التـوحـيـد*
رونيه گينون**
مذهب التوحيد، أي إثبات أن مبدأ كل وجود مبدأ واحد من حيث الماهية، نقطة أساسية تشترك فيها المنقولات الأرثوذكسية كافة – حتى إنه يجوز لنا القول بأن تطابُقها في العمق يظهر حول هذه النقطة بالذات على أوضح ما يكون، مترجَمًا إلى تطابُق في التعبير حتى. فبالفعل، حين تكون المقصودة هي الوحدة يُمَّحى كلُّ تنوع؛ أما حين يتم النزول إلى الكثرة، تظهر اختلافاتُ الأشكال، فتكون كيفيات التعبير نفسها عندئذ عديدةً عديدَ ما تدل عليه، ومن شأنها أن تتنوع تنوعًا غير محدود لتتكيف مع ظروف مختلف الأزمنة والأمكنة. لكن "التوحيد واحد"، كما تقول العرب؛ أي أنه نفسه في كل مكان وفي كل زمان، ثابت ثبات المبدأ، مستقل عن الكثرة والتغير اللذين لا يقدران أن يطالا إلا التطبيقات من رتبة عَرَضية contingent.
كذا فيجوز لنا أن نقول بأنه ما من مكان أبدًا شهد، على العكس من الرأي الشائع، ظهورَ مذهب "شِرْكي" polythéiste حقًّا، أي يقبل تعدُّد مبادئ مطلقة وغير قابلة للاختزال [إلى الوحدة]. فهذه "التعددية" ليست ممكنة إلا كانحراف ناجم عن جهل العوام وقلة فهمهم، عن نزوعهم إلى التعلق حصرًا بكثرة المتجلي: ومنها "الوثنية" idolâtrie بكل صورها، وهي وليدة التباس الرمز بحدِّ ذاته بما هو مخصص للتعبير عنه، وتشخيص personnification مختلف الصفات الإلهية منظورًا إلى كلٍّ منها ككائن مستقل، وهو الأصل الوحيد الممكن لـ"وثنية" فعلية. وهذا النزوع لا ينفك يشتد بمقدار ما نمضي قُدُمًا في انبساط دورة من دورات التجلي، لأن هذا الانبساط نفسه إنما هو نزول في الكثرة، وبسبب من الإظلام الروحي الذي يرافقه حتمًا. لذا فإن الأشكال النقلية الأحدث تاريخيًّا هي التي يجب أن تنص على إثبات التوحيد بأكثر ما يكون من الظهور في الخارج؛ وهذا الإثبات، في الواقع، ليس معبَّرًا عنه في أي مكان آخر بهذه الصراحة وبكل هذا القدر من الإصرار غير الإسلام، حتى ليبدو وكأنه يمتص في ذاته حتى، إذا جاز القول، كل إثبات آخر.
الفارق الوحيد بين العقائد النقلية، بهذه الصدد، هو الفارق الذي أشرنا إليه لتوِّنا: إثبات الوحدة موجود في كل مكان، إنما لم تكن ثمة، في الأصل، حاجة إلى صياغته صياغة صريحة لإظهاره بوصفه أكثر الحقائق وضوحًا، وذلك لأن البشر كانوا آنذاك من القرب الشديد من المبدأ بحيث ما كان لهم أن يغفلوا عنه وما كان له أن يغيب عن أنظارهم. أما الآن، على العكس، فيجوز لنا القول إن غالبيتهم، وقد انخرطوا بكليتهم في الكثرة وفقدوا المعرفة الكشفية بالحقائق من رتبة علوية، لا يتوصلون إلى فهم الوحدة إلا بشق النفس؛ ولهذا تصير من الضرورة، شيئًا فشيئًا، إبان تاريخ البشرية الأرضية، صياغةُ إثبات الوحدة هذا مرارًا وتكرارًا وعلى نحو أكثر فأكثر نصاعة، وإذا صح القول، على نحو أكثر فأكثر إلحاحًا.
إذا أمعنَّا النظر في الوضع الحالي للأشياء، لرأينا أن هذا الإثبات أكثر استتارًا نوعًا ما في بعض الأشكال النقلية، حتى لكأنه يكوِّن أحيانًا جانبها الباطني (على أن تؤخذ كلمة "باطني" بمعناها الأوسع)، في حين أنه، في أشكال أخرى، بادٍ لكل الأنظار، بحيث يصل الأمر إلى عدم رؤية سواه (مع أن ثمة، هاهنا أيضًا، أمورًا أخرى كثيرة، لكنها لا تعود إلا ثانوية حياله). وهذه الحالة الأخيرة هي حالة الإسلام، حتى في وجهه الظاهر: فمذهب الباطن لا يفعل في حالته سوى شرح كل ما هو متضمن في هذا الإثبات وبسط سائر النتائج المشتقة منه؛ وهو إنْ فعل ذلك بعبارات كثيرًا ما تتطابق مع العبارات التي نصادفها في منقولات أخرى، من نحو الڤيدنتا[1] والطاوية[2]، لا مجال لنتعجب من ذلك ولا لنرى فيه أثر "اقتباسات"، هي إلى ذلك مختلَف عليها تاريخيًّا[3]؛ فالأمر هكذا ببساطة لأن الحقيقة واحدة، ولأن التوحيد، على هذه الرتبة المبدئية، كما سبق أن قلنا في البداية، يُترجَم بالضرورة إلى تطابُق في التعبير حتى.
من ناحية أخرى، تجدر ملاحظة – ونحن لا نزال نعاين الأشياء في وضعها الحالي – أن الشعوب الغربية، ولاسيما شعوب الشمال، هي الشعوب التي يبدو أنها تعاني أكثر ما تعاني من المصاعب في فهم التوحيد، من حيث إنها في الوقت نفسه الأكثر انخراطًا من سواها جميعًا في التغير والكثرة. والأمران بالطبع متلازمان؛ ولعل في ذلك ما يعود، جزئيًّا على الأقل، إلى شروط حياة هذه الشعوب: المسألة مسألة مزاج، لكنها أيضًا مسألة مناخ؛ وكل من الأمرين إلى ذلك تابع للآخر، إلى حدٍّ معين على الأقل. ففي بلدان الشمال، بالفعل، حيث ضياء الشمس ضعيف ومحتجب غالبًا، تبدو الأشياء كلها للأنظار ذات قيمة متساوية، إذا جاز القول، وبصورة تثبت إثباتًا بحتًا وجودها الفردي من غير أن تشفَّ عما يتعداه؛ وبهذا، لا تُرى حقًّا، في التجربة العادية نفسها، إلا الكثرة. لكن الأمر على غير ذلك تمامًا في البلدان التي يمتص فيها الشمس[4]، بضيائه الشديد، إذا صح القول، الأشياء كلها في ذاته، فيجعلها تختفي من أمامه مثلما تختفي الكثرةُ من أمام الوحدة، لا لأن هذه الكثرة تنعدم على صعيدها الخاص، بل بالدقة لأن وجودها هذا في حُكم العدم من منظار المبدأ. بذا فإن الوحدة تصير على نحو ما محسوسة: فهذا الوهج الشمسي هو صورة سطوع عين شيڤا[5] التي تستهلك كل تجلٍّ وتحيله رمادًا. فالشمس يفرض ذاته هنا بوصفه الرمز بلا منازع إلى المبدأ ("الله أحد")، واجب الوجود، الغني بذاته عن العالمين في صمدانيَّته المطلقة ("الله الصمد")، الذي تتكل عليه في وجودها ورزقها الموجوداتُ كلها، التي ليست خارجه إلا عدمًا.
إن لـ"وحدانية الله" monothéisme، مع أنها تحدُّ من المعنى بعض الشيء بإيحائها إيحاءً يكاد أن يكون حتميًّا إلى منظور ديني حصرًا، – لـ"وحدانية الله" بالتالي، نقول، خاصية "شمسية" أساسًا: إذ هي ليست "محسوسة" في أي مكان آخر بقدر ما هي محسوسة في الصحراء، حيث تنوُّع الأشياء مختزَل إلى حدِّه الأدنى وحيث يُظهر السراب، في الوقت نفسه، كل ما يقع من العالم المتجلي على صعيد الوهم. هناك، يوجِد ضياءُ الشمس الأشياءَ ويعدمها على التوالي، أو بالأحرى، – لأن من الغلط قولنا إنه "يعدمها" – يحوِّلها ثم يعيد امتصاصها بعد إظهاره إياها[6]. وليس بالوسع إيجاد صورة أصح للوحدة التي تسري خارجيًّا في الكثرة، مع بقائها هي هي ومن غير أن تتأثر بها، ثم تعيد إلى ذاتها، بحسب المظاهر أيضًا، هذه الكثرةَ التي لم تخرج أصلاً من الوحدة قط، وذلك لأنه لا يمكن لأي شيء أن يوجد خارج المبدأ، الذي لا يمكن أن يضاف إليه شيء ولا أن يُحذَف منه شيء، كونه كلية الوجود الواحد التي لا تتجزأ. ففي ضياء بلدان الشرق الشديد، حسب المرء أن يرى لكي يفهم هذه الأمور، فيعقل من فوره حقيقتها العميقة؛ وبالأخص، يبدو من المحال عدم فهمها هكذا في الصحراء، حيث الشمس يخط الأسماء الإلهية بحروف من نار في كبد السماء[7].
جبل سيدنا موسى، 23 شوال 1348 هـ؛
مصر، سيدنا الحسين، 10 محرم 1349 هـ
(ذكرى موقعة كربلاء).
المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس
* Le Voile d’Isis, juillet 1930, pp. 512-516 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 37-43.
** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)
[1] المقصود هو مذهب "اللاثنوية" (أدڤيتا advaïta) أو التوحيد الخالص في الهندوسية. (المحرِّر)
[2] راجع: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)
[3] المقصود هو الرد على رأي بعض المستشرقين القائل بأن التصوف الإسلامي ليس من الإسلام الأصلي في شيء، بل نشأ كمذهب بعد نزوع المجتمع الإسلامي للانصراف إلى الدنيويات واحتكاك تيار الزهد في الإسلام، بوصفه ردة فعل على ذاك النزوع، بالفلسفة اليونانية والرهبنة المسيحية والتصوف البوذي واقتباسه منها. (المحرِّر)
[4] ارتأى المترجم تذكير الشمس، وذلك لثلاثة أسباب: الأول لغوي بحت، باعتبار أن الفرنسية تذكِّر الشمس وتؤنث القمر؛ والثاني متعلق بالرمزية الكوسمولوجية والميثولوجية للشمس كمبدأ فاعل (مذكر)، في مقابل رمزية القمر كمبدأ منفعل (مؤنث)؛ والثالث انسجامًا مع ميثولوجيا الشرق الأدنى القديم التي جعلت الألوهة الشمسية مذكرة (الإله شمش مثلاً). (المحرِّر)
[5] شيڤا هو المظهر المميت من مظاهر الثالوث (تريمورتي trimūrti) الإلهي الهندوسي: برهما، ڤشنو، شيڤا؛ ويمثل برهما نقطة التوازن بين قوة الحفظ والتجديد (ڤشنو) وبين قوة التدمير والإتلاف (شيڤا). ولشيڤا أعين ثلاث، تتوضع ثالثتها عموديًّا في مركز الجبهة؛ وهي ترمز إلى الشمس، القمر، النار الماحقة والحكمة العليا. (المحرِّر)
[6] راجع الهامش السابق. (المحرِّر)
[7] نود هنا، تعقيبًا على كلام گينون، لفت النظر إلى أن الإسلام، من منظار باطني بحت، دين "شمسي" و"قمري" في آن معًا، كونه يربط مواقيت الصلاة – ركنه الروحي بامتياز – بحركة الشمس في القبة السماوية، حيث إن إقامتها هي التي تربط الزمن الأرضي (النسبي) بالزمن الكوني (المطلق) الذي ترمز إليه حركة الشمس، بينما يربط بداية الصوم ونهايته، مثلاً، برؤية الهلال، باعتبار الصوم منسكًا مرتبطًا بالصعيد الأرضي (النسبي) للأشياء، ويتعلق أساسًا بالعمل الداخلي على الجسم والنفس؛ بعبارة أخرى، كل ما يتصل من مناسك الإسلام بالروح (الجانب ما فوق الفردي من الإنسان) مرتبط رمزيًّا بالشمس، وكل ما يتصل منها بالنفس (الجانب الفردي منه) مرتبط بالتقويم القمري وبمنازل القمر. (المحرِّر)