان بضرورة تخلِّيه عن "الأنا"، عن الصورة الزائفة التي يرسمها عن نفسه، عندما يطلق يده من إسار "حبات الفول"، يصير بإمكانه أن يتحد بكمال يفوق أبعد شطحات مخيِّلته. إذ ذاك فقط يكون الإنسان مثقفًا، لأنه يجعل من نفسه تربة صالحة لـ"الكلمة-البذرة". وعندما يكتشف أنه في الحق واحد مع الكل في الكل، مع الوجود كله، مع القدرة التي تتجلى في روائع الكون، بما فيها نفسه، مع الروح السرمدي الذي منه، به، فيه، وإليه كلُّ شيء – إذ ذاك، بفعل وعيه الكوني، بفعل المحبة التي تصهره في بوتقتها، يبلغ مرتبة الروح. هذا وليس في قاموس الروح كلمة "أنا" أو كلمة "آخر": فالروح لا تعترف إلا بالوجود الكلِّي الذي يتجلى في أشكال لا حصر لها – هذا ما تؤكد عليه الحكمة الخالدة، على اختلاف ظهوراتها التاريخية.

نعم، أيها الإخوة والأخوات، لن يتأتى لنا أن نعي غاية وجودنا ونحققها ما لم نقتلع من أنفسنا كل ما من شأنه أن يوطد إحساسنا بـ"الأنا". لن نكون مثقفين حقيقيين إلا إذا جعلنا من عقولنا وقلوبنا – بل من عقلنا وقلبنا، لأننا واحد في الجوهر – حديقة نزرع فيها من زهور العالم أجملها؛ حديقة يمتزج فيها جوهرنا العميق بجوهر الأشياء كلها، في ألق من نور وفيض من المحبة.


* صياغة نهائية لحديث شبه مرتجَل ألقِيَ في أحد اجتماعات حلقة "الرسالة"، دمشق، 1987.

** كاتب ومترجم؛ محرِّر في مجلة معابر: www.maaber.org.

ينبوع الطاقة الروحية 1 من 2 – ديمتري أڤييرينوس

ينبوع الطاقة الروحية

1 من 2

ديمتري أڤييرينوس

المدرِّسة 1: ما هو شعورك وأنت ترقص؟
بيلي: لا أدري. أحس نوعًا من الارتياح.
أحس أولاً بالتيبس نوعًا ما، لكني حالما
أنطلق… فكأني عندئذ أنسى كل شيء.
و… كأني أختفي. كأني أختفي. كأني
أحس تغيرًا في جسمي كله. ثم تسري
هذه النار في جسمي. أكون حاضرًا فقط.
أطير كالعصفور. مثل الكهرباء… أجل،
مثل الكهرباء.
[1]

كيف لِمَن شاهد بيلي إليوت، فيلم ستيڤن دَلْدري الساحر، أن ينسى صورة ذلك الصبي الموهوب، الملهَم، ذي القدمين المجنحتين، يكاد أن يطير، محمولاً على طاقة هائلة تتدفق من داخله في يُسْر عجيب وتذلِّل على طريق تفتُّح موهبته، واحدًا بعد الآخر، كل عراقيل وسط اجتماعي متخلف يعتبر رقص الباليه "تخنثًا" والملاكمة "رجولة"!

غير أن هناك العديد من الناس ينتظرون أن يأتي أحدهم و"يلهمهم"، يأخذ بيدهم ويقول لهم ما يفعلون وكيف يفعلونه، – وإلا فهم يظلون على قلق و/أو عطالة. ولا نقول هنا إن اللقاء بأناس ملهَمين وملهمين يجب ألا يؤخذ على محمل الجد؛ إنما انتظار مجيء "الإلهام" من الخارج هو ما يؤخذ على أولئك الناس، لأن هذا الموقف السلبي ينطوي، من جهة، على قلة ثقة في موارد الحياة ودروسها المتواصلة، وعلى استخفاف بالقدرات الهائلة الكامنة في الإنسان، من جهة ثانية.

هناك ينبوع دائم من النور الطاقة والإلهام في متناول كل إنسان، ينبوع لا ينضب أبدًا. وهذا الينبوع الذي لا يتناقص دفقُه، لا مع الزمن ولا مع تقادُم السن، بل على العكس يزداد جريانُه حريةً وغزارةً بمجرد أن نتعلم إزالة السدود من مجراه (والأفضل: عدم وضع سدود أصلاً!)، – ينبوع الطاقة والإلهام هذا موجود فينا. على كلٍّ منا أن يكتشف في نفسه هذا الينبوع، هذا الانبجاس الأبدي، وإلا صرنا متكلين على الآخرين لتحفيزنا أو قيادتنا – حتى إن بعضهم يتكل في حياته النفسية على شخص بعينه، فيود أن يكون دومًا في صحبته؛ لكنه، مهما فعل، لا يصبح بذلك أفضل من ذي قبل أو، في أحسن الأحوال، لا يكون التغير فيه ملموسًا.

أين ترانا نكتشف ينبوعًا لا ينضب من الحيوية والإلهام إنْ لم نكتشفه في أنفسنا؟! ألسنا مع أنفسنا دومًا؟ وهل في مقدور المرء أن يهرب من نفسه؟! هذا الينبوع موجود، حاضر هنا – إنما يجب علينا أن نتعلم استمداد ما يكمن فيه من نور وطاقة وإلهام.

* * *

سُئل علاَّمة بوذي: "مَن هو البوذا؟" فأجاب: "الوعي اليقظ…" البوذا ليس الشخص التاريخي (سدهرتا گوتاما) بالضرورة، كما أنه ليس روحًا تحيا في عالم قصيٍّ، محلقة في "وعي كوني" متعال. البوذا حاضر هنا، وهو "أقرب إليه [الإنسان] من حبل الوريد"[2]، بالتعبير القرآني البديع. كلمة "بوذا" Buddha تعني حرفيًّا "مَن حقَّق الإشراق" (من كلمة بودهي buddhi السنسكريتية التي تفيد هذا المعنى)؛ أي أنه "المستنير"، مَن استيقظ وعيُه كاملاً على ينبوع الإلهام والطاقة. إنه، بالمصطلح المسيحي، "المسيح الحي فينا" الذي حرك بولس الرسول ليقول: "ما أنا أحيا بعدُ، بل المسيح يحيا فيَّ."[3] حين سألت سيدةٌ متزمتة المرشدَ الصوفي حضرة عناية خان: "هل تؤمن، مثلنا، بأن المسيح سيعود في آخر الزمان؟"، أجابها: "وهل ذهب يومًا حتى يعود؟!" هذا المسيح في الداخل سُمِّي في التصوف المسيحي بـ"المشير الحكيم الأوحد". وهذه الحقيقة، إذا لم تؤخذ على محمل حصري، حقيقة مطلقة تنسحب على كل إنسان، لأن "الوعي اليقظ"، بالقوة أو بالفعل، هو صاحب المشورة الأوحد في حياتنا. فلننظر الآن إلى الأمر بمزيد من التأني.

مورد الإلهام في كل مكان: كأنْ أشعر بأني ملهَم حين أكون في الطبيعة، حين أسير في البرية أو بين أشجار غابة مثلاً – صحيح؛ لكني لا أشعر بهذا الإلهام فعلاً إلا يوم يكون وعيي منفتحًا، حساسًا، مستقبلاً في حضرة الأشجار والأزهار البرية، حين يكون مصغيًا إلى لغة جوهرها الباطن، وليس إلى مادتها الظاهرة وحسب. فإذا اتفق لي، في يوم آخر، أن أكون مهمومًا أو قلقًا، ينعدم إلهام الأشجار والزهور في نظري. بعضهم لا يرى من الأشجار، مثلاً، غير الحطب! بالمثل، حين يتكلم مرشد أو مُحاضر ملهَم، قد تسري فينا عدوى إلهامه، شريطة أن نكون حساسين، مستقبلين لما يقول، وبالأخص لما لا يقول؛ وبعبارة أخرى، شريطة أن يكون وعينا منفتحًا.

ما هو الفارق بين حال الاستقبال وبين عدمه؟ يتطلب الاستقبال أن يكون الوعي (أو منطقة معينة منه على الأقل) منفتحًا على نحو ما؛ وإذ ذاك يبدو أنه يستمد الإلهام والحكمة في كل مكان ومن كل شيء. أما إذا لم يكن الوعي منفتحًا، فمهما تكلم المرشد أو المُحاضر وقال من الأشياء الملهمة، لن يكون لكلامه أيُّ وقْع علينا ولن يحرِّك فينا ساكنًا. إذا ظن الناس أن الكلام صادر عن شخص متفتح روحيًّا، قد يقولون: "ما أصحَّ ما يقول، أنا موافق عليه!"، ثم لا يلبثون أن "يحرِّفوا الكَلِمَ عن مواضعه" ويطوِّعوه بحيث يتلاءم وآراءَهم وأفكارَهم المسبقة. هذا ما حدث – وما انفك يحدث – في جميع الأديان والمذاهب الروحية والفلسفات العالية. كلنا لا يرى ولا يسمع ولا يفهم إلا ما تعوَّد رؤيته وسماعه وفهمه. إذا لم تبلغ حدة وعينا درجة معينة يستطيع عندها أن يستقبل الإلهام فلن نتلقى أي إلهام يأتينا من الخارج.

* * *

نحن جميعًا، من حين لآخر، مستقبلون لشيء ما – وهذا أمر جيد: نتلقى الإلهام من السير في مكان جميل، من التماس مع إنسان ناضج روحيًّا، من التفكر في حقيقة عميقة تَردُ في كتاب قيِّم، من الجلوس هنيهات في مكان حرام جميل غنيٍّ بالطاقة؛ لكن إلهامنا في هذه الحالات إلهام مؤقت، سريع الزوال. ثم إننا يجب ألا نكثر من الجلوس في "أماكن العبادة"، لأننا سرعان ما ندمنه نفسيًّا إدماننا على التبغ والمسكرات، بحيث يغدو في نظرنا مألوفًا، فيتلاشى "سحرُه" بعد مدة. أما إذا كنا منفتحين، لا على أشياء بعينها، لا على اللحظات التي نقضيها في معبد أو غابة، ولا على كلام شخص بعينه، – إذا كنا في حال انفتاح على السر، فهذا استيقاظ لوعينا لا يحول ولا يزول. قد تتفاوت درجة الانفتاح من شخص لآخر ومن سنٍّ لآخر، لكنْ مهما تكن درجة يقظة الوعي فإن الطاقة تسري. قد نصرف هذه الطاقة، لكنْ بما أنها تسري من تلقاء ذاتها فإنها تتجدد تجددًا مستمرًّا. فلنستمع إلى ج. كريشنامورتي:

لدى غالبيتنا القليل جدًّا من الطاقة؛ ونحن نصرفها في النزاع، في الصراع. نبدِّدها بطُرُق شتى – لا نبددها جنسيًّا وحسب، بل إن جزءًا كبيرًا منها يُهدَر في تناقضنا وفي تجزئة نفوسنا التي تجلب النزاع. والنزاع في الحاصل هو هدر كبير للطاقة. "الڤولتاج" يتناقص. وليست الطاقة الفيزيائية فقط ضرورية، بل الطاقة النفسية أيضًا، مترافقةً مع ذهن يكون عظيم الجلاء، منطقيًّا، سليمًا، غير ملتو، ومع قلب خال من أي شعور كان، من أي انفعال، لكنه مترع بفيض من المحبة والرحمة. وهذا كله يعطي حدةً وشغفًا عظيمين. وأنت في حاجة إلى ذلك، وإلا فلن تستطيع أن تقلع في رحلتك إلى ذاك الشيء الذي يُسمَّى التأمل. تستطيع أن تجلس متربعًا، وتتنفس، وتفعل أشياء عجيبة، لكنك لن تبلغه أبدًا.

نحن نصرف الكثير من الطاقة في أمور تافهة شتى: النزاع، بالطبع، هَدْر للطاقة؛ ولكن إلى جانب النزاع، هناك مَلاهٍ وتَسالٍ عديدة تنهك قوانا: التوافه التي نتفوه بها، الوقائع اليومية الطارئة التي تأسر أذهاننا، ثرثرتنا الذهنية التي لا تتوقف، وهلم جرًّا. إذا فحصنا عن حياتنا اليومية مخلصين، لا بدَّ لنا من رؤية هَدْر الطاقة هذا: الرغبات الصغيرة (كأنْ يطمح المرء إلى تبوأ منصب ما)، أو السعي في نيل التقدير والامتنان، أو ربما الرغبة في لفت نظر أحدهم/إحداهن، الاهتمام لنيل المزيد من الاعتراف بإنجازاتنا، إلخ – وما أكثر الأشياء السطحية التي تستقطب انتباهنا! هذا كله طاقة مهدورة. النزاع، إذن، يستهلك مقدارًا هائلاً من الطاقة؛ وكذلك الاحتكاكات الطفيفة حتى: سوء الفهم، الامتعاض، التعصب للرأي، القلق، المخاوف، الهموم، إلخ. هذا النوع من الطاقة (إذا جاز لنا أن نعتبره "طاقة" أصلاً!) لا يمت إلى الروح بصِلة، لأنه مولِّد لما نتواضع على تسميته بالشقاء؛ إذ إنه يحُول بيننا وبين تذوُّق شيء من السلام والطمأنينة والسعادة. أما الطاقة الروحية فهي، على العكس، تجلب مواهب الروح، حسَّ التناغم، العطف على الآخرين، النقاء، الجمال، الحكمة…

فكيف يمكن لطاقة من طبيعة روحية غير محدودة، لا تزال خبيئة، كامنة، أن تنبجس وتسري سريانًا حرًّا؟ ربما كان علينا أن نبدأ بالتملص من قبضة الجسم وإحساساته. نحن نحسب أن الذهن المشدود إلى المخ هو نحن، فنتماهى معه identify with it. ألا يجدر بنا أن نتساءل إنْ كان الأمر كذلك فعلاً؟ إن هذا الذهن الأدنى (الفكر، وهو غير العقل) هو الذي يحثنا على الاستزادة، على الصراع، فيزرع فينا الخوف. لماذا؟ لأنه يقوم على الذاكرات، على الخواطر الماضية، على الأفكار المسبقة، على الرضوض النفسية المؤلمة التي نخاف أن تتكرر. أما حين تنفد هذه الذاكرات العقيمة والأحكام المسبقة فتتم ولادة جديدة. كل طفل وليد فهو بريء وفاتن لأن الذهن المشدود إلى المخ ليس عبئًا عليه بعد. هذا الذهن ليس قطعًا ينبوع الطاقة الروحية الحق، بل قد يصبح، في أحسن الأحوال، مركَبة vehicle متقنة من مركَباتها؛ غير أنه حاليًّا يستقطب انتباهنا حتى التماهي معه. فهل نستطيع عن التماهي معه فكاكًا؟

تحذِّرنا السيدة بلاڤاتسكيا من أن إشباع النزوات الحسية، وحتى الذهنية، يقود، لا محالة، إلى فقدان القدرة على التمييز. النزوة الحسية غالبًا ما يعزِّزها الذهنُ الأدنى بأن يهيئ سُبُل إشباعها. ففي لحظة الالتذاذ الحسي يتدخل الذهن قائلاً: "أريد المزيد، لا أريد لغيري أن ينال نصيبًا أكبر من نصيبي!" أو حين نطلب الشكر والامتنان على عطاء، نحس بجرح إذا لم يقدِّر الآخرون ما نفعل. فهل نستطيع، على سبيل التمرين، أن نعيش مدة ما من غير أن يشكر بعضُنا بعضًا ونرى ما يحدث؟ ثم لماذا لا نعتبر العطاء فعلاً طبيعيًّا تلقائيًّا؟ لماذا نقتات بما يقول الآخرون عنا؟ لماذا نحرص دومًا على اعترافهم بجدارتنا؟

حسب المرء أن يولي هذه اللحظات من التفكر شيئًا من الانتباه حتى يتبين له في سهولة فراغُ إشباع الرغبة الأرعن من أي محتوى ذي بال. لكنه، عندما يتراخى انتباهُه، سرعان ما "ترجع حليمة لعادتها القديمة"! حس التمييز (بالسنسكريتية: ڤيڤيكا viveka) هو الفحص الدائم عن محتوى أذهاننا وفرز الزائف فيه من الحقيقي نسبيًّا؛ إنه الوضوح الداخلي فيما يتعلق برغباتنا وانفعالاتنا وملذاتنا الحسية ومتعنا الذهنية، وبالتالي، فهم مؤدى العلاقات والعبارات والخبرات من كل نوع.

* * *

في مستهل أوپنشاد إيشا آيةٌ تقول إن "هذا" – أي عالم التجلِّي، الطبيعة، كل ما يتحرك ولا يتحرك، الصخور، الأرض، الجوامد، ما هو غير حي في الظاهر، كما وكل ما يبدو حيًّا ومتحركًا، أنتم، نحن، البعوضة والفيل، كل شيء، – هذا الكون كله مقام قدرة إلهية، طاقة روحية، حاضرة في كل مكان، من غير حدود. وتضيف الأوپنشاد: "اختبرْ بتعفف" – أي لا تندفع للاستيلاء على الأشياء، ماديًّا أو ذهنيًّا؛ فأنت لا تملكها، بل هي مقام "ذاك" الآخر، الحقيقة المطلقة. فلا نكوننَّ جشعين أو نفعيين، كثيرًا أو قليلاً، وبذا يمكن لنا أن نتماسَّ وهذه الطاقة اللانهائية. ومع أن أغلب الناس في عالمنا المعاصر قد لا يستسيغون هذه النصيحة لأنها، على حدِّ زعمهم، تقيد "حريتهم"، لا مناص من وجود خصلة التعفف هذه في السلوك. لقد كتبت السيدة بلاڤاتسكيا:

التأمل، العفة، التزام الواجبات الأخلاقية، الخواطر الحميدة، الأعمال الصالحة، الكلام الطيب، كما وحسن النية حيال الجميع ونكران الذات، هي الوسائل الأنجع لتحصيل العلم والاستعداد لقبول الحكمة الأسمى.

لا يجوز للمرء تجاهُل الحياة الأخلاقية إذا كان يتوق إلى إيجاد هذه الطاقة اللانهائية، منبع كل إلهام. فالحياة اللاأخلاقية هي التعبير عن الذهن المشدود إلى المخ، هي الوعي السطحي للأنيَّة الظاهرة ego، بذاكراتها ومعرفتها ورغباتها وملاهيها، بصلفها ومخاوفها وأمانيها. لذا فعلى حسِّ الأنية (بالسنسكريتية: أهمكارا ahamkāra) أن يتراجع ويُخلي الساحة لشَساعة الحياة. وبحسب كريشنامورتي، لا تأمُّل ثمة من دون "استقامة" rectitude. فلنستعمل الكلمة التي نستحبُّها: التعفف، الاستقامة، الحياة الأخلاقية، الانضباط، ضبط النفس، إلخ – فالكلمة الدالة غير مهمة، بل مدلولها.

لماذا تصر كل مدرسة روحية جديرة بهذا الاسم على التزام الأخلاق؟ – ولا نقصد هنا الأخلاق الاتباعية أو الأعراف السائدة، لأن أخلاقيات شعب بعينه، في عصر أو مجتمع بعينه، قد لا تكون "أخلاقية" فعلاً، بل مجرد "تسوية" تلائم مصلحة وقتية. ما يعنينا هنا هو الأخلاق الحقيقية. فما هو الأخلاقي حقًّا؟ الأخلاقي حقًّا هو ما يمت بصلة إلى وحدة الحياة، إلى اختبار عدم الفصل بين أشكال الحياة جميعًا. تعليم الـراجا يوگا rāja-yoga ("يوگا الملوك") يعتبر الأخلاق أساس التأمل السليم، ولهذا السبب يوصي باتباع ياما yama ونياما niyama (النواهي والأوامر الأخلاقية) قبل الدنو من مجال التأمل. كذلك فإن الدرب المثمَّن إلى الخلاص من الألم في البوذية يقتضي اتباع "العيش السوي"، أي اتباع وسائل الارتزاق الصحيحة التي لا تضر الآخرين، وكذلك "التفكير السوي" و"الكلام السوي" إلخ. وما عظة المعلم الناصري الكبرى على الجبل[4]، التي نفذت إلى قلب المهاتما گاندهي مباشرة[5]، غير زبدة الأخلاق الحقيقية فيما يتعدى الثقافات والأزمنة.

وإذن، فمن غير مراقبة النفس والتزام السلوك الأخلاقي المستقيم، يغدو بلوغُ الطبيعة الروحية العميقة ضربًا من المحال. إذا ظننَّا، على غرار كثيرين، أن التأمل منفصل عن الحياة اليومية فإن مآلنا الإخفاق لا محالة. فهؤلاء يتعاطون "التأمل" عشرين دقيقة صباحًا، ومثلها مساءً، يكررون ألفاظًا بعينها لتهدئة الذهن فينة، ثم يعودون إلى حالهم المزرية بقية الوقت. لكن التأمل الحق هو التماس مع ينبوع الطاقة العميق الكامن في طبيعتنا الروحية. فهل يتاح لنا مثل هذا التماس إذا بقينا أسرى شخصيتنا الظاهرة؟

لا بدَّ لنا من أن نتذكر أن الحياة اللاأخلاقية، السطحية، للذهن المشدود إلى المخ هي علة اضطرابات نفسية لا حصر لها. فلا ننشغلنَّ بهذه العلة المزمنة – علة "الأنية" – لأن من شأن "الأنا" أن تتسلَّل من كل ثغرة في التماسك الداخلي وأن تكدِّر صَفْوَ كل شيء. حين تصادف مرشدًا حقيقيًّا، على سبيل المثال، يعتمل فيها نزاع قتَّال، ترمز إليه شخصيتا كلٍّ من يهوذا الإسخريوطي وديڤدتَّا (التلميذ الذي تآمر على البوذا). بذا فإن الأنية تحوِّل كل شيء إلى مشكلة وتختلق خلافًا حيث لا خلاف، بل مجرد اختلاف. إذا ظللنا على إصرارنا على إهمال هذا الأمر، وشئنا في الوقت نفسه تحقيق السلام والصمت عبر التأمل، فإننا في الواقع نطلب المحال. الأنية والصمت الداخلي كفرسَي رهان، لا يلتقيان. ومنه فمن دون الأخلاق، ثمرة الصمت الداخلي، يستحيل التأمل، أي سلوك السبيل إلى هذه الطاقة العميقة المتجددة.

نسوق مثالاً على ذلك مقطعًا من حوارية مأخوذة من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ للمخرج پيتر بروك (1979)، عن سيرة ذاتية بالعنوان ذاته للمعلِّم الروحي القفقاسي جورج إيڤانوڤتش گورجييف، جاء فيها:

الشيخ الفقير الهندي: گوگو… گوگو… لقد كدحتَ وتألمتَ سنوات طوال، لكنك لم تعرف قط كيف تشتغل على جعل رغبة فكرك تصير رغبة قلبك.
الأمير لوبوڤدسكي:
مَن أنت؟! كيف تعرفني إلى هذا الحد؟!
الشيخ الفقير الهندي: أية أهمية لِمَن أكون أو ما أكون! ألعل الفضول هو علة إخفاق حياتك الكبرى؟ هل هو من القوة بحيث لا تزال تريد أن أشرح لك مَن أنا وكيف أعرفك؟
الأمير لوبوڤدسكي:
… أجل، يا أبتِ، أنت على حق. لقد شهدتُ عجائب كثيرة وسعيتُ في تعليلها، لكن هذا لم يقدني إلى فهم حقيقي. أجل، أنا خاو… لقد فات الأوان… ليست بي رغبة فعلية في الحصول على جواب عن هذا السؤال… أرجوك، صادقًا، أن تغفر لي.
الشيخ الفقير الهندي: لعل الأوان لم يفت بعد. إذا شعرت، بكيانك كله، أنك خاو حقًّا، عندئذ أنصح لك أن تحاول كرَّة أخرى. وسوف أساعدك، على شرط واحد: أن تموت واعيًا عن الحياة التي عشتَها حتى الآن، وأن تمضي إلى المكان الذي سأدلك عليه.

* * *

في عالمنا المعاصر النفعي، آلت فكرة التعفف أو ضبط النفس إلى الإهمال. لكننا إذا فعلنا دومًا على غرار ما يفعل العالم من حولنا، فنحن ضالون روحيًّا لا محالة. علينا، بالطبع، أن نكتشف المقصود من "ضبط النفس". ضبط النفس ليس قطعًا قهرَها أو قمعَها. إن كل جهد ينحو نحو تجاوُز الأنية الظاهرة إلى الإنسان المتحقق يستثير حتمًا مقاومة، لأن مجرد وجود قرار واع بمعرفة النفس يعاكس "الثقالة" la pesanteur (في اصطلاح سيمون ڤايل) الأصلية الملازمة لكل حركة طبيعية. إن الذاكرات تشتمل أيضًا، في بُعدها اللاواعي الجمعي (ك.گ. يونگ)، على ذاكرة الطبيعة الموروثة فينا، بكل ما فيها من غرائز عمياء ("عمياء" بمعنى أنها آليات لا تنقاد لسيطرة الأنية) مافتئت الطبيعة تلبيها منذ تشكُّل أول خلية حية حتى اليوم. لذا فإن كل جهد مبذول لقهرها والتحرر من سطوتها يجابَه بمقاومة مساوية له ومعاكسة في الاتجاه.

هي ذي حوارية ثانية من فيلم لقاءات مع رجال أفذاذ يخاطب فيها الشيخُ متقدِّمُ الدير گورجييف الذي وصل إلى الدير بعد مكابدة عناء طويل:

الشيخ المتقدم: لقد وجدتَ مكانك، يا بني. لقد جئتنا كالحَمَل، لكن لا تنسَ أن فيك ذئبًا أيضًا. أصغ: هل ستكون قادرًا على السماح لهاتين القوتين المتضادتين أن تتعايشا فيك؟ أصغ إليَّ جيدًا، فهذا لن يحصل من تلقاء ذاته. ولا يكفي المرء أن يتفكر فيه، أن يحلم به، أن ينتظر. فالذئب، في أية لحظة، قد ينقض على الحمل ويفترسه. […]

من هنا فإن السيطرة على النفس من قبيل الوهم لأن حيل النفس اللاواعية أدهى بكثير من ذكائنا الذهني. لذا لا يجدي على المدى الطويل قهرُ النفس على فعل شيء، – حيث كلما كان القهر أقوى كان ضغط المقاومة أشد والإخفاق أكثر إحباطًا، – ويجدي "استئناس" الأنية بقبول وجودها وعقد صداقة حميمة معها.

من هنا لا توصي الحكمة أبدًا بإرغام النفس على القيام بأي أمر أو بتبكيتها على كسل أو تقصير. فليبدأ المرء بالحري، كما ينصح گورجييف، باختيار هدف صغير جدًّا يعاكس عادةً من العادات المستحكمة فيه، وليوجِّه نحوه طاقته، في رفق وانتباه، وليكرِّس في سبيله كلَّ ما بوسعه، حتى إذا أفلح في بلوغه تذوَّق شيئًا من فعل الإرادة الحقيقية – صفة الإنسان – وخرج عن تأثير الآليات الطبيعية وتكرارية استجاباتها الغريزية. وبالتمرس على هذه العملية، تتحول الطاقة المختزَنة من هذا الجهد إلى "طبيعة ثانية" تحيِّد ضغط الطبيعة الأولى الموروثة من غير أن تستثير فيها مقاومة تُذكَر. الفرس البرية الأصيلة صعبة المراس في البداية، لكنها حين تُستأنَس تصير رفيقة مخلصة لصاحبها، تستجيب لأقل أوامره وتتفانى في خدمته. النفس هي هذه الفرس.

* * *

الانتباه! – كلمة تُجمِع عليها تعاليمُ الحكمة كلها، قديمها وحديثها. ينمو الانتباه من خلال مراقبة هادئة لكل ما يجري، داخليًّا وخارجيًّا. وليس المقصود هنا المراقبة المحمومة للنفس، بحيث تصير وحدها محلَّ الانتباه، لأن هذا يؤدي إلى حالة من الانكفاء المتشنج. يجب علينا ألا نفقد قدرتنا على الاسترخاء والارتياح والفرح والتناغم. ومنه فإن الأسلوب الأسلم هو الاكتفاء بالرصد العام، للداخل والخارج في آنٍ معًا. فالطبيعة البشرية ليست قابلة للدرس بالنظر إلى النفس مواجهةً وحسب، وإنما بالنظر إلى الطبيعة البشرية بعامة أيضًا. يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من رصد الآخرين في العلاقة، شريطة أن يرصد رصدًا غير شخصي، رصدًا موضوعيًّا، لا بأن يقول، مثلاً: "انظروا إلى فلان، إنه غيور!"، بل برؤية آلية الغيرة كيف تعمل فيه؛ فإذا كانت تعمل على هذا النحو في فلان من الناس فقد تعمل فيَّ على النحو نفسه أيضًا. قد لا تكون الغيرة ظاهرة فيَّ مؤقتًا، لكنها في موقف آخر، أو في تجسد آخر، مادام حسُّ الأنية طاغيًا، ستظهر حتمًا. إن الأهواء والطباع الشخصية كلها ليست إلا فروعًا من شجرة واحدة هي حس الأنية. فقد لا أكون اليوم جشعًا لأنه اتفق لي أن أكون في وضع ميسور، كل ما أرغب فيه متاح لي؛ لكني حالما تنقلب بي الحالُ حتى يُبرز جشعي ناجذيه! لذلك، حين نرصد الآخرين، لا يجوز أن نشير إليهم بالإصبع، بل أن نتعلم منهم ما يمكن أن يحدث لنا نحن أيضًا، أن نتعلم كيفيةَ عمل الذهن وسهولةَ خداع المرء نفسَه. وفي الوقت نفسه، هناك الرصد الهادئ لنور الشمس، للظلال، للعشب، لكل ما هو خارجي وداخلي. فالرصد يشحذ حدَّة الذهن، يبقيه متيقظًا.

* * *

الإصغاء كذلك هام جدًّا، لأنه الوسيلة إلى انفتاح الذهن وإفراغه من محتواه. الأصح هنا من قولنا: "أصغي إلى الموسيقى" – والإصغاء إلى الموسيقى سهل نسبيًّا – هو تعلُّم محض الإصغاء: فن الإصغاء إلى كل شيء – إلى الحياة السارية في الشجرة، إلى كلام الآخرين وإلى المسكوت عنه فيه خصوصًا. فالانتباه يتضمن الإصغاء التام. في مدرسة فيثاغورث في كروتونا، كان المريد المستجد يتعلم، طوال مرحلة تحضيرية تصل مدتها إلى خمس سنوات، لَجْمَ لسانه تمامًا، فيصبح من "المستمعين" akousmatikoi، يحرَّم عليه النقاشُ ورؤيةُ المعلم ومخاطبته مواجهةً، فلا يجاز له الاستماعُ إليه إلا من وراء ستارة، ويؤمَر بالتفكر فيما يصغي إليه وما يتلقاه منه ومن المريدين الناضجين من تعليم[6]. وكان مثل هذا التقليد متبَعًا في المذهب اللاثنوي (ڤيدنتا Vedanta) الهندي أيضًا. ذلك أن الإصغاء التام يُفرغ الذهن من محتواه. والإصغاء في انتباه هو الإصغاء إلى أعماق النفس؛ وهذه يجب الإصغاء إليها لا بالعقل وحسب، بل بالقلب والعقل جميعًا: فهذا التزاوج السرَّاني بينهما في الإصغاء التام هو الذي يمكِّننا من حدس المصدر الذي يأتي منه الكلام ومن معرفة صحة التحقق الروحي للمتكلِّم.

نسوق، بهذا الصدد، حوارية ثالثة من لقاءات مع رجال أفذاذ بين گورجييف والپروفسور سكريدلوف، من جهة، وإخوة من أخوية "سارمُنگ" العالمية، من جهة ثانية:

الأب جيوڤاني: الإيمان لا يوهَب للإنسان. فهو ليس ثمرة الفكر. الإيمان يولد من المعرفة المباشرة. على سبيل المثال، إذا توسل إليَّ أخي نفسه أن أعطيه عُشر فهمي لما استطعت. ذلك أنه يعدم المعرفة والخبرة اللتين اكتسبتُهما إبان حياتي. فكأنك تريد أن تُشبع أحدهم خبزًا بالنظر وحسب!
أحد الإخوة:
ثمة قانون: "خاصية ما يُفهم تتوقف على خاصية المتكلم".
الأب جيوڤاني: في أخويتنا أخَوان: أحدهما يدعى الأخ عقل، ويدعى الآخر الأخ سيز. وهما، مرة أو مرتين كلَّ سنة، يجيئان لزيارتنا، ومجيئهما دومًا حدث عظيم.
أخ آخر:
عندما يتكلم الأخ سيز تخال إنك تسمع شدو طيور الجنة. أما كلام الأخ عقل فهو يكاد أن يكون عكس ذلك: إنه يتلعثم، ولا تتميز كلماتِه. لكنْ بمقدار قوة الانطباع الذي يخلِّفه الأخ سيز فإنه سرعان ما يتلاشى ولا يبقى منه شيء. أما الأخ عقل فهو يكاد لا يترك انطباعًا، لكن ما يقوله يخترق القلب وينحفر فيه.
أخ ثالث:
وهكذا استنتجنا أن مواعظ الأخ سيز مصدرها فكره ولا تؤثر سوى في فكرنا، في حين أن مواعظ الأخ عقل مصدرها كيانه وتؤثر في كياننا.
الأب جيوڤاني: الفكر والمعرفة شيئان متباينان جذريًّا. لذا على المرء أن يطلب المعرفة. فهذه وحدها تقود إلى الله ربِّنا.

في أوپنشاد بريهادارَنيَكا، في أثناء سرد قصة، تُطرح أسئلةٌ من نوع: "كيف يمكن اكتشاف الحق المستتر، الذات الأبطن من كلِّ شيء، الآتمن؟" ويجيب الحكيم المرشد: "يوعى الآتمن Ātman من خلال النظر والسماع والتفكر والتأمل." باتِّباع هذا التعليم في الحياة، في تؤدة ورفق، يأتي الصمت من الداخل. وإذ ذاك قد يتفق للمرء أن يتحدث مع صديق، لكنه يحيا من الداخل في صمت مستتب. ومع المراس، يصير استتباب فترات الصمت أيسر وأكثر طبيعية وتلقائية، ويعكس صمتُ اللسان صمتَ الذهن الأدنى المشدود إلى المخ. إنه الصمت عن الذات المنفصلة، الصمت المحض الذي يُدعى أحيانًا في الأدبيات الروحية بـ"الصمت الأكبر".

* * *

التفكر في مسائل الحياة العميقة جزء من العمل الذي يفضي إلى التأمل. فالمسائل العميقة ذات خاصية كلِّية، والنظر فيها وتدبُّر معانيها يضفي على الذهن صفة مختلفة. لكن معظمنا، حين يهتم لمشكلة جماعية، أو حتى لقضية عالمية، غالبًا ما يفعل ذلك من منظار شخصي وحسب. هناك فارق كبير بين سؤالي: "كيف يمكن لي أن أخلص من الشقاء والأسى؟" وبين سؤالي: "ما السبيل إلى الخلاص من الألم؟" إذا كان ثمة سبيل إلى الخلاص فهو سبيل لجميع الناس؛ ولهذا يجب على مقاربتنا للمسألة أن تكون تفكرًا حقيقيًّا فيها، لا مجرد تفتيش عن مخرج "شخصي" ضيق.

حين أتت امرأة شابة إلى البوذا ضارعةً أن يعيد الحياة إلى ابنها الميت، قال لها: "جيئيني بحفنة من بذور الخردل من منزل لم يمت فيه أحد." وبعد بحث مُضْن، عادت إليه خالية الوفاض. لا، لم يكن البوذا عديم الإحساس، بل كان يشير عليها بالنظر إلى المشكلة من منظار كلِّي، لا من منظارها هي، لا بوصفها "مشكلتها" هي فقط. مشكلة الموت هي مشكلة الافتراق عمَّن نتعلق بهم، أو بالأدق، عن صورتنا عنهم، وهي مشكلة عالمية. فإذا خبرنا الحياة في يقظة أعمق وأشمل، في حساسية ووضوح داخلي أكبر، تمتعنا بغنى داخلي أوفر، بطاقة وبإلهام لا ينضبان، لأن هذين من خواص الذهن المتجدد دائمًا. التجدد الداخلي شيء خارق! وحين يتجدد الذهن يمتلئ بالحيوية ويتصف تلقائيًّا بالفضيلة والطيبة والرحمة.

فلا نكتفينَّ من الأفكار بقشورها الخارجية، لأن الفكرة العالية تحتمل التعمق حتى تخوم الصمت، حتى الاستغراق التأملي. كثير من الناس يطالبون بـ"تعلُّم" التأمل؛ ولعل بينهم أناسًا متعطشين فعلاً إلى الحياة الروحية. ولكن ما المقصود بـ"التأمل" فعلاً؟ وهل يمكن "تعليمه" أو "تعلُّمه"؟

هذا ما سنحاول أن نتلمسه في جزء ثان من هذا المقال[7].


[1] Tutor 1: What does it feel like when you’re dancing?
Billy:
Don’t know. Sorta feels good. Sorta stiff and that, but once I get going… then I like, forget everything. And… sorta disappear. Sorta disappear. Like I feel a change in my whole body. And I’ve got this fire in my body. I’m just there. Flyin’ like a bird. Like electricity… Yeah, like electricity.
From Billy Elliot (2000), by Stephen Daldry

[2] القرآن الكريم، سورة ق 16.

[3] رسالة القديس بولس إلى الغلاطيين 2: 20.

[4] راجعْها في إنجيل متى 5-7.

[5] راجع: قصة تجاربي مع الحقيقة (سيرة المهاتما غاندي بقلمه)، بترجمة منير البعلبكي، بيروت، طب 7: 2007، ص 89.

[6] راجع: أكرم أنطاكي، "أبيات فيثاغوراس الذهبية"، معابر، الإصدار الثاني: http://www.maaber.org/second_issue/spiritual_traditions_1.htm.

[7] راجع الجزء الثاني، سماوات: http://samawat.org/articles/source_of_spiritual_energy_2_dna.

عمل بلا نهاية – ديمتري أڤييرينوس

عمـل بلا نهـاية

ديمتري أڤييرينوس

منزلة الوسيلة من الغاية كمنزلة البذرة من الشجرة.
المهاتما گاندهي

الفعل الذي يحولنا كبشر، الذي يجلب التجديد، الافتداء،
التحول، – سمِّه ما شئت –، مثل هذا الفعل لا يتأسس
على فكرة. إنه فعل بصرف النظر عن تتابع الثواب والعقاب.
مثل هذا الفعل فعل لازمني، لأن الذهن، الذي هو السيرورة
الزمنية، السيرورة الحسابية، السيرورة التجزيئية،
العازلة، لا يتدخل فيه.

ج. كريشنامورتي

ما برح العمل في حياة الإنسان مشكلة. ما برح واحدنا غير قادر على العمل في بساطة، وبالتالي، على حسم مشكلة العمل. كل فعل يقوم به يستغرق فكره، أهواءه، وذهنه. وبما أن هذه متداخلة في ساحة وعيه، فإن العمل يتضمن مسألة الصواب والخطأ، مسألة النتائج الطيبة والنتائج السيئة، ومسألة الغايات والوسائل. وعندما يعيد واحدنا النظر فيما فعل، ينتابه أحيانًا شعور بالندم على أخطاء ارتكبها؛ لكنه في أغلب الأحيان يهنئ نفسه، واجدًا الأعذار والمسوغات تارة، ملقيًا بالمسؤولية أو التبعات على الآخرين أو على "الظروف" تارة أخرى.

ذاكرة الأفعال الماضية تستحضر خواطر وانفعالات عديدة. فكأن لدى كلٍّ منا، في رأسه، مقبرة سرية يحرص عليها، فيوقظ أمواته، بين الفينة والفينة، من سباتهم، يُسِرُّ إليهم بمكنونات صدره، وينتزع منهم كلمات هي أصداء لرغباته، قبل أن يعود ويُلحِدهم من جديد! هناك، بين أشباح الماضي، نعيش جلَّ تلك الفسحة التي ندعوها "العمر".

والإنسان ينظر أيضًا إلى الأمام. إنه يخلع العمل على المستقبل، متخيلاً نفسه قائلاً أو فاعلاً أشياء معينة، متغلبًا على الآخرين، فائزًا بالنجاح، مصححًا الأمور أو جاعلاً إياها مريحة له. وهذا التصور للعمل في مخيِّلته ينطوي هو الآخر على حركة ذهنية معقدة: فقد يغشاه خوف من العواقب المحتملة لاتخاذ مسار معين في العمل؛ أو قد يحدوه أمل وترقُّب؛ أو قد يتناوب هذان الشعوران. وبما أن المرء آمِل حينًا، خائف أحيانًا، ليس ثمة عمل بسيط بساطة الحياة. فما يظنه نتائج طيبة أو سيئة يتوقف على خواطره وانفعالاته: عندما يكون احتمال تلبية رغباته واردًا فإن النتيجة "طيبة"، وإذا خاب أمله فإن النتيجة "سيئة". النتيجة، إذن، مرتبطة بالنوازع في الداخل، بالأمزجة العابرة العديدة، بالرغبات، وبأماني التحقُّق الذاتي. ومنه، فإن العمل يتداخل مع كل ما يحتدم في دخيلة النفس؛ فلا يمكن للعمل الخارجي أن ينفصل عن الشروط الذهنية والانفعالية الداخلية.

* * *

المجتمع البشري معقد؛ والعمل يعني التماشي مع ذلك التعقيد. هناك قوى لا عدَّ لها فاعلة في البيئة المحيطة بنا: التوجُّه الطائفي أو العقائدي لمجتمع معين، التقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة، نوعية التربية التي يتم تلقينها للأفراد، الضغوط الأسرية، وهلم جرا. وهذه القوى ليست منسجمة أو متناغمة: فهي تتنازع الفرد في اتجاهات مختلفة وتضغط عليه من زوايا عديدة. والعمل يعني الاستجابة الآنية وسط هذه القوى كلها.

الفعل الصادر عن أحد الأفراد يحرض ردَّات فعل من البيئة ومن المجتمع البشري المحيط به؛ وقد تكون ردَّات الفعل، من وجهة نظره، مواتية أو غير مواتية. ومنه، يكاد التوقع المسبق لردَّات الفعل على عمل معين أن يكون متعذرًا. ومجال الفعل هو سيرورة عمل الفرد المحرِّض أفعالاً من العالم الخارجي، كما أنه سيرورة هذه القوى الفاعلة في المجتمع والمتطلبة استجابات من الفرد. ولأننا نحيا في عالم معقد، مترابط، متشابك (كما بات يعي ذلك العديد من العلماء والإيكولوجيين واختصاصيي البيئة)، ليس ثمة فعل ليس في الواقع تفاعلاً.

هناك دومًا تفاعُل، حتى مع عناصر الكون غير البشرية، لأن عملنا يولد عواقب محتمة تؤثر في الخارج، كما بتنا نتبيَّن ذلك الآن. إننا، على سبيل المثال، ندمر أشجار غابات العالم – رئة الأرض – بسرعة مخيفة، وأغلب الناس ليسوا على دراية مباشرة بعواقب ذلك؛ نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو تتزايد، بينما تتناقص كمية الأكسجين، بحيث سوف يصل بنا الأمر قريبًا إلى عسر في التنفس؛ إلخ.

لسنا على ترابُط مع البيئة الطبيعية وحسب، بل ومع البيئة البشرية كذلك، مع الخواطر والانفعالات، ومع "جو" العالم بأسره. لذا فإن الفرد كثيرًا ما يجد نفسه مكرَهًا على اتخاذ توجُّه بعينه بتأثير الجو النفسي المحيط به، بسُحُب الخواطر والمشاعر السابحة حواليه، بـ"الهالة" الوطنية أو القومية، إذا جاز التعبير، أو بالمناخ الطائفي الذي يطوِّقه. فلئن كان الناس، في ألمانيا النازية مثلاً، قد قبلوا الانصباب في قالب جعل بعضهم يفعلون – طوعًا – أمورًا فظيعة، هذا ليس لأنهم كانوا مختلفين عني وعنك، بل لأن الجو السائد في بلادهم آنذاك كان يؤثر فيهم سلبًا ويدفعهم في هذا الاتجاه.

من المهم، والحالة هذه، أن ندرك بأننا نحيا في حقل معقد من العلاقات المتعددة الأبعاد – أو من السببية المتعددة multiple causality، إذا جاز القول، – لأن الحياة شبكة متواشجة من العلاقات. ومع أننا لا ندرك بحواسنا قسطًا كبيرًا من هذه العلاقات، فإن بوسعنا، إذا حرصنا قليلاً على الرصد والاستشعار، أن نتأكد أن مثل هذه العلاقات موجود فعلاً. وبما أننا جزء من تلك الشبكة الكلِّية من العلاقات المتبادلة – انفعاليًّا، فكريًّا، وعلى المستوى الحواسي أو الجسماني – فإننا لا نستطيع أن نبقى منعزلين، مهما فعلنا.

هناك وقائع معينة مثيرة للاهتمام سلَّطتْ عليها الضوءَ الأبحاثُ العلمية الجارية حاليًّا. يقال، على سبيل المثال، إننا، على كوننا نظن أننا "نملك" أبداننا وأن البدن عبارة عن واحدة قياسية، فإنه في الواقع عبارة عن مستوطنات من الكائنات الحية المجهرية غير المرئية، بحيث إن من حقنا أن نتساءل جديًّا عما إذا كان بدننا "لنا" أصلاً، أم أنه في الواقع تكتُّل من مستوطنات كائنات أخرى! وهذا يبين طبيعة العلاقات التي نحيا فيها من دون أن نعيها. لكن ثمة أمرًا واحدًا لا ريب فيه، وهو أن العزلة مستحيلة لأننا جزء لا يتجزأ من شبكة متواشجة.

والقعود عن العمل أيضًا من المُحال، لأن هناك حركة وتغيرًا مستمرَين في شبكة العلاقات. إننا قد نتذهَّن حالة البقاء "على حدة"، أو الهرب، أو التغير، لكن إمكانية السكون أو الانعزال غير واردة أصلاً. فما نتخيله هربًا إلى السكون هو في الواقع نوع مختلف من الفعل متولد عن الخوف وعن الرغبة في تجنُّب شيء ما خارجنا أو داخلنا؛ وهذه الرغبة في الهرب تجعلنا ننكفئ على أنفسنا ونزعم أننا نستطيع أن نتنحى جانبًا. لكن الفعل الناجم عن الخوف أو عدم الأمان ليس قعودًا عن العمل. هنا نتذكَّر الآية الشهيرة في الـبهگڤدگيتا:

ولا حتى لبرهة قصيرة يمكن لأحدهم أن يلبث قاعدًا عن العمل؛ كل واحد منقاد حتمًا للعمل بفعل الخواص المتولدة عن الطبيعة.

* * *

أذهاننا نتاج لمؤثرات لا عدَّ لها… هناك أولاً تأثير البيئة: الذهن يتغير بحسب ما إذا كنا في بيئة صعبة أو أخرى سهلة. فالذين يعيشون في أرض خصبة قد يميلون إلى الكسل: حسبهم أن ينثروا البذار بلا اكتراث فينمو المحصول من تلقاء ذاته.

هناك أيضًا عوامل البيئة البشرية: موروثنا العرقي يَسِمُ أذهاننا باستعدادات وبميول معينة. هناك، على سبيل المثال، التصنيف العريض المطروح (المبالغ فيه قطعًا) القائل بأن الإنسان الغربي ميال بطبعه إلى الموضوعية objectivity، في حين أن ذهن الشرقي أميَل إلى الذاتية subjectivity. لكن الخصائص العرقية، تأثير التعليم، نمط التربية الذي يُنشِئ عليه الوالدان أبناءهما، التأثير المبكر للمدرسين، إلخ – هذه العوامل كلها تسهم بقسطها في تشكيل الذهن. يقال إن الطفل في سنيه الأولى، حتى قبل أن يتعلم الكلام، يكون قد تشرَّب أنماطًا متنوعة من المواقف والسلوك. فالوالدان الحريصان حرصًا مَرَضيًّا على أن يصير طفلهما "ناجحًا" يلقِّنانه – وهو بعدُ أصغر من أن يتكلم أو يقرأ – كيف يصير تنافسيًّا. ومنه فإننا، على غير علم منا، مشروطون، مقيَّدون، منذ حداثة سنينا.

إلى جانب كل ما تقدَّم، فإن تجاربنا السابقة، المصاعب التي قاسيناها، الملذات التي تمتعنا بها وردَّات فعلنا عليها، رغباتنا وخيباتنا، إلخ، تؤثر في الذهن تأثيرًا لا ينقطع. فهي، وغيرها من العوامل النابعة من الذهن نفسه، تلون الذهن وتوجهه: "لون الماء من لون الإناء"، كما يقول ابن عربي. كلما قال واحدنا، على غير تمعُّن، "هذا عقلي"، "هذا أنا"، "هكذا أشعر"، فهو لا يعي أن شعوره ليس بالضرورة شعوره فعلاً، بل هو ما تشكَّل في ذهنه، أو بالأدق، ما تقولب ذهنُه على الشعور به من خلال مؤثرات شتى، ليست حميدة كلها. الذهن نتاج العديد من العوامل التي تشكِّله، تقلِّصه، وربما تختزله إلى جملة إشراطات قاتلة. ونحن، إذ لا نعي هذا الخطر، نتصرف ونحاول أن نحرز نتائج – نصنِّفها إلى "طيبة" أو "سيئة" – من شأنها أن تستجلب سلسلة من العواقب الأخرى غير المتوقعة، وذلك لأننا نحيا في حقل من السببية المتعددة.

بذا فإن النتيجة هي عاقبة عملية تشكيل أو قولبة (هي غالبًا مشوِّهة) يتعرض لها الذهن؛ وهي أيضًا نتاج ماضيه: الهدف يُخلَع على المستقبل، لكن مصدره هو ماض سحيق غير مَوْعي. إننا، ونحن نفكر وحدنا، نمارس تمييزًا واختيارًا في الحاضر قد لا يكون هو الأصلح لنا. (لقد كان على حق من قال إن الآلهة إذا شاءت أن تقتص من أحدهم فإنها تستجيب لصلواته!) فعندما يسعى أحدهم لاستجلاب "خير"، قد يكون هذا من قبيل الحمق المحض ومجلبة لمآس لا تنتهي. إن الأشياء التي يسعى إليها الناس قد تبدو في الظاهر خيرة، لكنها في الواقع تُنتِج غير ما يتوقعون، وربما عكس ما يشتهون. فكما قال أفلاطون في الجمهورية، يفكِّر الجميع ويتصرف من وجهة نظر ما يعتبره خيرًا (حتى عندما يقترف أحدهم جريمة ويؤذي بعض الناس فإنه يظن أنه يجلب خيرًا على نفسه!). والنتيجة ما هي إلا استجابة لأوهام الذهن أو لقصوره عن الإحاطة بأبعاد القضية التي يتناولها كافة.

المجتمع والفرد، على ما رأينا، لا يني الواحد منهما يفعل في الآخر ويردُّ عليه الفعل. ومنه فإن ما يظنه الفرد هدفه، الغاية التي يرمي إليها، هو في الواقع ما تَبرمَج عليه ذهنُه. هناك علماء نفس ومفكرون آخرون باتوا يؤكدون على أهمية إعمال الخيار. لكن الذهن الذي شُكِّل وبُرمِج على أن يكون ما هو عليه غير قادر في الواقع على إعمال أي خيار بتاتًا. فما نظنه "خيارًا" هو شيء معيَّن سلفًا؛ إنه نتاج الشرط الحالي للذهن وللمؤثرات التي تعرَّض لها في الماضي. إن شخصًا يرمي إلى هدف بعينه يتخيل أن ذهنه يتصف بالجلاء؛ لكن هدفه، في الواقع، هو هدف المجتمع الذي يعيش فيه: اليهودي، المسيحي، المسلم، الهندوسي، البوذي، الشيوعي، كل امرئ، ضمن حدوده الضيقة، يظن أن لديه هدفًا واضحًا، لكن ذلك الهدف المفترَض، في جملة "طموحاته" و"أطماعه" (مترادفتان = رغباته)، هي جزء من "برنامجه" الذهني ليس إلا.

فما الذي يجعل النفس البشرية بهذا الاكتظاظ بالأهداف؟ – سياسية، دينية، اقتصادية، اجتماعية، شخصية، أسرية، إلخ. ألم ننشأ على الاعتقاد المشروط بأن لا مناص لنا من اتخاذ أهداف لحياتنا ومن السعي إلى بلوغها؟ لعل المجتمع الذي نوجده بمجموعنا هو الذي جعلنا نظن بأن هذا جزء أساسي من الحياة، لا تكتمل من دونه. والغايات التي نسعى في تحقيقها قد تكون مجرد نتاج للتجربة الفردية والجماعية التي قد تكون مفجعة في خيبتها. والإنسان، إذ يحصد ما يظنه عِبَر التجربة ودروسها، – الذكريات، البغض، الأحكام الاعتباطية، الرضوض النفسية، إلخ، – يولد في نفسه دوافع تحضُّه على بلوغ "غايات" محددة.

في جملة هذه الدوافع لا توجد الأفكار المتشكِّلة من جراء المؤثرات والانفعالات وردَّات الفعل المختلفة وحسب، بل والمواقف المجيَّرة لحساب المنفعة الشخصية والدافع البدائي للبقاء الذي فُطِرَ عليه الدماغ. ذلكم هو ميراثنا "الحيواني" الذي يتخذ أشكالاً معقدة عديدة في المجتمع الحديث، بما يسوِّغ طروحات الدارونية الاجتماعية. إن ما نظنه دافعًا طيبًا ليس، في الأعمِّ الأغلب، أكثر من طريقة مواربة للخلع (= الإسقاط) الذاتي self-projection. جميع الدوافع، بما أنها متناقضة، دوافع شخصية، – يحاول كلٌّ منها إنجاز شيء لمنفعته الخاصة، لمنفعة أسرته، أو فئته، أو طائفته، إلخ، – ومن شأنها أن تولِّد التوتر والنزاع.

* * *

عندما نعيش تسوقنا الدوافع وحسب لا نحصد إلا الإرهاق. فحيثما وُجِدَ طموح، رغبة في الإنجاز، هدف ينبغي بلوغه، نجد الإنهاك المتواصل. عندئذ يتبلَّد الذهن، يتثلم، إذا جاز التعبير، ويصير أقل حساسية. يقال إن أنسجة الدماغ نفسها تتدهور من جراء الإنهاك؛ وتحميل هذا الجهاز البديع الحساس بالذاكرات، بالمعلومات العقيمة، وبالانفعالات السلبية من شأنه أن يسرِّع في عملية التدهور هذه.

والذي يحدث، في أغلب الأحيان، أنه كلما اشتدت الرغبة في بلوغ غاية ما واستأثرت بالطاقة النفسية الإجمالية للفرد، تناقَص جلاء الذهن وحساسيته. عندما يوظِّف الفرد طاقته كلها في محاولة الحصول على ما يشتهيه فإنه لا يعبأ بأي شيء آخر ولا يلحظه في الأصل حتى. فـ"العلماء" الذين يقومون بأبحاث علمية متقدمة غالبًا ما يكونون غير مبالين بمجال توظيف المعرفة الحاصلة وبكيفية استعمالها لاحقًا. قد تكون النتيجة قنبلة نووية تقتل ملايين الناس، لكن مثل هذا "العالِم"، – والعلم المعرفي منه براء! – المسئول عن وضع هذه المعرفة موضوع التطبيق خدمةً لإجرام دولة منظَّم، لا يبالي بنتائج عمله. المواد الكيميائية قد تدمِّر الأرض، لكن هذا الأمر لا يخص مخترعها.

روى لنا صديق كبير تابع تحصيلاً علميًّا في البرمجة المتقدمة في الولايات المتحدة أنه تلقى عرضًا مغريًا جدًّا للعمل لصالح البحرية الأمريكية، لكنه رفض بدافع أخلاقي محض. في المقابل، عندما سأل هذا الصديق زميلاً له مهندسًا عمل لصالح الجيش الأمريكي في ڤيتنام عما ساقه إلى قبول هذا العمل، كان جواب هذا الأخير بالحرف الواحد: "إنه عمل كأي عمل آخر…" "It’s a kind of a job"!

كذلك لا يبالي الباحثون بتعذيب ملايين الحيوانات في التجارب "العلمية" التي يقومون بها. بل إن بعضهم لا يتورع عن التصريح بأن الحيوانات لا مشاعر لها! – مع أنه حسب المرء أن يراقبها، فيشعر بفرحها عندما تستقبله، بالوفاء والعطف اللذين تبديانهما، لكي يدرك بأن شعورها يفوق شعور الكثيرين من البشر ووفاءهم!

يتذكر كاتب هذه السطور سني الدراسة الأولى في كلية الطب، حيث كان الطلاب في مختبر الفسيولوجيا يلقَّنون كيفية تخريب الجهاز العصبي المركزي (الدماغ والنخاع الشوكي) للضفدع باستعمال إبرة خاصة، يلي ذلك شق قفصه الصدري وربط قلبه، بعد تحريره من الشغاف، بمقياس تذبذب oscillograph، لكي يروا بأمِّ أعينهم تأثير مادة الأستيل كولين المبطئ للنظم القلبي. وهكذا كانت الآلاف المؤلفة من تلك البرمائيات المسكينة تباد كل عام للتوصل إلى نتائج معروفة سلفًا – هذا عن الضفادع؛ أما مأساة الأرانب في مختبر الفارماكولوجيا فلها قصة أخرى!

المتعصب الطائفي، الإيديولوجي المتزمِّت، السياسي الوصولي، وغيرهم من فئات الناس، لا يقلون عن سابقيهم جورًا وقصر نظر. فعندما ننبهر بهدف ما، ويستبد بنا هاجس الوصول إليه، لا نولي انتباهنا لأي شيء آخر، فنفقد حساسيتنا وقوة ملاحظتنا وشعورنا بالأشياء وجلاء تفكيرنا.

* * *

عندما يكون الدافع قويًّا والرغبة شديدة، تصير النتيجة من الأهمية بحيث إن وسيلة الإنجاز لا تعود مهمة. هكذا جرى قتل ملايين الناس في سبيل بلوغ المجتمع "الشيوعي" الذي زعم المنظِّرون له أنهم يعملون لوضع حدٍّ لاستغلال الإنسان للإنسان! وهكذا شُرِّد مئات ألوف الفلسطينيين من ديارهم حلاً لمشكلة اضطهاد اليهود في أوروبا. إن احترام الحياة ينتفي عندما تكون النتيجة من الأهمية بما يجعل البشر والحيوانات والأشجار والجبال تصير مجرد "أشياء". لم يتورع رَشْ لمبو، اليميني الأمريكي المتطرف، عن القول، في معرض تعليقه على ضرورة حماية غابات الأرض: "الشجرة الجيدة كرسي أجلس عليه!" فالمستقبل، كما يخلعه الذهن، يتطاول بعيدًا، وكل شيء في الحاضر يضحى به في سبيل مستقبل متخيَّل.

عندما تكون النتيجة كلية الأهمية تنفصل الوسيلة عن غايتها. لقد صار الناس يشنون الحرب لإحلال السلام! فهل من شيء يفوق ذلك عبثية ولامعقولية؟! يستمر سباق التسلح (على الرغم من انتهاء "الحرب الباردة") ويتواصل تصنيع أحدث الأسلحة، بينما يتكلم الناس على السلام! ونحن الأفراد نقوم بالشيء نفسه، لكنْ على صعيد شخصي: نقاتل من أجل "تسوية" مشكلة ما. على النحو نفسه، قد يلجأ الأب أو الأم إلى معاقبة الطفل أو تخويفه من أجل مصلحته ومصلحة الجميع؛ لكن الخوف يقهر الطفل، يجعله ينكفئ على نفسه، ويغرس في لاوعيه المخاوف والبغضاء. ذلكم هو النظام المعتمَد في العديد من المؤسسات "التربوية"، في البيوت، وفي كل مكان. والأديان، هي الأخرى، تُشرِط الذهن حتى "تحرِّره"، تحرِّم عليه نعمة الشك المعرفي بحجة "التسليم" للإله! يتكلمون على "آخرة" فيها خلاص ونجاة ونعيم مقيم، ويوضع فيها حدٌّ لكدح الحياة الدنيا؛ لكن الذهن يجب أن يتعطل تمامًا في الدنيا أولاً – يصير أعمى – قبل أن "يتنعم" في الآخرة!

لقد أمست عبثية الفصل بين الغايات والوسائل وعدم أخلاقيته تصفع صفعًا: "محور الشر"، "عدالة بلا نهاية"، "الضربات العسكرية الجراحية"، "الجدار الواقي"، إلخ – كلها تسميات مدروسة تستهدف تقسية القلب بـ"تطبيع" الإجرام. فكيف يمكن للقاسية قلوبهم أن يصنعوا السلام؟! وإذا أجرى الناس تجارب مريعة على الحيوانات وصارت قلوبهم من حجر، أية فائدة يمكن للإنسانية أن ترتجي من ذلك في المآل الأخير؟!

الغاية هي الوسيلة، والنتيجة متضمَّنة في السبب، ولا يجوز الفصل بينهما. لذا فإن الـبهگڤدگيتا – كتاب الحكمة الهندية الخالد – يعلِّم بأن على المرء ألا يهتم للغاية أو للنتيجة:

شأنك أن تهتم للعمل وحده، وليس أبدًا لثماره. فلا تكوننَّ ثمرةُ العمل هي دافعَك إليه، ولا تتعلق كذلك بالقعود عن العمل.

المسألة الهامة هي كيفية إيلاء انتباهنا للعمل، وليس للغاية الواجب بلوغها؛ إذ إن الغاية غير موجودة في الواقع أصلاً. المستقبل غير موجود أبدًا بالفعل لأنه مجرد تصوُّر أو صورة مخلوعة من الذهن، وعندما نكون زمنيًّا في المستقبل فإننا في الواقع نكون في الحاضر. بعبارة أخرى، فإن الأهداف والغايات والنتائج هي من بنات مخيِّلتنا وتنتمي، بالتالي، إلى عالم غير واقعي؛ إنها خلع لبعض مضامين الذهن على شاشة المستقبل. وحدها طبيعة العمل، أخلاقيَّته (نبل دوافعه)، خاصيته، التناغم فيه أو خلوُّه من التناغم، هي الواقع الملموس. لذا فمن الأهمية بمكان أن ندرك بأن الحاضر وحده حقيقي، وبأن كل ما عداه من بنات مخيِّلتنا الشاردة.

فقط من خلال الانتباه المتأني للعمل – ولما ستكون عليه الغاية – يمكن لنا أن نفهم شرط الذهن وطبيعة الدافع (إن كان ظاهرًا ومعقولاً أو دافعًا لاواعيًا حاذقًا). عندئذ يتبين لنا أن الدافع ليس أكثر من خلع ذاتي، أيًّا كان الشكل الذي يتخذه. الرغبة في البقاء، في الأمان، في اللذة، في الإنجاز، كلها نابع من تدخُّل حسِّ الأنية ego (أهمكارا ahamkāra في حكمة الڤيدنتا الهندية) في العمل: من دون تلك الذات الصغرى، ينتفي كلا الدافع والسعي إلى نتيجة في المستقبل. لذا وحدها يجب أن تراعى خاصيةُ العمل في الحاضر، في "الآن".

جاء في الـطاو ته كنگ – كتاب الحكمة الطاوية الصينية: "تناقَصْ، تناقَصْ، واصِل التناقص." وهذا يشير إلى إنقاص المعرفة، التخفيف من تراكم التجارب التي تثقل على الذهن، – وبعبارة أخرى، القيام بما أوصى به ميخائيل نعيمه: "بدأت أتعلم يوم نسيت كل ما تعلمت." كرشنا يقول شيئًا مشابهًا في تصريحه الشهير: "العمل هو من أجل تطهير الذهن، وليس من أجل بلوغ هدف." إن جلاء الذهن لا يمكن له أن يتحقق ما لم يُولَ الانتباهُ كله للحاضر.

* * *

من مشكلاتنا أننا نظن أن انعدام الدافع يعني غياب العمل. نحسب أن العمل لا يتم إلا بوجود حافز على القيام بشيء، على بلوغ غاية أو تحقيق إنجاز. غير أن كريشنامورتي يقول: "في بلوغ الغاية موت." لكننا نتمسك بحركة معينة في الفكر والذهن: فهذه وحدها تمنحنا الشعور بأننا ننجز شيئًا ما.

غير أن العمل الحقيقي قد يكون من طبيعة مختلفة كل الاختلاف. فإذا تسنى لنا أن نرصد أن الدافع والخيار يتكونان فينا، وأن مصدرهما صرَّة الذاكرات والتجارب الماضية التي أطلقنا عليها اسم "أنا"، نجد أن المشكلة تكمن هاهنا، لا في أي مكان آخر. إذ ذاك يتحقق الجلاء في الداخل، ويزول التشويش المعتمل في الذهن، فيتحرر من الضغوط والمؤثرات والإشراطات المختلفة. وعندئذ يصير العمل الحقيقي ميسورًا.

عندما تبث زهرة أريجها، فهذا ليس "عملاً" بالمعنى العادي للكلمة، لأن هذه العملية محض تعبير عن جوهر الزهرة: هو عمل من نسق مختلف، يجمِّل حياة العابرين. وبالمثل، فإن من شأن الذهن المتحرر من كل دافع أو غرض، – الذهن الذي لا يسعى إلى نتيجة، بل يولي انتباهه كلَّه للحاضر؛ – من شأن ذهن كهذا ومن طبيعته أن يطلق في الفضاء المحيط به أريج لاأنيَّته.

ليس للإنسان المستنير من "دافع" بالمعنى العادي للمصطلح. قد يعلِّم أو لا يعلِّم؛ قد يتكلم أو يلزم الصمت؛ كيانه بحدِّ ذاته عمل، وذلك العمل بركة تطال كل شيء حي. إنه كالشمس: تشرق بنورها وحرارتها، والكل يحيا بها وينمو. وهو يفعل ذلك بمجرد أن يكون نفسه.

هناك، إذن، عمل فاعل عندما يتحرر الذهن من الرغبة في الأهداف. لكنه عمل مختلف تمامًا عن كل ما عهدناه، عمل ليس مختلفًا عن الوجود being؛ وذاك الوجود وجود عاقل. عندما تنعدم المطامح والأهداف، يسود العقل الأرفع وجلاء الفكر ساحة الوعي. بهذا المعنى يصير الوجود هو العقل، وكل عمل يتم يكون عملاً عاقلاً.

العمل الحقيقي، الفعل الذي ليس مجرد ردة فعل، هو تجلٍّ مباشر للكيان الداخلي. فحيثما يكون الفكر طاهرًا، حاضرًا في "الآن"، لا هدف له ولا غرض، فإن العمل لا بدَّ أن يكون عاقلاً ونبيلاً.

هو عمل لا نهاية له…