الروحانية العَلمانية – پول پوجول

الروحانية العَلمانية
أو جوهر الدين

پول پوجول

پول پوجول*

 

ما هي الروحانية العَلمانية spiritualité laïque؟ كُثُر مَن يتكلمون عليها ويطرحون وجهات نظرهم؛ بعضهم الآخر يميز بين الدين والأديان وبينها. ولكن ما المقصود منها؟ وهل لها من معنى حتى؟ ما هي ماهيتها؟ وهل لنا هنا أن نحاول التوغل قليلاً في هذا المقترَب الجديد بغية استيضاحه؟

بادئ ذي بدء، يبدو الجمع بين كلمتَي “روحاني” spirituel و”عَلماني” laïque مفاجئًا وغير ملائم. ينتابنا هذا الشعور لأن العَلمانية هي بالضبط الفصل بين المجال الديني وبين المجتمع المدني، وبدقة أكبر، بين السلطة السياسية وبين الأديان المنظَّمة.

لا ينتسب عالَم السياسة (نظريًّا على الأقل) إلى عالَم الدين؛ والمجتمع العَلماني لا يتدخل في مجال الإيمان أو الاعتقاد، وإنْ كان، في المقابل، يحرص على أن تتمكن الأديان جميعًا من التعبير عن نفسها، من غير أن ينحاز عادة إلى هذا التعبير أو ذاك. إنما من الواضح أن الأمور لا تجري على هذا النحو في الواقع وأن لكل فرد ميوله وثقافته ومعتقده أحيانًا. لكن الفكرة الأساسية للعَلمانية هي الفصل بين السلطتين: السياسة في جانب والأديان في الجانب الآخر، من غير تواطؤ جائز ودون خلط بين الأجناس.

العَلمانية، إذن، أشبه ما تكون بمنظومة تبتغي ضمان المساواة بين الأديان، مع إرادة عدم تدخل أيٍّ من الأطراف في شؤون غيره. فإذا أمعنَّا النظر في هذا كلِّه رأينا أننا حين نتكلم على الأديان فنحن بالطبع نتكلم على الأديان المنظَّمة: الكاثوليكية واليهودية والإسلام والبوذية وسواها أيضًا. وبـ”الأديان المنظَّمة” نعني هيكلية ذات تعاليم ومراتب وشعائر ورموز؛ إنها منظومات تتسم بأرثوذكسية رسمية. وبوسعنا أن نبسِّط فنقول إن هذه الحركات تطرح مناهج، طُرُقًا يجب اتِّباعها، مرتبطة بعقيدة متكاملة قائمة على الثواب، الجنة أو النعيم، وعلى العقاب، جهنم وبئس المصير.

يُترجَم هذا في الوقائع إلى ضغط اجتماعي وثقافي ينحو إلى فرض الامتثال للدين السائد والخضوع له. ويرمي ابتكارُ العَلمانية إلى تحييد هذا الضغط وإلى إيجاد سلطة مضادة في وجه كل سيطرة محتمَلة لحركة دينية بعينها.

* * *

هل لنا الآن أن نتفحص المقصود بكلمة “روحي” spirituel؟ الكلمة، كما هو معلوم، هي الصفة من كلمة “روح” esprit التي يشير أصلها اللاتيني إلى معنى “النَّفَس” أو “الريح” spiritus. ومن كلمة “روح” نفقه كل ما يمت بصلة إلى الفكر والذاكرة والمشاعر والعواطف والأحكام، المرتبطة بدورها بالإدراكات والنظريات والأفكار، وباختصار، يمت إلى حياتنا برمتها كبشر. فمن دون “روح”[1] ألا يكون شأننا شأن الآلات المسيَّرة أو، على أحسن تقدير، شأن الحيوانات المحكومة بغرائزها وحدها؟ إن رقي الثقافة ينبع من هذه الحياة الداخلية، من حياة الروح؛ وبوسعنا القول أيضًا إن الفطنة الحقيقية تولد منها.

ولكن هل هذه اللوحة دقيقة وواقعية ومكتملة؟ لقد أبدع البشر قطعًا أشياء مذهلة: لوحات بديعة، منحوتات عظيمة، معابد شامخة؛ عالم الطب يخترع أدوات رائعة، والإنسان يغزو الفضاء؛ إلخ. إنما يجب ألا ننسى الحروب والمجازر والمذابح التي تُرتكب باسم الوطن أو باسم الله. تبدو الهمجية دومًا مبطِّنة للنشاطات البشرية: التنافس، قانون الأقوى، سحق الضعيف واحتقاره، تأليب الأخ على أخيه… نجد هذا العنف، هذا الصراع، هذه القسوة، في كل مكان.

الذهن، إذن، يخلق الثقافة ورقيَّها، لكنه يختلق أيضًا العنف والحروب التي تنخِّر العالم. ونحن نرى أن هذا العنف، الذي قد يكون اقتصاديًّا أيضًا، يسيطر على العالم ويقوده. ذاك واقع لا يمكن الالتفاف عليه: يعيش الإنسان في مجتمع يختلق النزاعات بين البشر ولا يفتأ يعنَف بهم ويدفعهم إلى التوحُّش. ولكن ما هو المجتمع؟ هل هو شيء منفصل عنَّا؟ هل هو كيان يتصف بالاستقلالية، عضوية تعيش بحدِّ ذاتها في معزل عن كلٍّ منَّا؟ ما هي صلتنا مع هذا الكيان؟ نحن أبناء هذا المجتمع، صنيعته، إذا جاز القول، ثقافيًّا، دينيًّا، سياسيًّا، إلخ. وبما أننا أبناء هذا العالم فإن سلوكنا وأسلوب عيشنا يَنتجان من القيم التي يلقننا إياها. ما نحن إلا ممثلون لهذا المجتمع، وما عيشنا غير امتداد له، مع البؤس والويلات المواكبة. الإنسان نتاج مشروط لهذا المجتمع وثمرة له، وهو بأفعاله امتداد للفوضى المستشرية فيه ومعزِّز لها. البيئة تُشرط الإنسان، والإنسان يُشرط المجتمع – تلك دائرة مغلقة، وهي دائرة من العذابات والأوجاع لا نهاية لها.

فهل يستطيع الإنسان أن يكسر دائرة هذا الشقاء؟ هل يستطيع أن يتحرر من إشراطاته؟ بوسع المرء أن يتقبل الشقاء ويتعايش معه، مكتفيًا، من حين لآخر، بالنزر اليسير من الفرح والمودة واللذة المتقاسَمة – حتى إن بعضهم يعتقد بأن الشقاء ضرورة من ضرورات الحياة! فمن أين يأتي هذا الموقف؟ يتقبل الإنسان هذا الشقاء، بمعنى أنه يظن بأنه حتمي، بأن “لا مخرج منه”، وكأنَّ الأجدر به أن يُحسن تقبُّله، بل ينظر في وجود ميزات له. نجد الفنان يقول: “عندما أتألم أبدع كأحسن ما يكون”، ونجد المسيحيين يقولون بأن يسوع، بآلامه وموته على الصليب، افتدى خطايا العالم.

باختصار، يُتقبَّل الشقاء، ثم يقدَّس وتضفى عليه قيمة أخلاقية عظيمة. ولكن، هل نرى ما نحن فاعلون يا ترى؟ هل ترانا نرى لاأخلاقية موقف كهذا؟! إنْ هو إلا جنون مطبق، سمٌّ يُنفَثُ في قلوب الناس. هذا الصنف من المواقف نمطي في إشراط مجتمعنا: هناك شيء غير سوي، لا تلبث حجج مختلَقة أن تجعله مبرَّرًا ومقبولاً، حتى إن الأمر يصل بالقوم إلى القول بأنه مفيد للغاية، وحتى مستحَب، بحيث لا يراد من بعدُ وضع حدٍّ للشقاء، بل تُبتدَع له مزايا، ومن ثم يوصى الناس عمليًّا بأن يشقوا! فهل نرى هذا الانقلاب المتناقض في الموقف؟ بذا تُعظَّم المشكلةُ بدلاً من أن تُحل.

فلنقلْ في حزم إن الشقاء غير مقبول، شأنه شأن العنف والهمجية البشريين. هذه الأمور يمكن لها أن تنتهي، ويجب أن تنتهي حتمًا، وكل موقف آخر من قبيل الجنون وپروپاگاندا العصر.

* * *

أمام هذه المعاينة، إذن، يصبح الإنسان مسؤولاً، فلا يعود يلقي بالملامة على المجتمع. فكل فرد يصنع هذا المجتمع، ونحن بالتالي هذا المجتمع إيَّاه. فماذا يبقى من عمل، والحال هذه، للإنسان الذي يعيش في هذا المجتمع وعليه أن يعمل ويعيل أسرته ويدفع ضرائبه؟ إذا اكتفى بالعمل عملاً سطحيًّا فإن عمله سيكون امتدادًا لهذا المجتمع وحسب واستمرارًا له، كما سبق أن رأينا، وبالتالي، فإن الشقاء سيدوم. إذ ذاك يتساءل الإنسان عن طريقته في العمل وفي رؤية الحياة وتصورها، فينظر في ماهية قيمه، فاحصًا عن طبيعة ذهنه، بخواطره ومشاعره وأفكاره ونظرياته؛ إنه يفحص عنها، لا تقديسًا لنفسه، بل لينظر في مدى صحتها وحقيقتها. هكذا يولد ما يسمى معرفة النفس، أي دراسة آليات اشتغال الفكر والذهن.

إذا شئنا التعمق في هذا كله فلا بدَّ أن نرى أن المقصود ليس رفض الأديان (على سبيل المثال) رفضًا سطحيًّا، مع الإبقاء على أدواتها وصلواتها وأدعيتها وأذكارها وغيرها من المناسك. أناس كثيرون من المهتمين بـ”الروحانية” يقولون إنهم لا يتكلون على الأديان، لكنهم في واقع الأمر يعملون تبعًا للقيم التي وضعتها الأديان إيَّاها. إذا اعتبر المرء أن الأديان المنظَّمة قد ضلت السبيل، فنأى عنها، لوجب عليه أن يعيد النظر جذريًّا في وسائلها في استقصاء الواقع. وأول ما يتبيَّنه المرء هو أنها جميعًا تزعم بأنها اكتشفت طريقًا إلى الحقيقة (كي لا نقول إلى الله): كلها يطرح جملة مذهبية تتيح للمريد أن يدنو شيئًا فشيئًا من الهدف الثابت المنشود؛ إنها تمتلك مناهج متدرجة، ذات مراحل مختلفة وخبرات معيشة ومعتقدات عديدة؛ كما نجد في كلٍّ منها عقائد معصومة لا يجوز الجدال فيها. أما الأديان الشرقية، كالهندوسية أو البوذية، فقد بات التساؤل فيها شكليًّا محضًا ولم يعد يمسُّ بتاتًا أسس الدين نفسها: يتكلم القوم ويتساءلون، إنما فقط للحصول على معلومات تخص العبادة أو الكتب، فلا يبحثون بأنفسهم حقًّا.

من ناحية أخرى، ترمي المناسك في الواقع إلى اكتساب تجارب، إلى اختبار أمور معينة. ولكن ما ماهية هذه المكتشفات؟ هل هي تعبير عن الحقيقة؟ أم أنها ليست غير تعبيرات عن جشع الذهن الذي يتصور نفسه خارقًا؟ الخبرة الوَجْدية expérience extatique، أو غيرها من هذا القبيل، تعطي للذهن شعورًا بالاختلاف، وسرعان بعد الاختلاف ما يأتي الشعور بالتفوق: أي خبرة خارقة هي هذه! إذ ذاك يشعر الذهن بأنه خارق؛ إنه في الواقع يشعر بأنه متفوق على البشر المساكين الذين لا يختبرون ذلك كله!

لكننا إذا نظرنا إلى هذه السيرورة كلها عن كثب فلا بدَّ أن نرى أن هذه “الخبرات” تقابل ما هو متوقَّع في التراث المنقول: إنها تفيد التصديق على صحة تدرُّج المريد على الطريق، تؤكد أن خبرة هذا المرء بالذات متطابقة واقعًا مع ما حدَّده آخرون: العارفون أو الكهنة أو الأساتذة. وبذلك فإن الذي يختبر هذه “الخوارق” يدخل في قالب الموروث، وفي الحاصل، يخضع للمرجعية. فلتعذروني، ولكن أليس هذا ما نسميه “غسيل مخ”؟! يُقبَلُ إشراطٌ ما إيمانًا، ثم تُعاش “واقعية” هذا الإيمان اختبارًا. لكن الواقع ليس الحقيقة. الأديان واقعية للغاية وعديدة، لكن هل هي “حقيقية”؟

* * *

هكذا يتحرك الإنسان، فلا يقبل شيئًا مما يقال له، ناظرًا بنفسه في كل شيء ومتفحصًا صحته. فهل توجد في الإنسان مقدرة على اكتشاف الحق، على فرز الحقيقي من الزائف وعلى رؤية الزائف بوصفه زائفًا؟ حتى يُعرَف إذا كان ذاك موجودًا لا بدَّ من فهم كيفية اشتغالنا، وما هي آلية عمل الفكر والذاكرة، وكيف تولد العواطف والمشاعر. إذا لم نكن ندرك الأشياء إدراكًا واضحًا فما الذي يشوش رؤيتنا؟ وبعبارة شعرية، ما هو هذا “الحجاب” الذي يحجب النور عن الذهن؟

لا مناص لنا عندئذٍ من أن ندرك الأمور بأنفسنا: ماذا يحُول بيننا وبين رؤية الأشياء رؤية مباشرة وبسيطة؟ بذلك يبدأ المرء بالتعلم تعلمًا حقيقيًّا، لا بمعنى مراكمة المعلومات إلى ما لا نهاية، بل يتعلم أن يرى بنفسه، أن يفكك إشراطات الذهن ويضع لها حدًّا. وهذا ليس غير بداية المسعى الروحي: ينظر المرء في طبيعة الخواطر والذاكرة والغرائز، وكذلك في اختلاق المُثُل والآراء الشخصية. ثم، في لحظة بعينها، بعد الانصراف بعض الوقت إلى الدراسة والرصد، يكتشف المرء شيئًا آخر غير حركة الفكر أو الذاكرة. وهذا “الشيء”، الجديد أبدًا، لا يتعارض مع الحياة اليومية، إنما يكوِّن وجهًا آخر لها لا يقع في مجال الفكر والخبرة؛ إنه أشبه ما يكون بولادة صمت شاسع. فأبعد من الذاكرة التي تضيع في ليل الأزمنة، يوجد سرٌّ يبدو أن وجوده يسبق وجود الإنسان والحياة، وهو أشبه ما يكون بنَفَس، روح هو جوهر الحياة نفسها.

* * *

لا بدَّ للمسعى الروحي الأصيل من أن يكون عَلمانيًّا بحتًا، أي حرًّا من جميع التنظيمات أو المرجعيات الدينية. إنه حركة اكتشاف لا توجد إلا في حرية تامة، وهذه الحرية إنما هي جوهر الدين نفسه. وحدها هذه الحرية تتيح للذهن أن يتحرر من إشراطاته تحررًا كليًّا وعميقًا. إذ ذاك يستنير الذهن وينعدم الشقاء.

تريڤو، 22 نيسان 2011


* مفكر ومدوِّن فرنسي مهتم بفكر ج. كريشنامورتي.

[1] تحتمل كلمة esprit الفرنسية معنيَي “الروح” و”الذهن”؛ والمعنى الثاني هو المقصود فيما يلي من المقال، ولهذا سنعتمده اعتبارًا من المقطع التالي. (المترجم)