الروح – رونيه گينون

الـرُّوح*

رونيه گينون**

تبعًا للمعطيات النقلية لعلم الحروف [في التصوف][1]، لم يخلق الله العالم بحرف الألف، أول الحروف، بل بحرف الباء، ثانيها. وبالفعل، على الرغم من أن الواحد هو بالضرورة المبدأ الأول للتجلي، فإن الاثنين هو ما يقتضيه الواحدُ مباشرة، وهو الذي سوف تحدث بين حدَّيه، – كما لو بين قطبَي هذا التجلي المتكاملين، اللذين يرمز إليهما طرفا حرف الباء، – الكثرةُ غير المنتهية للأكوان العَرَضية existences contingentes كلُّها. فالباء، إذن، هو بالذات أصل الخلق، وهذا الخلق يتم "به" و"فيه"، بمعنى أنه في آن معًا "واسطة" الخلق و"محلُّه"، تبعًا لمعنيَيه الاثنين حين يؤخذ كحرف جر. والباء، في دوره القديم هذا، يمثل الروح، الذي يجب فهمه بوصفه الروح الجامع للكون الكلي existence universelle والذي يتطابق مع النور[2] أساسًا؛ وهو يحدث بالأمر الإلهي مباشرةً ("من أمر ربِّي" [الإسراء 85])، وما إنْ يحدث حتى يكون، بمعنى ما، الأداة التي بواسطتها يُجري هذا "الأمرُ" الأشياءَ كلها التي سوف "تترتب" بذلك جميعًا بالنسبة إليه[3]؛ فقبله لا يوجد إذن غير الأمر: إثبات الوجود المحض والصياغة الأولى للمشيئة العليا، مثلما أنه قبل الاثنين لا يوجد سوى الواحد أو قبل الباء لا يوجد سوى الألف. بيد أن الألف هو الحرف "القطباني"[4] الذي صورته بالذات هي صورة "المحور" الذي يتم الأمر الإلهي تبعًا له؛ ورأس الألف الأعلى – وهو سر الأسرار – ينعكس في نقطة الباء، باعتبارها مركز الدائرة الأولية التي تحدُّ مجال الكون الكلي وتحيط به؛ دائرة، إذا نُظِرَ إليها إلى ذلك من جميع الجهات الممكنة في آن معًا، هي في الواقع كرة: الصورة القديمة والجامعة التي تولد منها بالتمايز جميع الصور الخاصة.

إذا نُظِرَ إلى الشكل العمودي للألف وإلى الشكل الأفقي للباء، لتبيَّن أن الصلة بينهما هي الصلة بين مبدأ فاعل ومبدأ مفعول؛ وهذا يتوافق مع معطيات علم العدد حول الواحدية والاثنينية، لا في التعليم الفيثاغورثي وحسب (والاطلاع عليه هو الأوسع بهذا الخصوص)، بل وفي تعليم جميع المنقولات أيضًا. وخاصية المفعولية هذه ملازمة بالفعل لدوره المثنى (كـ"واسطة" وكـ"محل" كلي) الذي تكلمنا عليه لتوِّنا؛ لذا فإن كلمة "روح"، باللسان العربي، كلمة مؤنثة – على أن ننتبه إلى أن المفعول أو السالب بالنسبة إلى الحق يصير، بحسب قانون القياس، فاعلاً أو موجبًا بالنسبة إلى الخلق[5]. فمن الجوهري أن نتدبر هنا هذين الوجهين المتضادين، بما أن المقصود هنا بالدقة، إذا جاز لنا أن نعبِّر على هذا النحو، هو عينه "الحد" الموضوع بين الحق والخلق، وهو "حد" ينفصل به الخلق عن مبدئه الإلهي ويتصل به في آن معًا، وذلك تبعًا للجهة التي يُنظَر إليه منها؛ فهو إذن، بعبارة أخرى، البرزخ بامتياز[6]؛ ومثلما أن الله هو "الأول والآخِر" [الحديد 3] بالمعنى المطلق، فإن الروح هو "الأول والآخِر" بالنسبة إلى الخلق.

هذا لا يعني، بالطبع، أن مصطلح "الروح" لا يجوز أن يؤخذ أحيانًا بمؤديات أكثر خصوصية، كما هي حال كلمة "روح" esprit أو مكافئاتها المتفاوتة دقةً في ألسنة أخرى؛ فهكذا قد تبادَر إلى ذهن بعضهم أن المقصودة منها، في بعض سور القرآن بالأخص، إشارة إما إلى سيدنا جبريل وإما إلى ملَك آخر تنطبق عليه تسمية "الروح" هذه بصفة أخص. وذاك كله قد يكون صحيحًا قطعًا، تبعًا للحالة أو تبعًا للتطبيقات الناتجة عنها، لأن كل ما هو مشاركة في الروح الكلي أو مواصَفة من مواصفاته، أو ما يؤدي دوره من هذا القبيل وعلى مراتب متنوعة، هو روح أيضًا بمعنى نسبي، بما في ذلك الروح بوصفه مقيمًا في الإنسان أو في أي موجود خاص آخر. غير أن ثمة نقطة لا يوليها العديد من المفسرين من أهل الظاهر ما يكفي من الانتباه على ما يبدو: حين يشار إلى الروح صراحة إلى جانب الملائكة تمييزًا له عنهم[7]، كيف يجوز التسليم عندئذ بأن المقصود، في الواقع، هو ببساطة "أحد" هذه الملائكة؟ أما التأويل الباطني فمفاده أن المقصود عندئذ هو سيدنا ميططرون (وهو عينه مِطَطْرون القبالة العبرانية[8])؛ وهذا يتيح، إلى ذلك، توضيح اللبس الذي يقع بهذا الخصوص، بما أن ميططرون يتمثل هو الآخر كملَك، مع أنه حقيقةً، باعتباره مُسْتَعْليًا عن مجال الأكوان "المنفصلة"، شيء آخر وأكثر من ملَك؛ وذاك، في الحاصل، يقابل تمامًا الوجه المثنى للبرزخ[9].

لوحة تمثل كبير الملائكة ميططرون، عامل التجليات الإلهية ومبدأ النبوات.

هناك اعتبار آخر يتوافق تمامًا مع هذا التأويل، وهو التالي: في تمثيل العرش، يقيم الروح في المركز، وهذا المقام هو بالفعل مقام ميططرون؛ والعرش هو محل "الحضرة الإلهية"، أي محل الـشكينه التي هي، في المنقول العبراني، "قرينة" مططرون أو الوجه المتمِّم له[10]. إلى ذلك، يجوز لنا القول حتى بأن الروح يتطابق، على نحو ما، مع العرش بالذات، لأن العرش، إذ يطوِّق العوالم كلها و"يحيط" بها (ومنه نعت المحيط المضاف إليه)، يتطابق مع الدائرة الأولية التي تكلمنا عليها أعلاه[11]. وإننا لنقع هنا أيضًا على وجهَي البرزخ: إنه، من جهة الحق، الرحمن "المستوي على العرش"[12]؛ أما من جهة الخلق، فهو لا يتراءى بمعنى ما إلا منكسرًا من خلال "عدسة" الروح، وهو ما يتصل مباشرة بمعنى حديث النبي: "مَن رآني فقد رأى الحق". وذاك، بالفعل، هو سر التجلي "النبوي"[13]؛ ومعلوم أن مططرون، تبعًا للمنقول العبراني أيضًا، هو عامل "الظهورات الإلهية" théophanies ومبدأ النبوة بالذات[14]، ما يعني، بلغة الإسلام، أنه ليس غير الروح المحمدي الذي ليس جميع الأنبياء والمرسلين فيه إلا واحدًا، وهو الذي، في "الدنيا"، يتخذ تعبيره الأخير فيمَن هو "خاتَمهم"، أي مَن يجمعهم في مختصر أخير هو انعكاس لوحدتهم المبدئية في "العليا" (حيث هو "أول خلق الله": إذ إن الآخِر في النظام المتجلي هو، بالقياس، الأول في النظام المبدئي)، فيكون بذلك "سيِّد الأولين والآخِرين". بذلك – وبه فقط – يجوز فهم جميع أسماء النبي وألقابه بمعناها العميق، بما هي في المحصلة أسماء الإنسان الكامل وألقابه، البرزخ الجامع الذي تجتمع فيه أخيرًا مراتب الكون كلها، مثلما كان يحتويها جميعًا فيه منذ الأصل: "عليه صلاة ربِّ العرش دومًا"!

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Études traditionnelles, VIII-IX, 1938, pp. 287-291 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 54-61.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste لا يزال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] ما بين معقوفتين […] في النص من إضافة المترجم بغية توضيح المقصود. (المحرِّر)

[2] لهذا أيضًا فإن الباء (أو ما يكافئه) هو الحرف الاستهلالي للكتب الشريفة: فالتوراة تبدأ بكلمة براشيت בראשית ["في البدء…"]، والقرآن بالبسملة؛ ومع أنه ليس بحوزتنا حاليًّا نص الإنجيل بلغة شريفة، يجوز لنا على أقل تقدير أن نلحظ بأنه، لو توفر لنا نصُّه العبري، لكانت إذ ذاك الكلمة الأولى من إنجيل يوحنا ["في البدء…"] هي براشيت أيضًا. [لذا جاء في مقدمة هذا الإنجيل عن الكلمة الإلهي: "به كان كل شيء…/ فيه كانت الحياة/ والحياة نور الناس" (1: 2-4).]

[3] من جذر امر אמר يُشتق باللسان العبري فعلُ يامر יאמר، المستعمَل في سفر التكوين للتعبير عن فعل الخلق المتمثل بوصفه "الكلم" [القول] الإلهي. [راجع سفر التكوين 1، حيث يرد فعل "قال…" عشر مرات.]

[4] كما سبق لنا أن أشرنا في غير مكان، ألف = قطب = 111 (راجع: René Guénon, « Un hiéroglyphe du Pôle », Études traditionnelles, mai 1937 ; repris dans Symboles de la Science sacrée, Gallimard, 1962, pp. 113-115)؛ ولنضف بأن للاسم الإلهي أعلى القيمة العددية نفسها [1 + 70 + 30 + 10 = 111].

[5] في القبالة العبرانية، يقابل هذا الوجه المثنى، بمعنى ما، وجه شكينه שכינה، المؤنثة، ووجه مططرون מטטרון، المذكر، كما سيتبين مما يلي.

[6] [يقول ابن عربي: "فكأنه (الإنسان) برزخ بين العالم والحق وجامع لخلق وحق؛ وهو الخط الفاصل بين الحضرة الإلهية والكونية، كالخط الفاصل بين الظل والشمس" (رسالة إنشاء الدوائر، طبعة ليدن، ص 22)؛] راجع: T. Burckhardt, « Du barzakh », Études traditionnelles, décembre 1937.

[7] على سبيل المثال، في سورة القدر، الآية 4: "تنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربِّهم من كلِّ أمر".

[8] هناك خلاف بين الباحثين في القبالة حول أصل اسم "مِطَطْرون" Metatron. فبعضهم يقول بأنه يوناني الأصل: من كلمتَي ميتا meta، "بعد"، وثرونوس thronos، "عرش"، اللتين تعنيان مجتمعتين: "الخادم وراء العرش" أو "المستوي على العرش بعد عرش المجد"؛ وهناك مَن يذهب إلى أن أصله كلمة ميتاتور metator اللاتينية التي تعني "الرسول" أو "القائد"؛ لكن الفرضية التي تهمنا هنا بالأخص هي التي تشتق الاسم من كلمة مطرا mitra الكلدانية التي تعني "مطر"، نظرًا للدور الذي تنسبه غالبية المنقولات إلى المطر كرمز إلى تنزُّل "اللطائف الروحانية" من السماء على الأرض. أيًّا ما كان الأمر، فإن الموروث يفيد بأنه الملَك الذي حال بين النبي إبراهيم وبين ذبح ابنه اسحق (في الرواية التوراتية) أو إسماعيل (في الرواية الإسلامية)؛ ذلك أن قيمة مططرون מטטרון العددية (314) مساوية لقيمة شدَّي שדי ("الشديد" أو "شديد القوى") الذي يقال إنه لقب إله إبراهيم (إل شدي אל שדי). (المحرِّر)

[9] في بعض العبارات الباطنية، يقترن اسمُ "الروح" بأسماء الملائكة الأربعة الكبار الذين مقامه منهم، في النظام السماوي، مقام النبي محمد من الخلفاء الراشدين في النظام الأرضي؛ وذاك يناسب تمامًا ميططرون الذي، إلى ذلك، يتطابق بذلك تطابقًا واضحًا مع الروح المحمدي.

[10] هي النفس الكلية في مذهب ابن عربي، مثلما أن مقابل ميططرون عنده هو العقل الأول أو روح العالم أو البرزخ إلخ. (المحرِّر)

[11] حول موضوع العرش والملَك مططرون هذا، منظورًا إليه من منظار القبالة والملائكيات angélologie العبرانيَين، راجع: Basilide, « Notes sur le monde céleste », Études traditionnelles, juillet 1934 وأيضًا: « Les Anges », Études traditionnelles, février 1935, pp. 88-90.

[12] تبعًا للآية 5 من سورة طه: "الرحمن على العرش استوى".

[13] يجوز لنا أن نلحظ أنه بذلك يجتمع، على نحو ما، تصور النبي وتصور الـأڤتارا Avatāra ["التنزُّل" الإلهي، تجسُّد الإله ڤشنو في المذاهب الهندوسية] اللذان يصدران في اتجاهين متعاكسين: إذ يصدر الثاني اعتبارًا من المبدأ الذي يتجلى، بينما يصدر الأول اعتبارًا من "حامل" هذا التجلي (والعرش هو أيضًا "حامل" الإله).

[14] Cf. René Guénon, Le Roi du Monde, Gallimard, 1958, p. 28.

الفقر – رونيه گينون

الفـقـر*

رونيه گينون**

يجوز لنا التعريف بالكائن العَرَضي l’être contingent بوصفه الموجود غير واجب الوجود بذاته؛ ومنه، فإن مثل هذا الموجود لاشيء بحدِّ ذاته، ولا شيء مما هو إياه يخصُّه بالذات. وتلك هي حالة الإنسان، بوصفه فردًا، كما وحالة جميع الموجودات المتجلية، كائنةً ما كانت حالُها، لأنه مهما يكن الفارق بين مراتب الوجود الكوني فإن هذا الفارق دومًا بحُكم العدم في مرأى من المبدأ[1]. وهذه الموجودات، بشرية كانت أو غير بشرية، هي إذن، في كل ما هي إياه، متكلةٌ اتكالاً تامًّا على المبدأ الذي "لا موجود لما سواه بالحقيقة… فوجودُ الموجودات وعدمُها سيَّان"[2]؛ ووعي هذا الاتكال هو ما تشير إليه بالضبط عدة منقولات بوصفه "الفقر الروحي". في الوقت نفسه، فإن النتيجة المباشرة لهذا الوعي، بنظر الكائن الذي بلغه، هي التجرد من جميع الأشياء المتجلية، وذلك لأنه يعرف مذ ذاك أن هذه الأشياء هي الأخرى لاشيء، وأن أهميتها بكل دقة معدومة بالنسبة إلى الحق المطلق. وهذا التجرد، في حالة الإنسان، يقتضي أساسًا وقبل كل شيء عدم الاكتراث بثمار العمل، كما تعلِّم الـبهگڤدگيتا، وهو عدم اكتراث يفلت به الموجودُ من التسلسل غير المنتهي لعواقب هذا العمل: إنه "العمل عديم الرغبة" (نِشْكاما كرما nishkāma karma)، بينما "العمل المدفوع بالرغبة" (سَكاما كرما sakāma karma) هو العمل المؤدى بقصد نيل ثماره.

بذلك التجرد يخرج الموجود إذن من الكثرة؛ إنه، بحسب العبارات التي تستعملها العقيدة الطاوية، يفلت من تقلبات "تيار الأشكال"، من تناوب أحوال "الحياة" و"الموت"، "التكثف" و"التبدد"[3]، عابرًا من محيط دائرة "العجلة الكونية" إلى مركزها، الذي يشير لاو-تسُه إليه بالذات بوصفه "الفراغ (غير المتجلي) الذي يضم الأشعة ويجعل منها دولابًا"[4]. ويقول لاو-تسُه أيضًا:

مَن يبلغ أقصى الفراغ فذاك يثبت ثباتًا راسخًا في الراحة… الرجوع إلى الجذر (أي إلى المبدأ، الأصل الأول للموجودات كافة وغايتها الآخِرة في آن معًا) هو دخول في حال الراحة.[5]

ويقول لِيه-تسُه:

السلام في الفراغ حال تستعصي على التعريف، لا تؤخذ ولا تُعطى، بل يُتوصل إلى الرسوخ فيها.[6]

هذا "السلام في الفراغ" إنما هو السكينة في التصوف الإسلامي[7]، التي هي في الوقت نفسه "الحضرة الإلهية" في مركز الكائن، الداخلة في الاتحاد مع المبدأ، وهو اتحاد لا يمكن له أن يتم فعلاً إلا في هذا المركز بالذات:

المقيم في اللامتجلِّي تتجلى له الموجودات كلها… إنه، متحدًا بالمبدأ، متناغم، به، مع الموجودات كافة. إنه، متحدًا بالمبدأ، يعرف كل شيء بالعلل العامة العليا، ومن ثَم لا يعود يستعمل مختلف حواسه ليعرف خصوصًا وعلى التفصيل. علةُ الأشياء الحقيقيةُ غير مرئية، لا يُحاط بها، مستعصية على التعريف والتعيين. وحده الروح الذي استعاد مقامه في حال البساطة الكاملة يستطيع بلوغها في المشاهدة العميقة.[8]

و"البساطة" – وهي عبارة عن توحيد قدرات الكائن جمعاء – هي التي يتصف بها الرجوع إلى "الحال القديمة" l’état primordial؛ وإننا لنرى هنا كل الفارق الفاصل بين معرفة الحكيم المتعالية وبين العلم العادي و"الدنيوي" profane. وهذه "البساطة" هي أيضًا المشار إليها في غير مكان بوصفها حال "الطفولة" (بالسنسكريتية باليا bālya)، مفهومةً بالطبع بالمعنى الروحي، التي تُعتبَر في العقيدة الهندوسية شرطًا مسبقًا لاكتساب المعرفة بامتياز. وهذا يذكِّر بالكلام المشابه الوارد في الإنجيل:

مَن لا يقبل ملكوت الله مثل الطفل لا يدخله.[9]
أحمدك يا أبتِ، ربَّ السموات والأرض، على أنك أخفيتَ هذه الأشياء على الحكماء والأذكياء، وكشفتَها للصغار.[10]

"الطفولة" و"الصغر" هنا، عمقيًّا، مكافئان لـ"الفقر"، الذي كثيرًا جدًّا ما يرد في الإنجيل أيضًا والذي يُساء فهمُه للغاية عمومًا: "طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت السموات"[11]. وهذا الفقر يؤدي، بحسب التصوف الإسلامي، إلى الفناء، أي إلى محق "الأنية"[12]؛ وبهذا "الفناء" يتم بلوغ المقام الإلهي، الذي هو نقطة المركز التي يتم فيها تجاوُز جميع التمييزات الملازمة للمنظورات الخارجية، حيث تتلاشى جميع التعارُضات وتنحل في توازن كامل:

في الحال القديمة، كانت هذه التناقضات معدومة. فكلها مشتق من تكثُّر الكائنات (الملازم للتجلي والعَرَضي مثله) ومن ارتباطاتها الناتجة من الدوران الكلِّي (أي من دوران "العجلة الكونية" حول محورها)… وهي تكف من فورها عن التأثير في الكائن الذي اختزل أنيَّته المميزة وحركته الخاصة إلى لاشيء تقريبًا.[13]

هذا الاختزال لـ"الأنية المميزة"، التي تنتهي إلى التلاشي باختصارها إلى نقطة واحدة، هو عينه الفناء وعينه "الفراغ" الذي ورد ذكره أعلاه؛ ومن الجلي، إلى ذلك، بحسب رمزية العجلة، أن تباطؤ "حركة" الموجود يتناسب طردًا مع اقتراب هذا الموجود من المركز:

هذا الكائن لا يعود ينازع أي كائن آخر لأنه راسخ في اللانهاية، ممحو في اللامنتهي[14]. لقد بلغ نقطة انطلاق التحولات وهو واقف فيها، وهي نقطة محايدة لا نزاعات فيها. فبتركيزه طبيعتَه، وبتغذيته روحَه الحيوي، وباستجماعه قدراته كلها، اتحد بمبدأ التكونات كلها. وبما أن فطرته تامة (مجموعة إجمالاً في الوحدة المبدئية) وروحه الحيوي سليم، ليس بمقدور أي موجود أن يمسَّ به.[15]

إن "البساطة" التي ورد ذكرها أعلاه تقابل الوحدة "بلا أبعاد" للنقطة القديمة التي تفضي إليها حركةُ الرجوع إلى الأصل:

الإنسان المطلق البساطة يثني ببساطته الموجودات كلها، … بحيث إن لا شيء يعارضه في أقاليم الفضاء الستة، ولا شيء يعاديه، والنار والماء لا يؤذيانه.[16]

إنه يقف، بالفعل، في المركز الذي تصدر منه – إشعاعًا – الجهاتُ الست وتأتيه، عبر حركة الرجوع، ليحيِّد بعضُها بعضًا مثنى مثنى، بحيث إن تَعارُضها المثلث، في هذه النقطة المفردة، يتوقف تمامًا، ولا شيء مما ينجم عن هذا التعارض أو يقع فيه يقوى على المساس بالكائن المقيم في الوحدة السرمدية. فهذا الكائن، إذ لا يعارض شيئًا، لا يقوى أي شيء على معارضته، لأن التعارض بالضرورة علاقة متبادلة تتطلب وجود حدين متعارضين، وهي، بالتالي، لا تتوافق مع الوحدة المبدئية؛ و"العداء"، الذي ليس غير عاقبة للتعارض أو تجلٍّ خارجيٍّ له، لا يمكن له إلا أن ينعدم حيال موجود بات خارج كل تعارُض وتخطاه. والنار والماء، اللذان هما نمط الأضداد في "عالم العناصر"، لا يمكن لهما أن "يؤذياه" لأنهما، والحق يقال، لم يعودا موجودين بنظره أصلاً بوصفهما ضدين، إذ قد رجعا، – وقد توازَنا وحيَّد كلٌّ منهما الآخر باجتماع خصائصهما المتعارضة في الظاهر، لكنْ المتكاملة في الواقع، – إلى لاتمايز "الأثير القديم".

رمز "عجلة الأشياء" في الطاوية: الدائرة والجهات الست المنطلقة من محيطها إلى المركز

نقطة المركز هذه التي يتم بها، لدى الكائن البشري، الاتصال مع الأحوال العليا أو "السماوية" هي أيضًا "الباب الضيق" في رمزية الإنجيل[17]؛ وبالوسع مذ ذاك فهم ما هم "الأغنياء" الذين يعسر عليهم الدخول منه[18]: إنهم الكائنات المتعلقة بالكثرة والعاجزون، بالتالي، عن الارتقاء من المعرفة التفصيلية إلى المعرفة الإجمالية. فهذا التعلق، بالفعل، مضاد مباشرة للتجرد الذي ورد ذكره أعلاه، مثلما أن الغنى مضاد للفقر، ومن شأنه أن يقيِّد الموجود إلى المتوالية غير المنتهية لدورات التجلي[19]. والتعلق بالكثرة هو أيضًا، بمعنى من المعاني، "الغواية" الكتابية التي، إذ تذيق الكائن ثمرة "شجرة معرفة الخير والشر"، أي المعرفة الثنوية والتفصيلية بالأشياء العَرَضية، تبعده عن وحدة المركز الأصلية وتمنعه من بلوغ ثمرة "شجرة الحياة"[20]؛ فبهذا، بالفعل، يخضع الكائن لتناوب الطفرات الدورية، أي للولادة والموت. وسلوك الشوط غير المنتهي للكثرة ممثل بالدقة بلفات الحية الملتفة حول جذع الشجرة الذي يرمز إلى "محور العالم": إنه طريق الضالين بالمعنى الاشتقاقي للـ"ضلال"، في مقابل الصراط المستقيم، الصاعد شاقوليًّا على طول المحور نفسه والمذكور في فاتحة القرآن الكريم[21].

"الفقر"، "البساطة"، "الطفولة"، مصطلحات مؤداها واحد؛ و"التجريد"[22] الذي تعبِّر عنه هذه الكلمات كلها يفضي إلى "فناء" هو، في الواقع، ملء الوجود[23]، مثلما أن "اللافعل" (وُو-وي wou-wei) [في العقيدة الطاوية[24]] هو كمال الفعل، بما أن منه تُشتق سائر النشاطات الخاصة: "المبدأ دومًا غير فاعل، غير أن كل شيء يتم به"[25]. وبهذا يكون الموجود الذي بلغ نقطة المركز قد حقق بذلك بالضبط تكامُل الحال الإنسانية: إنه "الإنسان الحق" (تشِن-جِن tchenn-jen) في الطاوية؛ وحين، انطلاقًا من هذه النقطة وارتقاءً إلى الأحوال العليا، يحقق محصلة إمكاناته كاملةً، يكون قد صار "الإنسان الإلهي" (تشُن-جِن tcheun-jen)، وهو الإنسان الكامل في التصوف الإسلامي. بذا يجوز لنا القول بأن "الأغنياء" من منظار التجلي هم "الفقراء" حقًّا في مرأى من المبدأ، وعكسه بعكسه؛ وهذا أيضًا ما يعبِّر عنه بوضوح ناصع قولُ الإنجيل: "هكذا يصير الأولون آخِرين، والآخِرون أولين"[26]. وبهذا الخصوص، لا بدَّ لنا من أن نعاين، مرة أخرى أيضًا، التوافق التام بين جميع العقائد النقلية، التي ليست غير تعبيرات متنوعة عن الحقيقة الواحدة.

مصر، 11-12 ربيع الأول 1349 هـ (مولد النبي).

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, octobre 1930, pp. 714-721 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 44-53.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] يقصد رونيه گينون، في لغته الاصطلاحية، بكلمة "مبدأ" Principe العلة الأونطولوجية المستقلة عن معلولاتها. (المحرِّر)

[2] محيي الدين بن عربي، رسالة الأحدية [راجع نصها كاملاً في سماوات: http://samawat.org/texts/epistle_of_unity_ibn_arabi. كل مُضاف بين معقوفتين […] إلى النص الأصلي من تدخُّل المترجم لتوضيح المقصود. (المحرِّر)].

[3] يستعمل أرسطو، بمعنى مشابه، مصطلحَي "الكون" و"الفساد".

[4] طاو-ته-كنگ، 11.

[5] طاو-ته-كنگ، 16.

[6] ليه-تسه، 1.

[7] راجع الفصل حول "الحرب والسلم" في كتابنا رمزية الصليب.

[8] ليه-تسه، 4.

[9] إنجيل لوقا 18: 17.

[10] إنجيل متى 11: 25؛ إنجيل لوقا 10: 21.

[11] إنجيل متى 5: 2.

[12] هذا "الفناء" لا يعدم المقايسة، حتى بخصوص المعنى الحرفي للمصطلح المشير إليه، مع نرڤانا nirvāna العقيدة الهندوسية؛ وفيما يتعدى الفناء، هناك أيضًا فناء الفناء الذي يقابل بالمثل الـپرنرڤانا parinirvāna.

[13] تشوانگ-تسه، 19.

[14] أول هذين التعبيرين ["راسخ في اللانهاية"] يعود إلى "الشخصية" وثانيهما ["ممحو في اللامنتهي"] يعود إلى "الفردية". [و"الشخصية"، في اصطلاح گينون، هي الجانب ما فوق البشري من الإنسان، مقام أحوال الوجود المستعلية عن الموجود كفرد، بينما "الفردية" هي الجانب البشري منه حصرًا، ببُعديه الجسماني والنفسي الفردي. فـ"رسوخ الشخصية في اللانهاية"، إذن، هو تحقيقها لإمكاناتها كافة، بينما "محو الفردية في اللامنتهي" هو زوال الأنية المميزة (أو "شفافيتها" التامة بالأصح) بحيث تعبِّر تعبيرًا غير مقيد عن الإمكانات السابقة في حياة الفرد. (المحرِّر)]

[15] المصدر نفسه. تعود الجملة الأخيرة أيضًا إلى شروط "الحال القديمة": هذه هي ما يشير إليه المنقول اليهودي-المسيحي بوصفه خلود الإنسان قبل "السقوط"؛ وهو خلود يستعيده، بعودته إلى "مركز العالم"، مَن يقتات من "شجرة الحياة".

[16] ليه-تسه، 2.

[17] راجع: إنجيل متى 7: 13؛ إنجيل لوقا 13: 24. (المحرِّر)

[18] راجع: إنجيل متى 19: 23-25؛ إنجيل مرقس 10: 23-26؛ إنجيل لوقا 18: 24-25. (المحرِّر)

[19] إنه سمسارا samsāra البوذية، الدوران غير المنتهي لـ"عجلة الحياة" الذي يجب على الكائن أن يفلت منه حتى يبلغ الـنرڤانا.

[20] راجع: العهد القديم، سفر التكوين 3. (المحرِّر)

[21] هذا "الصراط المستقيم" مطابق لـته te أو "الاستقامة" عند لاو-تسه، وهو المسلك الذي يجب على الكائن أن يتبعه حتى تجري حياته بحسب "الطريق" (طاو Tao) أو، بكلمات أخرى، بالتوافق مع المبدأ.

[22] هو "تجريد المعادن" dépouillement des métaux في الرمزية الماسونية.

[23] هو البقاء في التصوف الإسلامي. (المحرِّر)

[24] راجع: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)

[25] طاو-ته-كنگ، 37.

[26] إنجيل متى 20: 16.

التوحيد – رونيه گينون

التـوحـيـد*

رونيه گينون**

مذهب التوحيد، أي إثبات أن مبدأ كل وجود مبدأ واحد من حيث الماهية، نقطة أساسية تشترك فيها المنقولات الأرثوذكسية كافة – حتى إنه يجوز لنا القول بأن تطابُقها في العمق يظهر حول هذه النقطة بالذات على أوضح ما يكون، مترجَمًا إلى تطابُق في التعبير حتى. فبالفعل، حين تكون المقصودة هي الوحدة يُمَّحى كلُّ تنوع؛ أما حين يتم النزول إلى الكثرة، تظهر اختلافاتُ الأشكال، فتكون كيفيات التعبير نفسها عندئذ عديدةً عديدَ ما تدل عليه، ومن شأنها أن تتنوع تنوعًا غير محدود لتتكيف مع ظروف مختلف الأزمنة والأمكنة. لكن "التوحيد واحد"، كما تقول العرب؛ أي أنه نفسه في كل مكان وفي كل زمان، ثابت ثبات المبدأ، مستقل عن الكثرة والتغير اللذين لا يقدران أن يطالا إلا التطبيقات من رتبة عَرَضية contingent.

كذا فيجوز لنا أن نقول بأنه ما من مكان أبدًا شهد، على العكس من الرأي الشائع، ظهورَ مذهب "شِرْكي" polythéiste حقًّا، أي يقبل تعدُّد مبادئ مطلقة وغير قابلة للاختزال [إلى الوحدة]. فهذه "التعددية" ليست ممكنة إلا كانحراف ناجم عن جهل العوام وقلة فهمهم، عن نزوعهم إلى التعلق حصرًا بكثرة المتجلي: ومنها "الوثنية" idolâtrie بكل صورها، وهي وليدة التباس الرمز بحدِّ ذاته بما هو مخصص للتعبير عنه، وتشخيص personnification مختلف الصفات الإلهية منظورًا إلى كلٍّ منها ككائن مستقل، وهو الأصل الوحيد الممكن لـ"وثنية" فعلية. وهذا النزوع لا ينفك يشتد بمقدار ما نمضي قُدُمًا في انبساط دورة من دورات التجلي، لأن هذا الانبساط نفسه إنما هو نزول في الكثرة، وبسبب من الإظلام الروحي الذي يرافقه حتمًا. لذا فإن الأشكال النقلية الأحدث تاريخيًّا هي التي يجب أن تنص على إثبات التوحيد بأكثر ما يكون من الظهور في الخارج؛ وهذا الإثبات، في الواقع، ليس معبَّرًا عنه في أي مكان آخر بهذه الصراحة وبكل هذا القدر من الإصرار غير الإسلام، حتى ليبدو وكأنه يمتص في ذاته حتى، إذا جاز القول، كل إثبات آخر.

الفارق الوحيد بين العقائد النقلية، بهذه الصدد، هو الفارق الذي أشرنا إليه لتوِّنا: إثبات الوحدة موجود في كل مكان، إنما لم تكن ثمة، في الأصل، حاجة إلى صياغته صياغة صريحة لإظهاره بوصفه أكثر الحقائق وضوحًا، وذلك لأن البشر كانوا آنذاك من القرب الشديد من المبدأ بحيث ما كان لهم أن يغفلوا عنه وما كان له أن يغيب عن أنظارهم. أما الآن، على العكس، فيجوز لنا القول إن غالبيتهم، وقد انخرطوا بكليتهم في الكثرة وفقدوا المعرفة الكشفية بالحقائق من رتبة علوية، لا يتوصلون إلى فهم الوحدة إلا بشق النفس؛ ولهذا تصير من الضرورة، شيئًا فشيئًا، إبان تاريخ البشرية الأرضية، صياغةُ إثبات الوحدة هذا مرارًا وتكرارًا وعلى نحو أكثر فأكثر نصاعة، وإذا صح القول، على نحو أكثر فأكثر إلحاحًا.

إذا أمعنَّا النظر في الوضع الحالي للأشياء، لرأينا أن هذا الإثبات أكثر استتارًا نوعًا ما في بعض الأشكال النقلية، حتى لكأنه يكوِّن أحيانًا جانبها الباطني (على أن تؤخذ كلمة "باطني" بمعناها الأوسع)، في حين أنه، في أشكال أخرى، بادٍ لكل الأنظار، بحيث يصل الأمر إلى عدم رؤية سواه (مع أن ثمة، هاهنا أيضًا، أمورًا أخرى كثيرة، لكنها لا تعود إلا ثانوية حياله). وهذه الحالة الأخيرة هي حالة الإسلام، حتى في وجهه الظاهر: فمذهب الباطن لا يفعل في حالته سوى شرح كل ما هو متضمن في هذا الإثبات وبسط سائر النتائج المشتقة منه؛ وهو إنْ فعل ذلك بعبارات كثيرًا ما تتطابق مع العبارات التي نصادفها في منقولات أخرى، من نحو الڤيدنتا[1] والطاوية[2]، لا مجال لنتعجب من ذلك ولا لنرى فيه أثر "اقتباسات"، هي إلى ذلك مختلَف عليها تاريخيًّا[3]؛ فالأمر هكذا ببساطة لأن الحقيقة واحدة، ولأن التوحيد، على هذه الرتبة المبدئية، كما سبق أن قلنا في البداية، يُترجَم بالضرورة إلى تطابُق في التعبير حتى.

من ناحية أخرى، تجدر ملاحظة – ونحن لا نزال نعاين الأشياء في وضعها الحالي – أن الشعوب الغربية، ولاسيما شعوب الشمال، هي الشعوب التي يبدو أنها تعاني أكثر ما تعاني من المصاعب في فهم التوحيد، من حيث إنها في الوقت نفسه الأكثر انخراطًا من سواها جميعًا في التغير والكثرة. والأمران بالطبع متلازمان؛ ولعل في ذلك ما يعود، جزئيًّا على الأقل، إلى شروط حياة هذه الشعوب: المسألة مسألة مزاج، لكنها أيضًا مسألة مناخ؛ وكل من الأمرين إلى ذلك تابع للآخر، إلى حدٍّ معين على الأقل. ففي بلدان الشمال، بالفعل، حيث ضياء الشمس ضعيف ومحتجب غالبًا، تبدو الأشياء كلها للأنظار ذات قيمة متساوية، إذا جاز القول، وبصورة تثبت إثباتًا بحتًا وجودها الفردي من غير أن تشفَّ عما يتعداه؛ وبهذا، لا تُرى حقًّا، في التجربة العادية نفسها، إلا الكثرة. لكن الأمر على غير ذلك تمامًا في البلدان التي يمتص فيها الشمس[4]، بضيائه الشديد، إذا صح القول، الأشياء كلها في ذاته، فيجعلها تختفي من أمامه مثلما تختفي الكثرةُ من أمام الوحدة، لا لأن هذه الكثرة تنعدم على صعيدها الخاص، بل بالدقة لأن وجودها هذا في حُكم العدم من منظار المبدأ. بذا فإن الوحدة تصير على نحو ما محسوسة: فهذا الوهج الشمسي هو صورة سطوع عين شيڤا[5] التي تستهلك كل تجلٍّ وتحيله رمادًا. فالشمس يفرض ذاته هنا بوصفه الرمز بلا منازع إلى المبدأ ("الله أحد")، واجب الوجود، الغني بذاته عن العالمين في صمدانيَّته المطلقة ("الله الصمد")، الذي تتكل عليه في وجودها ورزقها الموجوداتُ كلها، التي ليست خارجه إلا عدمًا.

إن لـ"وحدانية الله" monothéisme، مع أنها تحدُّ من المعنى بعض الشيء بإيحائها إيحاءً يكاد أن يكون حتميًّا إلى منظور ديني حصرًا، – لـ"وحدانية الله" بالتالي، نقول، خاصية "شمسية" أساسًا: إذ هي ليست "محسوسة" في أي مكان آخر بقدر ما هي محسوسة في الصحراء، حيث تنوُّع الأشياء مختزَل إلى حدِّه الأدنى وحيث يُظهر السراب، في الوقت نفسه، كل ما يقع من العالم المتجلي على صعيد الوهم. هناك، يوجِد ضياءُ الشمس الأشياءَ ويعدمها على التوالي، أو بالأحرى، – لأن من الغلط قولنا إنه "يعدمها" – يحوِّلها ثم يعيد امتصاصها بعد إظهاره إياها[6]. وليس بالوسع إيجاد صورة أصح للوحدة التي تسري خارجيًّا في الكثرة، مع بقائها هي هي ومن غير أن تتأثر بها، ثم تعيد إلى ذاتها، بحسب المظاهر أيضًا، هذه الكثرةَ التي لم تخرج أصلاً من الوحدة قط، وذلك لأنه لا يمكن لأي شيء أن يوجد خارج المبدأ، الذي لا يمكن أن يضاف إليه شيء ولا أن يُحذَف منه شيء، كونه كلية الوجود الواحد التي لا تتجزأ. ففي ضياء بلدان الشرق الشديد، حسب المرء أن يرى لكي يفهم هذه الأمور، فيعقل من فوره حقيقتها العميقة؛ وبالأخص، يبدو من المحال عدم فهمها هكذا في الصحراء، حيث الشمس يخط الأسماء الإلهية بحروف من نار في كبد السماء[7].

جبل سيدنا موسى، 23 شوال 1348 هـ؛
مصر، سيدنا الحسين، 10 محرم 1349 هـ
(ذكرى موقعة كربلاء).

المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, juillet 1930, pp. 512-516 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 37-43.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه حب الاستطلاع إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] المقصود هو مذهب "اللاثنوية" (أدڤيتا advaïta) أو التوحيد الخالص في الهندوسية. (المحرِّر)

[2] راجع: رونيه گينون، "الطاوية والكونفوشية"، سماوات: http://samawat.org/essays/taoism_confucianism_guenon. (المحرِّر)

[3] المقصود هو الرد على رأي بعض المستشرقين القائل بأن التصوف الإسلامي ليس من الإسلام الأصلي في شيء، بل نشأ كمذهب بعد نزوع المجتمع الإسلامي للانصراف إلى الدنيويات واحتكاك تيار الزهد في الإسلام، بوصفه ردة فعل على ذاك النزوع، بالفلسفة اليونانية والرهبنة المسيحية والتصوف البوذي واقتباسه منها. (المحرِّر)

[4] ارتأى المترجم تذكير الشمس، وذلك لثلاثة أسباب: الأول لغوي بحت، باعتبار أن الفرنسية تذكِّر الشمس وتؤنث القمر؛ والثاني متعلق بالرمزية الكوسمولوجية والميثولوجية للشمس كمبدأ فاعل (مذكر)، في مقابل رمزية القمر كمبدأ منفعل (مؤنث)؛ والثالث انسجامًا مع ميثولوجيا الشرق الأدنى القديم التي جعلت الألوهة الشمسية مذكرة (الإله شمش مثلاً). (المحرِّر)

[5] شيڤا هو المظهر المميت من مظاهر الثالوث (تريمورتي trimūrti) الإلهي الهندوسي: برهما، ڤشنو، شيڤا؛ ويمثل برهما نقطة التوازن بين قوة الحفظ والتجديد (ڤشنو) وبين قوة التدمير والإتلاف (شيڤا). ولشيڤا أعين ثلاث، تتوضع ثالثتها عموديًّا في مركز الجبهة؛ وهي ترمز إلى الشمس، القمر، النار الماحقة والحكمة العليا. (المحرِّر)

[6] راجع الهامش السابق. (المحرِّر)

[7] نود هنا، تعقيبًا على كلام گينون، لفت النظر إلى أن الإسلام، من منظار باطني بحت، دين "شمسي" و"قمري" في آن معًا، كونه يربط مواقيت الصلاة – ركنه الروحي بامتياز – بحركة الشمس في القبة السماوية، حيث إن إقامتها هي التي تربط الزمن الأرضي (النسبي) بالزمن الكوني (المطلق) الذي ترمز إليه حركة الشمس، بينما يربط بداية الصوم ونهايته، مثلاً، برؤية الهلال، باعتبار الصوم منسكًا مرتبطًا بالصعيد الأرضي (النسبي) للأشياء، ويتعلق أساسًا بالعمل الداخلي على الجسم والنفس؛ بعبارة أخرى، كل ما يتصل من مناسك الإسلام بالروح (الجانب ما فوق الفردي من الإنسان) مرتبط رمزيًّا بالشمس، وكل ما يتصل منها بالنفس (الجانب الفردي منه) مرتبط بالتقويم القمري وبمنازل القمر. (المحرِّر)

فكر في هذه الأمور 16 من 27 – ج. كريشنامورتي

16

تجديد الذهن*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

ذات صباح، منذ بضعة أيام، رأيت جثمانًا محمولاً في طريقه إلى المحرقة. كان ملفوفًا بقماش أرجواني زاه، يترنح على إيقاع الفانين الأربعة الذين يحملونه. تُرى ما نوع الانطباع الذي يتركه مشهد الجثمان فيك؟ ألا تتساءل لماذا يوجد التلف أصلاً؟ تراك تشتري محركًا جديدًا من الوكالة، وفي غضون بضع سنين يبلى. والبدن أيضًا يبلى؛ ولكن هل تُراك تستفسر أكثر قليلاً لتكتشف لماذا يتلف الذهن؟ الجسم ميت لا محالة، عاجلاً أو آجلاً، لكن أغلبنا أصحاب أذهان ميتة سلفًا؛ لقد جرى عليها التلف سلفًا – فلماذا يتلف الذهن؟ الجسم يتلف لأننا نستعمله دومًا، فيبلى الجهاز العضوي: المرض، الحوادث، الشيخوخة، الطعام الرديء، البنية الوراثية الضعيفة، – هذه هي العوامل التي تسبب تلف الجسم وموته. لكن لماذا يتعين على الذهن أن يتلف، يشيخ، يتثاقل، يتبلد؟

حين ترون جثمانًا، ألم تتساءلوا يومًا حول هذا الأمر؟ فمع أن أجسامنا فانية لا محالة، لماذا يتعين على الذهن أن يتلف أصلاً؟ ألم يخطر ببالكم هذا السؤال قط؟ إذ إن الذهن يتلف فعلاً – لا نرى الأمر عند كبار السن وحسب، بل عند الشباب أيضًا: نرى عند الشباب سلفًا كيف يصير الذهن متبلدًا، ثقيلاً، عديم الحساسية؛ ولو استطعنا معرفة سبب تلف الذهن لربما اكتشفنا عندئذ شيئًا لا يمسُّه الفناء حقًّا؛ وقد نفهم ما هي الحياة الأبدية، الحياة التي لا نهاية لها، الحياة التي لا تدخل في نطاق الزمن، الحياة التي لا تفسد ولا تتفسخ كالجثة التي تُحمل إلى الـگْهَتْ [أرصفة مخصصة لحرق الجثث على ضفاف الگنْگا]، فتُحرق ويُلقى بالبقايا في النهر.

والآن، لماذا يتلف الذهن؟ هل سبق لك أن تفكرت في الأمر يومًا؟ بما أنك في ريعان الصبا – على افتراض أن والديك والمجتمع والظروف لم تصيِّرك بليدًا سلفًا – فإن لديك ذهنًا نضرًا، متلهفًا، محبًّا للاستفسار. تراك تريد معرفة لماذا وُجدت النجوم، لماذا تموت الطيور، لماذا تتساقط أوراق الشجر، كيف تطير الطائرة النفاثة، – وما أكثر الأشياء التي تريد معرفتها! – لكن ذلك الدافع الحيوي إلى الاستقصاء، إلى الاكتشاف، سرعان ما يُخمَد، أليس كذلك؟ يُخمِده الخوف، عبء الموروث، عجزنا الشخصي عن مواجهة هذا الشيء الخارق الذي يسمى الحياة. ألم تلحظ بأية سرعة تتحطم لهفتك بكلمة جارحة، بإيماءة استخفاف، بالخوف من امتحان، أو بتهديد من أحد الوالدين؟ – ما معناه أن الحساسية تُنحَّى سلفًا والذهن يُصيَّر بليدًا.

والتقليد سبب آخر من أسباب البلادة. فالتراث يجعلك تقلِّد، عبء الماضي يدفعك إلى الانصياع، إلى التقيد بالقواعد؛ وعبر الانصياع، يشعر الذهن بالطمأنينة، بالأمان، فيستقر في أخدود جيد التشحيم بحيث يستطيع أن يجري جريانًا سلسًا من غير إزعاج، من غير أدنى رعشة شك. راقب الراشدين من حولك، وسوف ترى أن أذهانهم لا تريد أن يكدِّرها شيء؛ إنهم يريدون السلام، وإنْ يكن سلام الموت. لكن السلام الحقيقي شيء مختلف كل الاختلاف.

ألم تلحظوا أن الذهن، حين يستقر في أخدود، في قالب جاهز، مدفوع دومًا بالرغبة في الأمان؟ لذلك فإنه يتبع مثالاً، قدوة، گورو [معلمًا روحيًّا]. إنه يريد أن يكون مطمئنًّا، لا يكدِّره شيء، ولهذا يقلِّد. عندما تقرؤون في كتب تاريخكم عن قادة عظام، قديسين، محاربين، ألا تجدون أنفسكم راغبين في محاكاتهم؟ – لا بمعنى أنه لا يوجد في العالم أناس عظماء، لكننا نندفع بالغريزة إلى تقليد العظماء، فنحاول أن نتمثل بهم؛ وذلك عامل من عوامل التلف لأن الذهن عندئذ يضع نفسه في قالب.

وفوق ذلك، فإن المجتمع لا يريد أفرادًا أيقاظًا، متوقدين، ثوريين، لأن أمثال هؤلاء لن ينصاعوا للقالب الاجتماعي الموضوع، وقد يحطمونه. ولذلك فإن المجتمع يسعى في احتجاز ذهنك في قالبه، وتشجعك تربيتك المزعومة على التقليد، على الاتِّباع، على الانصياع.

والآن، هل بوسع الذهن أن يكف عن التقليد؟ بعبارة أخرى، هل بوسعه أن يكف عن تشكيل عادات؟ وهل بوسع الذهن، الواقع سلفًا في شَرَك العادة، أن يتحرر من العادة؟

الذهن هو نتاج العادة، أليس نتاجها؟ إنه نتاج الموروث، نتاج الزمن – الزمن بوصفه التكرار، بوصفه استمرارًا للماضي. فهل بوسع الذهن – ذهنك أنت – أن يتوقف عن التفكير بلغة ما كان، وبلغة ما سوف يكون، الذي هو حقًّا إسقاط لما كان؟ هل بوسع ذهنك أن يتحرر من العادات ومن ابتكار عادات؟ لو تعمقت متبحرًا في هذه المشكلة ستجد أن بوسعه ذلك؛ وعندما يتجدد الذهن من غير أن يشكل أنماطًا وعادات جديدة، من غير أن يقع مرة أخرى في أخدود التقليد، يبقى عندئذ نضرًا، فتيًّا، بريئًا، وبالتالي قادرًا على فهم لانهائي.

إن ذهنًا كهذا لا يعرف الموت لأنه لم تعد فيه سيرورة تراكُم. إن سيرورة التراكم هي التي تنشئ العادة، التقليد؛ والذهن الذي يُراكِم ذهن يتلف، يموت. لكن ذهنًا لا يُراكِم، لا يلملم، بل يموت كل يوم، كل دقيقة، – ذهنًا كهذا لا يعرف الموت. إن حاله حال فضاء لانهائي.

وإذن، فلا بدَّ للذهن من أن يموت عن كل ما لملم – عن العادات كلها، عن الفضائل المزيفة، عن كل ما اتكل عليه ليكفل له شعوره بالأمان. إذ ذاك لا يعود واقعًا في شباك تفكيره. فالذهن، إذ يموت عن الماضي من لحظة للحظة، يصبح نضرًا، وبالتالي لا يمكن له أن يتلف أبدًا أو أن يطلق موجة الظلام.

سؤال: كيف يمكن لنا وضع ما تقوله لنا موضع التطبيق؟

كريشنامورتي: تراك تسمع شيئًا تظنه صحيحًا، فتريد أن تطبِّقه على حياتك اليومية؛ وبذا توجِد فجوة بين ما تعتقد وبين ما تفعل، ألا توجِد؟ تعتقد شيئًا، فتفعل شيئًا آخر. لكنك تريد تطبيق ما تعتقد، فتحصل هذه الفجوة بين العمل والفكر؛ ومن ثَمَّ تسأل عن كيفية سدِّ الفجوة، عن كيفية الربط بين تفكيرك وعملك.

والآن، عندما تتحمس لفعل شيء ما، تراك تهبُّ لفعله، ألا تفعل؟ حين تريد الذهاب للَّعب بالكرة أو تفعل شيئًا آخر ما يهمك حقًّا، تراك تجد السبل والوسائل لفعله؛ إنك لا تسأل أبدًا عن كيفية تطبيقه. إنما تفعله لأنك متقد، لأن كيانك كله – ذهنًا وقلبًا – يكون فيه.

لكنك بخصوص هذه القضية الأخرى صرت ماكرًا للغاية، تعتقد شيئًا وتفعل شيئًا آخر. تراك تقول: "هذه فكرة ممتازة، أوافق عليها عقليًّا، لكنى لا أدري ما أفعل حيالها، فرجاءً قل لي كيف أضعها موضع الممارسة" – ما معناه أنك لا تريد أن تفعلها بتاتًا. ما تريده حقًّا هو تأجيل العمل، لأنك تستحب كونك حسودًا بعض الشيء، أو شيئًا من هذا القبيل، فتراك تقول: "الناس غيري كلهم يحسدون، فلم لا أكون مثلهم؟"، وتواصل حياتك كما في السابق وحسب. لكنك إذا كنت حقًّا لا تريد أن تكون حسودًا وترى حقيقة الحسد مثلما ترى حقيقة كوبرا [أفعى سامة]، إذ ذاك تكف عن الحسد وتنتهي منه، ولا تسأل أبدًا عن كيفية التحرر من الحسد.

وإذن، فالمهم هو رؤية حقيقة الشيء، وليس التساؤل عن كيفية تنفيذه – لأن سؤالك معناه حقًّا أنك لا ترى حقيقته. عندما تصادف كوبرا على الطريق لا تسأل: "ماذا علي أن أفعل؟" إنك تفهم جيدًا خطورة الأفعى فتتفاداها. لكنك لم تفحص أبدًا عن كل مضامين الحسد حقًّا، إذ لم يكلمك عنه أحدٌ قط أو تعمق معك فيه. لقد قيل لك إنك يجب ألا تكون حاسدًا، لكنك لم تمعن النظر في طبيعة الحسد، لم ترصد أبدًا كيف أن المجتمع وجميع الأديان المنظمة قائمة عليه، على الرغبة في أن تصير شخصًا مرموقًا. لكنك لحظة تتعمق في الحسد وترى حقيقته حقًّا، تراه يتلاشى على الفور.

سؤالك: "كيف لي أن أقوم بذلك؟" سؤال أرعن، لأنك عندما تكون مهتمًّا حقًّا بشيء لا تعلم كيف تقوم به، تراك تُعمِل ذهنك فيه، وسرعان ما تبدأ بالاكتشاف. أما إذا تقاعست وقلت: "دلَّني، أرجوك، على طريقة عملية للتخلص من الطمع"، ستظل على طمعك. لكنك لو تحريت عن الطمع بذهن يقظ، من دون أي حكم مسبق، وإذا أعملت كيانك كله في الأمر، ستكتشف بنفسك حقيقة الطمع – والحقيقة هي التي تحرِّرك، لا بحثك عن طريق للتحرر.

سؤال: لماذا لا تتحقق رغباتنا تحققًا تامًّا أبدًا؟ لماذا توجد دومًا عقبات تمنعنا من فعل كل ما نتمنى؟

كريشنامورتي: لو كانت رغبتك في فعل شيء ما رغبة تامة، وأعملت فيه كيانك برمته من دون أن تطلب نتيجة، من دون أن تريد إشباعًا – أي دون خوف –، إذ ذاك تنعدم العقبات. توجد العقبة، التناقض، فقط حين تكون رغبتك ناقصة، مشتتة: تريد فعل الشيء، وفي الوقت نفسه تخشى أن تفعله، أو تريد مناصفةً فعل شيء آخر. عدا عن ذلك، هل باستطاعتك يومًا تحقيق رغباتك تحقيقًا كاملاً؟ هل تفهم؟ سوف أشرح.

المجتمع – وهو العلاقة الجماعية بين الإنسان والإنسان – لا يريدك أن تكون لديك رغبة تامة لأنك، لو كانت لديك مثل هذه الرغبة، لغدوتَ مصدر إزعاج، خطرًا على المجتمع. إنما يُسمح لك برغبات "محترمة"، كالطموح والحسد، – فهذه لا ضير منها بتاتًا! فلأن المجتمع مؤلف من بشر حاسدين، طَموحين، يصدِّقون ويقلِّدون، يقبل المجتمع الحسد والطموح والتصديق والتقليد، على الرغم من أن هذه كلها تشي بالخوف. فمادامت رغباتك تتناسب مع النمط السائد فأنت مواطن "محترم"؛ لكن لحظة تكون لديك رغبة تامة، ليست من النمط السائد، تراك تصير خطرًا. وإذن، فالمجتمع يتربص بك على الدوام ليمنعك من أن تكون لديك رغبة تامة، رغبة تكون تعبيرًا عن كلية وجودك، فتُحدِث عملاً ثوريًّا.

العمل النابع من الوجود مختلف كل الاختلاف عن العمل الناتج عن الصيرورة. العمل النابع من الوجود هو من الثورية بحيث إن المجتمع ينبذه ويهتم حصرًا للعمل الناتج عن الصيرورة، وهو عمل "محترم" لأنه يتناسب مع النمط السائد. لكن أية رغبة تعبر عن نفسها في العمل الناتج عن الصيرورة – وهو شكل من أشكال الطموح – لا إشباع لها. لذا فإنها عاجلاً أو آجلاً تُخذَل، تعرقَل، تحبَط، فننتفض على هذا الإحباط بطرق مؤذية.

هذه مسألة من المهم جدًّا أن تتعمق فيها لأنك، وأنت تتقدم في العمر، ستجد أن رغباتك لا تُشبَع في الواقع أبدًا. ففي الإشباع ثمة دومًا ظل من الإحباط، وفي قلبك لا توجد أغنية بل صرخة. إن الرغبة في الصيرورة – في أن تصير رجلاً عظيمًا، قديسًا عظيمًا، هذا الشخص العظيم أو ذاك، – لا نهاية لها، وبالتالي لا إشباع؛ إن ما تطلبه أبدًا هو "الأكثر"، ومثل هذه الرغبة مولدة دومًا للكرب، للبؤس، للحروب. ولكنْ عندما يتحرر المرء من كل رغبة في الصيرورة، تستتب حالة وجود يكون العمل النابع منها مختلفًا كل الاختلاف. إنها موجودة؛ والموجود لا زمن له. إنه لا يفكر بلغة الإشباع؛ فوجوده بالذات هو إشباعه.

سؤال: أراني بليدًا، لكن آخرين غيري يقولون إني ذكي. فأيهما يجب أن يؤثر في: رؤيتي أم قولهم؟

كريشنامورتي: الآن، أصغ إلى السؤال في حرص شديد، في هدوء تام، لا تحاول أن تجد إجابة. إذا قلتَ لي إني رجل ذكي، بينما أعلم في قرارة نفسي جيدًا أنني بليد، هل سيؤثر فيَّ ما تقول؟ سيؤثر إذا كنت أحاول أن أكون ذكيًّا، ألن يؤثر؟ عندئذ سأعجب بنفسي، متأثرًا بملاحظتك. لكني إذا رأيت أن الشخص البليد ليس بوسعه أبدًا أن يكف عن بلادته بمجرد محاولته أن يكون ذكيًّا، ماذا يحدث عند ذاك؟

قطعًا، إذا كنت غبيًّا، وحاولت أ ن أكون ذكيًّا، سأظل على غبائي، لأن محاولتك أن تكون أو أن تصير شيئًا هي جزء من الغباء. قد يتفق للشخص الغبي أن يكتسب زركشة النباهة، وقد ينجح في بضعة امتحانات، فيحصل على وظيفة، لكنه بذلك لا يكف عن أن يكون غبيًّا. (تابعوا هذا، أرجوكم، فهو ليس بيانًا على سبيل التهكم.) لكن لحظة يعي المرء أنه بليد، غبي، وبدلاً من أن يحاول أن يكون ذكيًّا يبدأ بالفحص عن غبائه ويفهمه – في تلك اللحظة بالذات تكون يقظة الذكاء.

دونك الطمع. هل تعلم ما هو الطمع؟ إنه أكلك من الطعام أكثر من حاجتك، إرادتك أن تبزَّ الآخرين في الألعاب، إرادتك الحصول على مزيد من الأملاك، كسيارة أفخم من سيارة غيرك. ثم تقول إنك يجب أن لا تكون طماعًا، فتتمرس على اللاطمع – وهو أمر سخيف حقًّا، لأن الطمع لا يمكن له أن يتوقف بأن يحاول أن يصير لاطمعًا. لكنك إذا بدأت تفهم جميع منطويات الطمع، وبذلت ذهنك وقلبك لإيجاد حقيقته، فأنت عندئذ حرٌّ من الطمع ومن نقيضه على حدٍّ سواء. إذ ذاك تكون حقًّا إنسانًا ذكيًّا، لأنك تتصدى لـماهو ولا تقلد ما يجب أن يكون.

وإذن، إذا كنتَ بليدًا، لا تحاولْ أن تكون ذكيًّا أو نبيهًا، بل افهمْ ما الذي يجعلك بليدًا: التقليد، الخوف، محاكاة أحدهم، اتباع قدوة أو مثال، – هذه كلها تجعل الذهن بليدًا. أما عندما تكف عن التبعية، عندما تتخلص من الخوف، عندما تكون قادرًا أن تفكر بنفسك تفكيرًا واضحًا، – أفَلستَ عندئذ ألمع البشر؟ لكنك إذا كنت بليدًا، وحاولت أن تكون نبيهًا، فستنضم إلى صفوف أولئك المتبلِّدين في نباهتهم.

سؤال: لماذا نتشاقى؟

كريشنامورتي: إذا سألت نفسك هذا السؤال وأنت تتشاقى يكون السؤال عندئذ ذا مغزى، ذا معنى. لكنك حين تغضب، على سبيل المثال، تراك لا تسأل أبدًا لماذا أنت غاضب، أم أنك تفعل؟ إنك لا تسأل هذا السؤال إلا لاحقًا وحسب. فبعد أن تغضب تقول: "ما أغباني! ما كان علي أن أغضب." في حين أنك، لو كنت واعيًا، حاضر البديهة لحظة الغضب، دون أن تدينه، لو كنت حاضرًا بكليتك عندما يطرأ الهيجان على ذهنك، سترى عندئذ بأية سرعة يتلاشى.

يتشاقى الأطفال في سن معينة – ويجب أن يتشاقوا – لأنهم مفعمون طاقةً وحيويةً ونشاطًا، ولا بدَّ لهذه من أن تتفجر في شكل ما أو آخر. ولكن هذه المسألة، كما ترون، مسألة معقدة حقًّا، لأن سبب التشاقي قد يكون الطعام الخاطئ أو قلة النوم أو الشعور بعدم الأمان وما إلى ذلك. فإذا لم تُفهم جميع العوامل الداخلة في المسألة حق فهمها، إذ ذاك فإن الشقاوة من جانب الأطفال تصير تمردًا ضمن المجتمع، ليس لهم فيه من متنفَّس.

هل تعلمون من هم الأطفال "الجانحون"؟ إنهم أطفال يفعلون أشياء مريعة من شتى الصنوف؛ إنهم في حال تمرُّد ضمن سجن المجتمع لأنهم لم يساعَدوا أبدًا على فهم مشكلة الوجود في كليتها. ما أشد حيويتهم، وبعضهم خارق الذكاء، وتمردهم هو طريقة للقول: "ساعدونا على الفهم، على اختراق هذا الإكراه، هذا الانصياع الرهيب." لذلك فإن هذه مسألة هامة للغاية بنظر المربي، الذي تفوق حاجته إلى التربية حاجة الأطفال إليها.

سؤال: تعودت شرب الشاي. يقول أحد المدرسين إنها عادة سيئة، بينما يقول مدرس آخر إنها لا ضير منها.

كريشنامورتي: ماذا ترى أنت؟ نحِّ مؤقتًا ما يقوله غيرك من الناس – فقد تكون أقوالهم من قبيل الحكم المسبق – وأصغ للسؤال. ما رأيك في فتى "يتعود" شيئًا سلفًا؟ – سواء كان شرب الشاي أو التدخين أو التنافس على الأكل، إلى ما هنالك. قد لا يكون هناك ضير من الوقوع في شَرَك عادة فعل شيء وأنت في السبعين من عمرك أو الثمانين، وإحدى قدميك في القبر؛ أما وأنك في مستهل عمرك، فإن تعوُّدك شيئًا سلفًا هو أمر فظيع، أليس كذلك؟ تلك هي المسألة المهمة، لا مسألة وجود ضير من شربك الشاي أو لا.

تراك حين تتعود شيئًا، يكون ذهنك في طريقه سلفًا إلى المقبرة. إذا فكرت كهندوسي أو كشيوعي أو ككاثوليكي أو كپروتستنتي، فإن ذهنك في طريقه سلفًا إلى الانحطاط والتلف. أما إذا كان ذهنك يقظًا، مستفسرًا ليكتشف لماذا أنت واقع في شَرَك عادة معينة، لماذا تفكر بطريقة بعينها، إذ ذاك فإن المسألة الثانوية حول وجود ضير من تدخينك أو شربك الشاي تغدو يسيرة المعالجة.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 117-124.

فكر في هذه الأمور 3 من 27 – الحرية والمحبة

۳

الحرية والمحبة*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

ربما لم يفهم بعضكم كل ما قلت حول الحرية كل الفهم؛ ولكن، كما سبق لي أن أشرت، من المهم جدًّا أن تكونوا عرضة لأفكار جديدة، لشيء لعلكم لم تتعوَّدوه. رؤية أشياء الحياة الجميلة أمر حسن، لكنكم يجب كذلك أن ترصدوا أشياءها القبيحة أيضًا، ينبغي لكم أن تكونوا متيقظين لكل شيء. بالمثل، ينبغي لكم أن تكونوا عرضة لأشياء لعلكم لا تفهمونها بعدُ تمام الفهم؛ فكلما تفكرتم في هذه الأمور التي قد تصعب عليكم نوعًا ما وتدبرتموها، زادت قدرتكم على عيش حياة غنية.

لا أدرى إنْ كان أحدكم قد لحظ، في الصباح الباكر، ضوء الشمس على سطح المياه: أية لطافة خارقة هي لطافته، وكيف تتراقص المياه الداكنة، ونجمة الصبح تطل من فوق الأشجار، تلك النجمة الوحيدة في السماء. أتراكم تلحظون أي شيء من ذلك أبدًا؟ أم أنكم من الانهماك، من الانشغال بروتينكم اليومي، بحيث إنكم تنسون، أو لم تعرفوا قط، كم هو غني جمال هذه الأرض؟ – هذه الأرض التي علينا أن نعيش عليها جميعًا. فسواء سمينا أنفسنا شيوعيين أم رأسماليين، هندوسًا أم بوذيين، مسلمين أم مسيحيين، سواء كنا عُميًا، عُرجًا، أم أصحاء وسعداء، فهذه الأرض لنا. هل تفهمون؟ إنها أرضنا، لا أرض سوانا؛ إنها ليست أرض الغني فقط، ولا هي ملك للحكام ذوي النفوذ أو لأشراف الإقطاعيين حصرًا، بل هي أرضنا جميعًا، أرضكم وأرضي. نحن نكرات، لكننا نحن أيضًا نعيش على هذه الأرض، وعلينا جميعًا أن نعيش سوية. إنها عالم الفقراء بقدر ما هي عالم الأغنياء، عالم الأميين وعالم المتعلمين على حدٍّ سواء؛ إنها عالمنا، وأرى أنه لفي غاية الأهمية أن نشعر بهذا وأن نحب الأرض، لا في بعض المناسبات وحسب، كأنْ نحبها في صباح رائق، بل طوال الوقت. ولا يمكن لنا أن نشعر بأنها عالمنا فنحبها إلا حين نفهم ماهية الحرية.

ليس هناك في الوقت الحاضر شيء يليق به اسمُ "حرية"؛ فنحن لا نعرف ما تعنيه الحرية. نود أن نكون أحرارًا، لكن جميع الناس، إذا لحظتم، – المدرس، الوالد، المحامي، الشرطي، الجندي، السياسي، رجل الأعمال، – يفعلون شيئًا ما، كلٌّ في زاويته الضيقة، للحيلولة دون تلك الحرية. الحرية ليست مجرد فعل ما يحلو لك، ولا هي القطيعة مع الظروف الخارجية التي تقيدك، بل فهم مشكلة الاتكال في كليتها. هل تدرون ما هو الاتكال؟ أنت متكل على أبويك، ألست كذلك؟ أنت تتكل على مدرِّسيك، تتكل على الطباخ، على ساعي البريد، على الرجل الذي يأتيك باللبن، وهكذا دواليك. ذاك النوع من الاتكال بوسع المرء أن يفهمه بسهولة إلى حدٍّ ما. لكن هناك نوعًا من الاتكال أعمق بكثير لا بدَّ للمرء من فهمه قبل أن يقدر أن يكون حرًّا: إنه اتكال المرء على سواه من أجل سعادته. هل تدري ما يعنيه اتكالك على أحدهم من أجل سعادتك؟ إن مجرد اتكالك المادي على سواك ليس هو ما يقيد بقدر ما هو اتكالك الداخلي، النفساني، الذي تستمد منه سعادة مزعومة؛ فحين تتكل على أحدهم بتلك الطريقة تصير عبدًا. إذا ظللت، وأنت تتقدم في العمر، متكلاً عاطفيًّا على أبويك، على الزوجة أو الزوج، على گورو [معلم روحي]، أو على فكرة ما، فبداية العبودية تكون موجودة سلفًا. نحن لا نفهم هذا – مع أن غالبيتنا، ولاسيما في ريعان الشباب، تتوق إلى الحرية.

لكي نكون أحرارًا لا بدَّ لنا من التمرد على صنوف الاتكال الداخلي كافة؛ وليس بوسعنا أن نتمرد إذا لم نفهم لماذا نحن متكلون. فما لم نفهم صنوف الاتكال الداخلي كلها، ونفلت منها حقًّا، لا نستطيع أن نكون أحرارًا أبدًا، لأن في ذلك الفهم وحده يمكن للحرية أن توجد. لكن الحرية ليست مجرد ردة فعل. هل تعرفون ما هي ردة الفعل؟ إذا قلت لك شيئًا جارحًا، إذا نعتُّك بصفة قبيحة فغضبت مني، فتلك ردة فعل – ردة فعل ناجمة عن الاتكال؛ والاستقلال هو الآخر مزيد من ردِّ الفعل. لكن الحرية ليست ردة فعل، وما لم نفهم ردة الفعل ونتجاوزها، لن نكون أحرارًا أبدًا.

هل تدري ما يعنيه أن تحب أحدهم؟ هل تدري معنى أن تحب شجرة، أو عصفورًا، أو حيوانًا أليفًا، بحيث تعتني به، تغذيه، ترعاه، مع أنه قد لا يعطيك شيئًا في المقابل، مع أنها قد لا تقدم لك الظل، مع أنه قد لا يتبعك، أو يتكل عليك؟ أغلبنا لا يحب على ذلك النحو، ونحن لا نعرف ما يعنيه ذلك بتاتًا لأن حبَّنا مطوَّق دومًا بالقلق، بالغيرة، بالخوف، – ما مضمونه أننا نتكل داخليًّا على سوانا، نريد أن نكون محبوبين. نحن لا نحب وحسب، ونكتفي بذلك، بل نطلب شيئًا لقاءه؛ وبمجرد أن نطلب نصير متكلين.

وإذن فالحرية والمحبة متلازمتان. المحبة ليست ردة فعل: إذا أحببتك لأنك تحبني فهي مجرد مقايضة، سلعة تُشترى في السوق؛ إنها ليست محبة. أن تحب هو أن لا تطلب شيئًا في المقابل، ولا أن تشعر حتى بأنك تعطي شيئًا – ووحدها محبة كهذه تستطيع أن تعرف الحرية. لكنكم، كما ترون، لا تربَّون على هذا: تعليمكم يقتصر على الرياضيات والكيمياء والجغرافيا والتاريخ فحسب، لأن شغل آبائكم الشاغل هو مساعدتكم على نيل وظيفة مناسبة وعلى إصابة النجاح في الحياة. وإذا اتفق لهم أن يكونوا من أصحاب المال فقد يرسلونكم إلى الخارج، لكن كل قصدهم، مثلهم كمثل باقي الناس في العالم، هو أن يوفروا لكم الغنى والحصول على مكانة محترمة على سلَّم المجتمع؛ وكلما أمعنتم في الصعود تسببتم في مزيد من البؤس للآخرين، لأن بلوغ تلك المكانة يضطركم إلى المنافسة، إلى عدم الشفقة. وهكذا يرسل الآباء أبناءهم إلى مدارس فيها الطموح والتنافس، لكنها تخلو تمامًا من المحبة؛ ولذلك فإن مجتمعًا كمجتمعنا يتدهور تدهورًا مستمرًّا، يعاني صراعًا دائمًا. ومع أن رجال السياسة والقضاة ونخبة القوم المزعومين يتكلمون على السلام، فإن كلامهم لا معنى له البتة.

و الآن، علينا، أنتم وأنا، أن نفهم مشكلة الحرية هذه في كلِّيتها. لا بدَّ لنا من أن نكتشف بأنفسنا ما تعنيه المحبة؛ لأننا ما لم نحب لن نستطيع أبدًا أن نكون مهتمين، منتبهين، لن نستطيع أبدًا أن نكون مبالين. هل تعرفون ما تعنيه المبالاة؟ كأنْ ترى حجرًا حادًّا على درب تطؤه أقدام حافية كثيرة فتزيله، لا لأن أحدهم طلب منك أن تفعل، بل لأنك تشعر بشعور سواك – لا همَّ مَن يكون، ولعلك لن تصادفه أبدًا؛ كأنْ تزرع شجرة وترعاها، تنظر إلى النهر وتستمتع بامتلاء الأرض، ترصد طائرًا يحلِّق وترى جمال طيرانه، تتصف بالحساسية وتكون منفتحًا على هذه الحركة الخارقة المسماة بالحياة – لحصول هذا كله لا بدَّ من الحرية؛ ولتكون حرًّا لا بدَّ لك من أن تحب. من دون محبة لا توجد حرية؛ من دون المحبة، تكون الحرية مجرد فكرة لا قيمة لها بتاتًا. وإذن، فوحدهم الذين يفهمون الاتكال الداخلي ويفلتون منه، ويعرفون، بالتالي، ما هي المحبة، – وحدهم هؤلاء بوسعهم أن يكونوا أحرارًا؛ وعلى أيديهم وحدهم سوف تقوم حضارة جديدة، عالم مختلف.

سؤال: ما أصل الرغبة، وكيف أقدر أن أتخلص منها؟

كريشنامورتي: إنه شاب يسأل السؤال – ولِمَ عليه له أن يتخلص من الرغبة أصلاً؟ أتفهمون؟ إنه لا يزال شابًّا، مفعمًا بالحياة، بالحيوية؛ فلِمَ عليه أن يتخلص من الرغبة؟ لقد قيل له إن التحرر من الرغبة من أعظم الفضائل، وإنه بالتحرر من الرغبة سيحقق الله أو ذلك الشيء الأسمى، مهما تكن تسميته؛ لذا تراه يسأل: "ما أصل الرغبة، وكيف يمكن لي أن أتخلص منها؟" لكن الدافع إلى التخلص من الرغبة بعينه لا يزال جزءًا من الرغبة، أليس كذلك؟ فالخوف في الواقع هو الذي يحض عليه.

ما هو أصل الرغبة، مصدرها، بدايتها؟ ترى شيئًا جذابًا، فتريده؛ ترى سيارة، أو قاربًا، فتريد امتلاكه؛ أو تراك تريد أن تبلغ منزلة رجل ثري، أو تصير سنِّياسي [ناسكًا زاهدًا]. هذا هو أصل الرغبة: الرؤية، التَّماس، ومنه ينشأ الإحساس، ومن الإحساس تتولد الرغبة. والآن، حالما تقر بأن الرغبة تجلب النزاع، تسأل: "كيف أقدر على التحرر من الرغبة؟" وإذن فإن ما تريده حقًّا ليس التحرر من الرغبة، بل الخلاص من الهمِّ، القلق، الوجع الذي تسببه الرغبة. تراك تريد التحرر من ثمار الرغبة المُرَّة، لا من الرغبة ذاتها – وهذا شيء هام جدًّا لا مناص لك من فهمه. فلو أمكن لك أن تنتزع من الرغبة الوجع، العذاب، الصراع، وسائر صنوف القلق والمخاوف المصاحبة لها، بحيث لا يبقى منها إلا اللذة، أتراك كنت تريد عندئذ أن تتحرر من الرغبة؟

مادامت باقيةً الرغبةُ في الكسب، في الإنجاز، في الصيرورة، على أي مستوى كانت، فهناك حتمًا القلق، الأسى، الخوف. فالطموح إلى الغنى، إلى أن نكون هذا أو ذاك، لا يتلاشى إلا عندما نرى نتانة الطموح ذاته وطبيعته المُفسدة. ولحظة نرى أن الرغبة في النفوذ، أيًّا كان شكله، – سواء كانت في نفوذ رئيس وزراء أو قاض أو كاهن أو گورو [معلم روحي]، – هي شر من حيث الأساس، تزول رغبتنا في أن نصير أصحاب نفوذ. لكننا لا نرى أن الطموح مُفسِد، أن الرغبة في النفوذ شريرة، بل نقول، على العكس، إننا سوف نستعمل النفوذ للخير – وهذا كله محض هراء. فالوسيلة الطالحة لا يمكن لها أن تُستعمل أبدًا لبلوغ غاية صالحة: إذا كانت الوسيلة شريرة فالغاية ستكون شريرة هي الأخرى. الخير ليس نقيض الشر؛ إنه يوجد فقط حين يبطل ما هو شرير تمامًا.

وإذن، إذا لم نفهم مدلول الرغبة بكلِّيته، بنتائجها وعواقبها، فإن مجرد محاولة التخلص من الرغبة لا معنى له.

سؤال: كيف نقدر أن نتحرر من الاتكال مادمنا نعيش في المجتمع؟

كريشنامورتي: هل تعلم ما هو المجتمع؟ المجتمع هو العلاقة بين الإنسان والإنسان، أليس كذلك؟ لا تعقِّد الأمر، لا تقتبس من كتب كثيرة؛ فكِّر فيه ببساطة شديدة، وسوف ترى أن المجتمع هو العلاقة بينك وبيني وبين الآخرين. العلاقة الإنسانية هي التي تصنع المجتمع؛ ومجتمعنا الحالي مبني على علاقة استحواذ، أليس كذلك؟ أغلبنا يريد المال، النفوذ، الأملاك، السلطة؛ على هذا المستوى أو ذاك، نريد المكانة والجاه، وبذا بنينا مجتمعًا استحواذيًّا. ومادمنا استحواذيين، مادمنا نريد مكانة وجاهًا ونفوذًا وما إلى ذلك، فإننا ننتمي إلى هذا المجتمع، وبالتالي، نتكل عليه. لكن المرء، إذا لم يكن يريد أيًّا من هذه الأشياء، وبقي ببساطة على ما هو عليه بتواضع عظيم، يكون عندئذ خارجه؛ إذ ذاك يتمرد المرء على المجتمع ويفلت منه.

التربية حاليًّا – لسوء الحظ – تهدف إلى جعلك تنصاع لهذا المجتمع الاستحواذي، تدخل في قالبه، وتتكيف معه. ذاك كل ما يشغل بال أبويك ومدرسيك وما تنص عليه كتبك. فمادمت تنصاع، مادمت طَموحًا، استحواذيًّا، تفسد الآخرين وتحطمهم في سعيك لتحصيل المكانة والنفوذ، فأنت تُعتبر مواطنًا "محترمًا". إنك تُربى على الدخول في قالب المجتمع؛ لكن ذلك ليس تربية، بل مجرد عملية تُشرطك على الانصياع لنموذج ما. لكن الدور الحقيقي للتربية ليس أن تحولك إلى موظف أو قاض أو رئيس وزراء، بل أن تساعدك على فهم بنيان هذا المجتمع العفن في كلِّيته وتتيح لك فسحة النمو في حرية، بحيث تفلت منه وتخلق مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا. لا مناص من وجود مَن يتمردون، ليس تمردًا جزئيًّا، بل تمرد كلِّي على القديم البالي؛ فوحدهم أمثال هؤلاء الناس بوسعهم خلق عالم جديد – عالم لا يقوم على الاستحواذ، على النفوذ والجاه.

بوسعي أن أسمع كبار السن بينكم يقولون: "هذا ليس بالمستطاع أبدًا. فالطبيعة البشرية هي ما هي، وأنت تقول كلامًا فارغًا." لكننا لم نفكر قط في إبطال إشراط الذهن الراشد، ولا في عدم إشراط الطفل. التربية قطعًا علاج ووقاية في آن معًا. أنتم، الطلاب الأكبر سنًّا، مُقَولَبون سلفًا، مشروطون سلفًا، طَموحون سلفًا؛ تراك تبتغي النجاح مثل أبيك، مثل الحاكم، أو أي واحد آخر. وإذن فدور التربية الحقيقي ليس مساعدتك على إبطال إشراطك وحسب، بل وعلى فهم سيرورة الحياة هذه من يوم ليوم في كلِّيتها، وذلك لكي تتمكن من النمو في حرية وتخلق عالمًا جديدًا – عالمًا يجب أن يكون مختلفًا كل الاختلاف عن العالم الحالي. لسوء الحظ، فإن آباءكم غير مهتمين لهذا، ولا أساتذتكم، ولا عموم الجمهور. لذا لا بدَّ للتربية من أن تكون سيرورة تربية للمربي وللطالب على حدٍّ سواء.

سؤال: لماذا يتعارك البشر؟

كريشنامورتي: لماذا يتعارك الصبية الصغار؟ أنت أيضًا تتعارك أحيانًا مع شقيقك، أو مع الصبية الآخرين هنا، ألا تفعل؟ لماذا؟ أنت تُعارك على لعبة. ربما أخذ صبي آخر كرتك، أو كتابك، ولهذا تُعارك. والراشدون يتعاركون للسبب نفسه بالضبط، إلا أن لعبتهم هي المكانة أو الغنى أو النفوذ. إذا كنت تريد النفوذ، وكنت أنا أيضًا أريد النفوذ، ترانا نتعارك، ولذلك تنشب الحروب بين الأمم. الأمر على هذا القدر من البساطة، إلا أن الفلاسفة والساسة ورجال الدين المزعومين يعقِّدونه. أتعرف، إنه لفنٌّ عظيم أن تتمتع بوفرة من المعرفة والخبرة، – أن تعرف غنى الحياة، جمال الوجود، الصراعات، البلايا، الضحك، الدموع، – وتحتفظ مع ذلك بذهنك بسيطًا للغاية؛ وليس بوسعك أن تتمتع بذهن بسيط إلا حين تعرف كيف تحب.

سؤال: ما هي الغيرة؟

كريشنامورتي: تتضمن الغيرة السخط على أنت عليه وحسد الآخرين، ألا تتضمنهما؟ عدم قناعتك بما أنت إياه هو بالذات بداية الحسد. تريد أن تكون مثل واحد آخر يفوقك معرفة أو جمالاً، أو عنده بيت أكبر، نفوذ أكثر، أو مكانة أفضل من مكانتك. أو لعلك تريد أن تكون أكثر فضيلة، تريد أن تعرف كيف تتأمل تأملاً أفضل، تريد أن تصل إلى الله، تريد أن تكون شيئًا مختلفًا عما أنت عليه؛ لذا تراك تحسد، تغار. إن فهمك ما أنت إياه أمر على قدر هائل من الصعوبة، لأنه يتطلب تحررًا تامًّا من كل رغبة في تغيير ما أنت إياه إلى شيء آخر. فالرغبة في تغيير نفسك تولد الحسد والغيرة؛ في حين أن فهمك ما أنت إياه يُحدث تحولاً في ما أنت إياه. ولكنْ، كما ترى، تربيتك كلها تحثك أن تحاول أن تكون مختلفًا عما أنت إياه. عندما تغار يقال لك: "لا تكن غيورًا، فالغيرة شيء فظيع." فتراك تجاهد كي لا تكون غيورًا؛ لكن تلك المجاهدة بعينها هي جزء من الغيرة، لأنك تريد أن تكون مختلفًا.

الوردة البديعة، كما تعلم، وردة بديعة؛ لكننا، نحن بني البشر، وُهبنا القدرة على التفكير، وترانا نسيء التفكير. معرفة كيف نفكر تتطلب قدرًا عظيمًا من النفاذ والفهم، لكن معرفة ماذا نفكر فيه سهلة بالمقارنة. تربيتنا الحالية تملي علينا ماذا نفكر فيه، لكنها لا تعلِّمنا كيف نفكر، كيف نتعمق، نستكشف؛ وفقط حين يعرف المدرس، ناهيك عن التلميذ، كيف يفكر، تكون المدرسة جديرة باسمها حقًّا.

سؤال: لماذا لا يرضيني شيء أبدًا؟

كريشنامورتي: طفلة صغيرة تسأل هذا السؤال، وأنا واثق من أنه لم يحضها على سؤاله أحد. إنها في ريعان عمرها، وتريد أن تعرف لماذا لا تشعر بالرضا أبدًا. فما قولكم، أيها الراشدون؟ هذا جنى أيديكم: لقد أوجدتم هذا العالم الذي تسأل فيه طفلة صغيرة لماذا لا يرضيها شيء أبدًا. يُفترَض فيكم أنكم مربون، لكنكم لا ترون مأساة هذا الأمر. إنكم تمارسون التأمل، لكنكم بليدون، منهكون، أموات في الداخل.

لماذا لا يرضى البشر أبدًا؟ أليس لأنهم يطلبون السعادة، ظانِّين أنهم، عبر التغيير الدائم، سيكونون سعداء؟ إنهم يتنقلون من عمل لآخر، من علاقة لأخرى، من ديانة أو إيديولوجيا لأخرى، ظنًّا منهم أنهم، عبر حركة التغيير الدائمة هذه، سوف يجدون السعادة – وإلا فإنهم يختارون بقعة حياة منعزلة وينتنون فيها. القناعة قطعًا شيء مختلف تمامًا. إنها توجد فقط حين ترى نفسك كما أنت من دون أية رغبة في التغير، من دون أية إدانة أو مقارنة، – الأمر الذي لا يعني أن تكتفي بتقبُّل ما ترى وتذهب للنوم. لكن الذهن، حين يكف عن المقارنة والحكم والتقييم، فيكون بالتالي قادرًا على رؤية الـماهو من لحظة للحظة دون أن يريد تغييره – في ذلك الإدراك بالذات يوجد الأبدي.

سؤال: لماذا يجب علينا أن نقرأ؟

كريشنامورتي: لماذا يجب عليك أن تقرأ؟ أصغ بهدوء وحسب. أنت لا تسأل أبدًا لماذا يجب أن تلعب، لماذا يجب أن تأكل، لماذا يجب أن تنظر إلى النهر، لماذا فيك قسوة، – أم أنك تسأل؟ أنت لا تتمرد وتسأل لماذا يجب عليك أن تفعل شيئًا ما إلا عندما لا تستحب أن تفعله. لكن القراءة، اللعب، الضحك، القسوة، الطيبة، رؤية النهر، السحُب، – هذه كلها جزء من الحياة؛ وإذا كنت لا تجيد القراءة، إذا لم تكن تحسن المشي، إذا لم تكن قادرًا على تقدير جمال ورقة الشجر، فأنت لست حيًّا. لا بدَّ لك من فهم الحياة في كلِّيتها، لا مجرد جزء صغير واحد منها. لذلك يجب عليك أن تقرأ، لذلك يجب أن تنظر إلى السماوات، لذلك يجب أن تغني، وترقص، وتكتب القصائد، وتتألم، وتفهم، – فتلك كلها هي الحياة.

سؤال: ما هو الحياء؟

كريشنامورتي: ألا تشعر بالحياء حين تقابل شخصًا غريبًا؟ ألم تشعر بالحياء وأنت تسأل ذلك السؤال؟ أما كنت ستشعر بالحياء لو اضطررت إلى الجلوس على هذه المنصة، مثلي، وإلى مخاطبة جمهور؟ ألا تشعر بالحياء، ألا تشعر بشيء من الارتباك، فتود الوقوف ساكنًا، حين تقع عيناك فجأة على شجرة بديعة، أو زهرة رقيقة، أو عصفور جاثم على عشِّه؟ ألا ترى أنه أمر حسن أن تكون حَييًّا؟ لكن الحياء بنظر أغلبنا ينطوي على خجل بالنفس. عندما نقابل رجلاً مرموقًا – إنْ وُجد مثل هذا الشخص أصلاً – نصير خجلين بنفسنا. فترانا نفكر: "كم هو مهم، كم هو مشهور، وأنا نكرة!" وبذا نستحي، بمعنى أننا نخجل بنفسنا. لكن هناك نوعًا مختلفًا من الحياء، وهو أن يكون المرء لطيفًا حقًّا، حَييًّا؛ وفي ذلك ليس هناك أي خجل بالنفس.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 23-31.

فكر في هذه الأمور 2 من 27 – ج. كريشنامورتي

۲

مشكلة الحرية*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

أود أن أناقش معكم مشكلة الحرية. إنها مشكلة معقدة للغاية، تحتاج إلى دراسة وفهم عميقين. إننا نسمع كلامًا كثيرًا يقال حول الحرية، الحرية الدينية وحرية فعل المرء ما يحلو له أن يفعل. لقد كتب البحاثة في هذا كله مجلدات ضخمة. لكني أظن أننا نستطيع مقاربة الموضوع مقاربة بسيطة جدًّا ومباشرة، ولعل ذلك سيوصلنا إلى الحل الحقيقي.

أتساءل فيما إذا توقفتم يومًا لرصد الوهج الرائع في الغرب عند غروب الشمس، وهلال القمر الخجول يطل من فوق الأشجار؟ في تلك الساعة غالبًا ما يكون النهر هادئًا جدًّا، فينعكس عندئذ كل شيء على سطحه: الجسر، القطار الذي يسير فوقه، القمر الحنون، وكما هي الحال الآن، مع اشتداد الظلمة، النجوم أيضًا. هذا كله جميل للغاية. ولرصد شيء جميل ومشاهدته وإعطاء انتباهك كاملاً إليه، لا بدَّ لذهنك من أن يكون خاليًا من الانشغالات، أليس كذلك؟ يجب على الذهن ألا يكون مشغولاً بمشكلات أو هموم أو تخمينات. إذ فقط حين يكون الذهن هادئًا للغاية تستطيع أن ترصد حقًّا، لأن الذهن يكون عندئذ حساسًا للجمال الخارق. ولعل هاهنا دليلاً إلى مشكلتنا مع الحرية.

والآن، ما معنى أن يكون المرء حرًّا؟ هل الحرية هي قضية أن تفعل ما يتفق له أن يلائمك، أن تذهب إلى حيث يحلو لك، أو أن تفكر فيما تشاء؟ هذا ما تفعلونه في كل الأحوال. مجرد الحصول على الاستقلال، هل يعني ذلك الحرية؟ أناس كثيرون في العالم مستقلون، لكنْ قليلون جدًّا أحرار. الحرية تقتضي ذكاءً عظيمًا، ألا تقتضيه؟ أن تكون حرًّا هو أن تكون ذكيًّا؛ لكن الذكاء لا يوجد بمجرد تمني الحرية، بل يوجد فقط عندما تبدأ بفهم بيئتك كلها، بفهم المؤثرات الاجتماعية والدينية وتأثيرات الأبوين والتقاليد التي تضيِّق عليك الخناق باستمرار. لكن فهم هذه المؤثرات المختلفة – تأثير أبويك، حكومتك، المجتمع، الثقافة التي تنتمي إليها، تأثير معتقداتك، آلهتك وخرافاتك، تأثير التقاليد التي ترضخ لها من دون تفكير – إن فهم هذه المؤثرات كلها والتحرر منها يتطلب نفاذ بصيرة عميق؛ لكنك في الغالب تستسلم لها لأنك داخليًّا مرعوب: تراك تخشى عدم الحصول على منصب جيد في الحياة؛ تخشى ما سوف يقوله رجل الدين؛ تخشى عدم اتِّباع التقليد وعدم فعل الصواب. لكن الحرية في الحقيقة حالة ذهنية لا خوف فيها ولا إكراه، ولا دافع إلى الشعور بالأمن.

ألا يريد أغلبنا أن يشعروا بالأمان؟ ألا نريد أن يقال لنا: كم نحن أناس رائعون، كم نبدو محبَّبين، أو أي ذكاء خارق هو ذكاؤنا؟ – فلولا ذلك لما وضعنا ألقابًا قبل أسمائنا. تلك الأشياء من هذا النوع تمنحنا ثقة بالنفس، إحساسًا بالأهمية. نريد جميعًا أن نكون أناسًا مشهورين – وبمجرد أن نريد أن نكون ذوي شأن لا نعود أحرارًا.

أرجوكم أن تدركوا هذا، لأنه الدليل الحقيقي إلى فهم مشكلة الحرية. فسواء في عالم رجال السياسة والنفوذ والمناصب والسلطة هذا، أو فيما يُسمى "العالم الروحي"، حيث تتشوق إلى اكتساب الفضيلة أو النبل أو القداسة، بمجرد أن تريد أن تكون شخصية مرموقة لا تعود حرًّا. لكن الرجل أو المرأة الذي يرى عبثية هذه الأشياء كلها ويكون قلبه بالتالي بريئًا، وبالتالي غير مدفوع بالرغبة في أن يصبح شخصية مرموقة – شخص كهذا إنسان حر. إذا فهمتم بساطة الأمر سوف تدركون أيضًا جماله وعمقه الخارقين.

وفي الحاصل، وُضعت الامتحانات لذاك الغرض بعينه: لمنحك منصبًا، لجعلك شخصية مرموقة. الألقاب والمناصب والمعرفة تشجعك أن تكون ذا شأن. ألم تلحظ أن أبويك ومدرسيك يقولون لك إنك يجب أن تحصِّل شيئًا ما في الحياة، إنك يجب أن تكون ناجحًا مثل عمك أو جدك؟ أو تراك تحاول أن تقتدي ببطل ما، أن تكون مثل السادة المعلِّمين أو القديسين؛ ومنه فأنت لست حرًّا أبدًا. فسواء حذوت حذو سيد معلِّم أو قديس أو مدرس أو أحد أقاربك، أم التزمْتَ تقليدًا معينًا، ينطوي هذا كله على طلب من جانبك بأن تكون ذا شأن؛ وفقط عندما تفهم هذا الأمر حق فهمه توجد الحرية.

دور التربية، إذن، هو مساعدتك منذ الطفولة على أن لا تقلد أحدًا، بل أن تكون نفسك طوال الوقت. وهذا شيء فعلُه صعب للغاية: سواء كنت قبيحًا أو جميلاً، سواء كنت حسودًا أو غيورًا، أن تكون ما أنت إياه دومًا – على أن تفهمه. أن تكون نفسك هو شيء صعب جدًّا، لأنك تظن أن ما أنت إياه خسيس، وأنك إذا استطعت وحسب أن تغيِّر ما أنت إياه إلى شيء نبيل سيكون هذا رائعًا؛ لكن ذلك لا يحدث أبدًا. في حين أنك إذا نظرت إلى ما أنت إياه فعليًّا، وفهمته، فإن في ذلك الفهم بعينه تحولاً جذريًّا. وإذن فالحرية لا تكمن في محاولتك أن تصير شيئًا مختلفًا، ولا في فعل كل ما يتفق لك أن تشتهي فعله، ولا في اتِّباع سلطة التقاليد أو أبويك أو معلِّمك الروحي [گورو]، بل في فهم ما أنت إياه من لحظة للحظة.

وكما ترى، أنت لا تربَّى لهذه الغاية: فتربيتك تشجعك أن تصير هذا الشيء أو ذاك – لكن ذلك ليس فهم نفسك. إن "نفسـ"ـك شيء معقد جدًّا؛ إنها ليست فقط الكيان الذي يذهب إلى المدرسة، يتشاجر، يلعب ألعابًا، يخاف، لكنها أيضًا شيء خفي، ليس ظاهرًا. إنها ليست مركَّبة من كل الأفكار التي تفكر فيها وحسب، ولكن أيضًا من كل الأشياء التي وضعها الآخرون والكتب والجرائد والقادة في ذهنك؛ ومن الممكن فهم ذلك كله فقط عندما لا تريد أن تصبح شخصية مرموقة، عندما لا تقلد، عندما لا تتبع أحدًا – ما يعني، حقًّا، عندما تكون متمردًا على التقليد برمته الذي يحثك على أن تصير ذا شأن. تلك هي الثورة الحقيقية الوحيدة التي تؤدي إلى حرية خارقة. إن تنمية هذه الحرية هي دور التربية الحقيقي.

آباؤكم ومدرسوكم ورغباتكم الخاصة يريدونكم أن تتماهوا مع هذا الشيء أو ذاك من أجل أن تكونوا سعداء، آمنين. لكنكم، لكي تكونوا أذكياء، ألا يجب عليكم أن تخترقوا كل المؤثرات التي تستعبدكم وتسحقكم؟

الأمل في عالم جديد يكمن في أولئك منكم الذين يبدؤون في رؤية ما هو زائف ويتمردون عليه، ليس لفظيًّا وحسب، بل فعليًّا. ولذلك عليكم أن تطلبوا التربية الصحيحة؛ لأنه فقط عندما تنمون في حرية تستطيعون أن تخلقوا عالمًا جديدًا ليس قائمًا على التقاليد ولا مشكَّلاً بحسب رغبة الفيلسوف الفلاني أو مزاجية مفكر مثالي ما. ولكن لا مجال للحرية مادمت تحاول فقط أن تصير شخصية مرموقة أو تقلد مثالاً نبيلاً.

سؤال: ما هو الذكاء؟

كريشنامورتي: فلنغُصْ في المسألة بتأنٍّ وصبر، ولنكتشف. الاكتشاف ليس التوصل إلى نتيجة. لا أدري إنْ كنتم تدركون الفرق. لحظة تتوصل إلى نتيجة حول ماهية الذكاء تكف عن كونك ذكيًّا. ذلك ما تفعله غالبية الناس الأكبر سنًّا: لقد توصلوا إلى نتائج، وبالتالي كفوا عن كونهم أذكياء. وإذن فقد اكتشفتم في الحال شيئًا واحدًا: وهو أن الذهن الذكي ذهن يتعلم تعلمًا مستمرًّا، ولا يستنتج أبدًا.

ما هو الذكاء؟ أغلب الناس يكتفون بتعريف بماهية الذكاء. فهم إما يقولون: "هذا تفسير جيد"، وإما يفضلون تفسيرهم الخاص؛ وذهنٌ يكتفي بتفسير ما ذهنٌ سطحي للغاية، وبالتالي ليس ذكيًّا.

لقد بدأتم تدركون أن ذهنًا ذكيًّا ذهن لا يكتفي بالتفسيرات، بالاستنتاجات؛ ولا هو ذهن يسلِّم بمعتقد ما، لأن الاعتقاد هو أيضًا شكل آخر من الاستنتاج. الذهن الذكي هو ذهن دائم التقصي، ذهن يراقب، يتعلم، يدرس. ما يعني ماذا؟ ما يعني أن الذكاء يوجد فقط عندما ينعدم الخوف، عندما تكون مستعدًّا للتمرد، لمعارضة البنية الاجتماعية برمتها، لكي تكتشف ما هو الله، أو لتكتشف حقيقة أي شيء.

الذكاء ليس المعرفة. فحتى لو استطعت أن تقرأ كتب العالم كلها لما أعطاك هذا ذكاء. الذكاء شيء حاذق للغاية، وليس له مكان يرسو فيه. إنه يوجد فقط عندما تفهم سيرورة الذهن بكلِّيتها – لا الذهن بحسب رأي فيلسوف أو معلم ما، بل ذهنك أنت. فذهنك نتاج للبشرية جمعاء، وحين تفهمه، لست بحاجة لأن تدرس كتابًا واحدًا حتى، لأن الذهن يشتمل على معرفة الماضي بأسرها. وإذن، يوجد الذكاء مع فهمك نفسَك؛ وتستطيع فهم نفسك فقط في علاقتك مع عالم الناس والأشياء والأفكار. الذكاء ليس شيئًا تستطيع اكتسابه، كالتعلم؛ إنه ينبثق مع التمرد العظيم، أي عندما ينعدم الخوف – ما يعني، حقًّا، عندما يكون هناك شعور بالمحبة. فحيثما ينعدم الخوف توجد المحبة.

إذا كنت مهتمًّا بالتفسيرات وحسب، أخشى أنك ستشعر بأني لم أجبْ عن سؤالك. فالسؤال عن ماهية الذكاء كالسؤال عن ماهية الحياة. الحياة هي الدراسة، اللعب، الجنس، العمل، الشجار، الحسد، الطموح، الحب، الجمال، الحقيقة – الحياة هي كل شيء، أليست كذلك؟ ولكن، كما ترى، فإن غالبيتنا ليس لديهم الصبر الجاد والدءوب لمتابعة هذا التقصي.

سؤال: هل يمكن للذهن الفج أن يصبح حساسًا؟

كريشنامورتي: أصغ إلى السؤال، إلى المعنى وراء الكلمات. هل يمكن لذهن فج أن يصير حساسًا؟ إذا قلت إن ذهني فج وأحاول أن أصير حساسًا، فالجهد لأصير حساسًا بحدِّ ذاته هو الفجاجة بعينها. أرجوك أن تدرك هذا. لا تتعجب، بل عاينْه! في حين أنني، إذا أدركتُ أنني فج من غير أن أريد التغير، من غير أن أحاول أن أصير حساسًا، إذا بدأت أفهم ماهية الفجاجة، ورصدتها في حياتي من يوم ليوم، – الطريقة النهمة التي آكل بها، الفظاظة التي أعامل بها الناس، الغرور، التكبر، خشونة عاداتي وأفكاري، – عندئذ فإن هذا الرصد بعينه يحوِّل الـماهو جذريًّا.

بالمثل، إذا كنت غبيًّا وقلت في نفسي إن علي أن أصير ذكيًّا، فالجهد لأصير ذكيًّا هو مجرد شكل أعظم من أشكال الغباء؛ لأن المهم هو فهم الغباء. فمهما حاولت أن أصير ذكيًّا فإن غبائي سيبقى. قد أكتسب طلاء الثقافة السطحي، قد أتمكن من اقتباس الكتب أو ترديد مقاطع من كتَّاب عظام، لكني سوف أظل من حيث الأساس غبيًّا. لكني إذا رأيت الغباء وفهمته كما يعبِّر عن ذاته في حياتي اليومية، – كيف أتعامل مع خادمي، كيف أنظر إلى جاري، إلى الرجل الفقير، إلى الرجل الغني، إلى الموظف، – إذ ذاك فإن ذلك الوعي نفسه يجلب تحطيم الغباء.

جرِّب هذا بنفسك: راقب نفسك وأنت تكلم خادمك، لاحظ الاحترام البالغ الذي تُعامِل به مسؤولاً حكوميًّا وقلة الاحترام التي تبديها للرجل الذي ليس لديه شيء يعطيكه. عندئذ تبدأ باكتشاف مقدار غبائك؛ وفي فهم ذلك الغباء ذكاء، حساسية. لستَ مضطرًّا لأن تصير حساسًا. فالمرء الذي يحاول أن يكون ذا شأن امرؤ قبيح، غير حساس؛ إنه شخص فج.

سؤال: كيف يستطيع الطفل اكتشاف ما هو دون مساعدة أبويه ومدرِّسيه؟

كريشنامورتي: هل قلتُ إنه يستطيع، أم أن هذا تأويلك أنت لما قلتُ؟ سيكتشف الطفل أمورًا عن نفسه إذا كانت البيئة التي يحيا فيها تساعده على فعل ذلك. إذا كان الأبوان والمدرسون مهتمين حقًّا بأن يكتشف الشخص الفتي ما هو، لن يجبروه على شيء، بل سيوجِدون له بيئة يتوصل فيها إلى معرفة نفسه.

لقد سألتَ أنت هذا السؤال؛ لكن هل هي مشكلة حيوية بنظرك؟ لو كنت تشعر شعورًا عميقًا أن من المهم للطفل أن يكتشف أمورًا عن نفسه، وأنه لا يستطيع أن يفعل هذا مادامت تسيطر عليه سلطة ما، ألن تساعد في إيجاد البيئة الصحيحة؟ إنه مرة أخرى الموقف القديم إياه: قل لي ماذا أفعل وسأفعله. نحن لا نقول: "هيا نتشارك في حل الأمر معًا." مشكلة كيفية إيجاد بيئة يستطيع الطفل فيها تحصيل معرفة عن نفسه قضية تخص الجميع – الآباء والمدرسين والأطفال أنفسهم. لكن معرفة الذات لا يمكن فرضُها، الفهم لا يمكن الإجبار عليه؛ وإذا كانت هذه مسألة حيوية بنظرك وبنظري، بنظر الآباء وبنظر المدرسين، فإننا معًا سوف ننشئ مدارس من النوع الصحيح.

سؤال: أخبرني الأطفال أنهم رأوا في القرى بعض الظواهر العجيبة، كالتلبُّس، وأنهم خائفون من الأشباح والأرواح وما شابه. وهم يسألون أيضًا عن الموت. فماذا ينبغي أن يقال في هذا كله؟

كريشنامورتي: في الوقت المناسب سنتقصى ماهية الموت. ولكن، كما ترون، الخوف شيء عجيب. لقد أخبركم، أيها الأطفال، آباؤكم وكبار السن عن الأشباح – ولولا ذلك على الأرجح لما رأيتم أشباحًا. لقد أخبركم أحدهم عن تلبُّس الأرواح. أنتم أصغر من أن تدروا بتلك الأمور. إنها ليست خبرتكم الشخصية، بل هي انعكاس لما أخبركم به الكبار. والكبار أنفسهم غالبًا ما لا يفقهون شيئًا عن هذه الأمور؛ لقد قرأوا عنها في بعض الكتب وحسب، ويظنون أنهم فهموها. وهذا يثير سؤالاً مختلفًا تمامًا: هل هناك خبرة لا يشوبها الماضي؟ إذا كانت الخبرة مشوبة بالماضي فهي مجرد استمرار للماضي، وبالتالي ليست خبرة أصيلة.

المهم هو أن على أولئك منكم الذين يتعاملون مع الأطفال ألا يفرضوا عليهم أضاليلهم، مفاهيمهم الشخصية عن الأشباح، أفكارهم وخبراتهم الخاصة. هذا شيء من الصعب تفاديه، لأن الكبار يطيلون الكلام على كل هذه الأمور غير الجوهرية التي لا أهمية لها في الحياة؛ وبذا يلقنون الأطفال تدريجيًّا قلقهم ومخاوفهم وخرافاتهم، وبالطبع يكرِّر الأطفال ما سمعوه. من المهم للكبار، الذين عمومًا لا يفقهون شيئًا عن هذه الأمور، ألا يتكلموا عنها أمام الأطفال، بل أن يساعدوا، بدلاً من ذلك، في إيجاد مناخ يستطيع فيه الأطفال أن ينموا في حرية وبلا خوف.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 16-22.

الطاوية والكونفوشية – رونيه گينون

الطاوية والكونفوشية*

رونيه گينون**

لم تُبْدِ الشعوب القديمة، في غالبيتها، أي اهتمام البتة بالتأريخ لأحداث ماضيها تأريخًا دقيقًا؛ وبعضها حتى لم يستعمل، للدلالة على العصور السحيقة القِدَم على الأقل، غير أعداد رمزية، لا يجوز أخذُها على محمل التواريخ بالمعنى العادي والحرفي للكلمة من غير ارتكاب غلط فادح. أما الصينيون فهُم، من هذا القبيل، استثناء لافت للنظر إلى حدٍّ ما: فلعلهم وحدهم الشعب الذي أوْلى التأريخ لحولياته عنايةً دائمةً منذ أصل منقوله نفسه، وذلك بواسطة أرصاد فلكية دقيقة تتضمن وصفًا لحالة السماء لحظة وقوع الأحداث التي احتفظ بذكراها. في الإمكان إذن الجزمُ فيما يخص الصين وتاريخها القديم أكثر مما يمكن في العديد من الحالات الأخرى؛ وبذا نعلم أن أصل المنقول tradition هذا الذي تصح تسميته "صينيًّا" حصرًا يعود إلى حوالى 3700 سنة قبل العصر المسيحي. وتلك الفترة نفسها، بمصادفة طريفة إلى حدٍّ ما، تتطابق أيضًا مع بداية العصر العبراني، وإنْ يكن من الصعب، فيما يخص هذا الأخير، تعيين الحدث الذي يتطابق في الواقع مع نقطة الانطلاق هذه.

إن أصلاً كهذا، مهما بدا قصيًّا حين يقارَن بأصل الحضارة الإغريقية-الرومانية وبتواريخ العصر القديم الموسوم بـ"الكلاسيكي"، هو مع ذلك – والحق يقال – أصل حديث بعدُ إلى حدٍّ ما. فماذا كانت عليه، قبل تلك الفترة، حال العرق الأصفر الذي كان يقطن آنذاك على الأرجح بعض مناطق آسية الوسطى؟ من المحال تدقيق ذلك في غياب معطيات صريحة بما يكفي؛ لكنْ يبدو أن هذا العرق قد مرَّ بطور من أطوار الخمول ذي مدة غير معينة وأنه انتُشِل من هذه الغفوة في لحظة اتسمت أيضًا بتغيرات هامة لدى أجزاء أخرى من البشرية. قد يكون إذن – ولعل هذا هو الأمر الوحيد الثابت ثبوتًا واضحًا إلى حدٍّ ما – أن ما يبدو وكأنه "بداية" لم يكن حقًّا غير استيقاظ لمنقول أسبق بكثير، لا بدَّ أنه جُعِلَ آنذاك يتخذ شكلاً آخر، وذلك لكي يتكيف مع شروط جديدة. مهما يكن من أمر، فإن تاريخ الصين، أو ما بات اليوم يسمَّى الصين، لا يبدأ بالضبط إلا مع فو-هي الذي يُعَد أول أباطرتها؛ وهنا لا بدَّ على الفور من إضافة أن اسم "فو-هي" هذا، الذي ترتبط به جملة المعارف التي تكوِّن عماد المنقول الصيني بالذات، يفيد في الواقع إشارةً إلى فترة بكاملها تنبسط على عدة قرون.

رسم للإمبراطور الأسطوري فو-هي يخط مثلثات الخطوط

استعمل فو-هي لتثبيت مبادئ المنقول رمزين خطِّيين من أبسط ما يمكن ومن أكثر ما يمكن اختصارًا في آن معًا: الخط المتصل والخط المنقطع، العلامتين الدالتين على الـيَنگ yang والـين yin على التوالي، أي على المبدأين الفاعل والمنفعل اللذين، بانبثاقهما من نوع من استقطاب الوحدة الميتافيزيقية العليا، يولِّدان التجلي الكلي manifestation universelle بأسره. ومن توليفات هاتين العلامتين الاثنتين، في كل الترتيبات الممكنة بينهما، تتشكل الـكوا koua أو "مثلثات الخطوط" trigrammes الثمانية التي مافتئت الرموز الأساسية للمنقول الشرقي الأقصى.

yin-yang

يقال إن فو-هي،

[…] قبل أن يخط مثلثات الخطوط، نظر إلى السماء، ثم خفض ناظريه نحو الأرض، فرصد خصائصها، وأمعن النظر في خواص الجسم البشري وسائر الأشياء الخارجية.[1]

هذا النص مثير للاهتمام بصفة خاصة، من حيث إنه يحوي التعبير القطعي عن الثالوث الأكبر: السماء والأرض، أو المبدأين المتكاملين اللذين تنتج منهما الكائنات كلها، والإنسان الذي، في تطبُّعه بكليهما من حيث طبيعتُه، هو الحد الأوسط للثالوث، الوسيط بين السماء والأرض. ويجدر التدقيق بأن المقصود هنا هو "الإنسان الحق" [تشِنْ-جِنْ tchen-jen]، أي الإنسان الذي، ببلوغه التحقُّق بملء مَلكاته العليا،

[…] يستطيع أن يعين السماء والأرض على رعاية الكائنات وتحويلها، فيكون بذلك حصرًا سلطانًا ثالثًا مع السماء والأرض.[2]

ويقال أيضًا إن فو-هي أبصر تنينًا يخرج من النهر، جامعًا في ذاته قدرات السماء والأرض وحاملاً مثلثات الخطوط على ظهره، – وليس هذا غير طريقة للتعبير رمزيًّا عن الأمر نفسه.

التوليفات الثمانية بين مثلثات الخطوط

بذا فإن المنقول في جملته كان متضمَّنًا من حيث ماهيته، كما لو كالبذرة، في مثلثات الخطوط، وهي رموز بديعة القدرة على أن تفيد حاملاً لممكنات غير محدودة: فلم يبقَ إلا استنباط كل الاشتقاقات الضرورية منها، إنْ في مجال المعرفة الميتافيزيقية الخالصة وإنْ في مجال مختلف تطبيقاتها على النظامين الكوني والبشري. ولهذا الغرض، وضع فو-هي ثلاثة كتب لم يصلنا منها إلا آخرها الموسوم بـيي-كِنگ Yi-king أو "سِفْر التحولات"؛ ونص هذا الكتاب من الاختصار المكثف أيضًا بحيث يمكن فهمُه وفقًا لمعانٍ عديدة، هي إلى ذلك متوافقة فيما بينها كل التوافق، بحسب ما إذا كان يُقتصَر على المبادئ حصرًا أو كان يراد تطبيقُها على هذا النظام بعينه أو ذاك. بذا هناك، فضلاً عن المعنى الميتافيزيقي، العديد من التطبيقات العَرَضية contingentes، المتفاوتة من حيث الأهمية، تكوِّن عددًا مساويًا من العلوم النقلية: تطبيق منطقي، تطبيق رياضي، تطبيق فلكي، تطبيق فسيولوجي، تطبيق اجتماعي، وهلم جرا؛ حتى إن هناك تطبيقًا تكهُّنيًّا، يُعَدُّ إلى ذلك واحدًا من أدنى تلك التطبيقات جميعًا وتُترَك مزاولتُه للمشعوذين الجوالين. إذ إن تلك، على كل حال، خاصية تشترك فيها جميع العقائد النقلية، ألا وهي أنها تتضمن أصلاً إمكانات جميع التشعبات القابلة للتصور، بما فيها طائفة غير محدودة من العلوم التي ليس لدى الغرب الحديث أدنى فكرة عنها، كما وجميع التكيُّفات التي قد يتفق للظروف اللاحقة أن تقتضيها. لذا لا داعي للعجب من أن التعاليم المستودَعة في الـيي-كِنگ، تلك التي صرح فو-هي نفسه أنه استمدها من ماض قديم جدًّا ويصعب تعيينُه جدًّا، قد صارت بدورها الأساس المشترك للمذهبين اللذين استمر المنقول الصيني من خلالهما حتى أيامنا هذه واللذان، مع ذلك، بسبب من اختلاف المجال الذي يعود إليه كل منهما اختلافًا تامًّا، قد يبدوان للوهلة الأولى وكأن ليست بينهما أية نقطة تماس – ألا وهما الطاوية والكونفوشية.

لوحة رمزية على هيئة جبل تمثل لمختلف المعارف التي نقلها فو-هي إلى الشعب الصيني، بدءًا من المبادئ الميتافيزيقية العليا، نزولاً حتى تطبيقاتها على سائر المجالات العرضية

ما هي الظروف التي اقتضت، بعد انقضاء حوالى ثلاثة آلاف سنة، ضرورة إعادة تكييف réadaptation العقيدة النقلية، أي ضرورة تغيير لا يتناول المضمون، الذي يبقى بدقة تامة هو هو دومًا، بل يتناول الأشكال التي "تتجسد" فيها هذه العقيدة إذا صح التعبير؟ تلكم أيضًا نقطة أغلب الظن أنه يصعب إيضاحها تمامًا لأن هذا الأمور، سواء في الصين أو في أي مكان آخر، من الأمور التي لا تترك أثرًا البتة في التاريخ المكتوب، حيث تكون النتائج الخارجية أظهر بكثير من الأسباب العميقة. ما يبدو مؤكدًا، على كل حال، أن العقيدة، كما صيغت أصلاً في عصر فو-هي، لم تعد آنذاك مفهومة على الإجمال في أكثر ما فيها جوهرية؛ وأغلب الظن أن التطبيقات التي اشتُقت منها قبلئذ، وبالأخص من وجهة النظر الاجتماعية، لم تعد توافق شروط حياة العرق التي يبدو أنها في أثناء ذلك قد تبدلت تبدلاً محسوسًا للغاية.

كان ذلك في القرن السادس قبل العصر المسيحي؛ ومن الجدير بالملاحظة أنه في ذلك القرن وقعت تغيرات لا يُستهان بها لدى غالبية الشعوب، بحيث يبدو أن ما جرى في الصين آنذاك مرتبط لا محالة بسبب ما، لعل من الصعب تحديده، لكن مفعوله أثَّر في الإنسانية الأرضية جمعاء. لكن الغريب في بابه هو أن هذا القرن السادس يمكن له أن يُعَدَّ، على نحو شديد العمومية، بداية العصور "التاريخية" بحصر المعنى: فحين يراد العودة بالتاريخ إلى ما قبله يصير من المحال وضع تسلسل تأريخي تقريبي حتى، اللهم إلا في بضع حالات استثنائية، كحالة الصين بالدقة؛ أما اعتبارًا من ذلك العهد، على العكس، فتصير تواريخ الأحداث معلومة في كل مكان بدقة كبيرة إلى حدٍّ ما – وقطعًا ثمة هاهنا ما يستحق شيئًا من التفكر. فالتغيرات التي وقعت آنذاك أبدت إلى ذلك خصائص مختلفة بحسب البلدان: فالهند، على سبيل المثال، شهدت ولادة البوذية، أي تمردًا على الذهنية النقلية، ذهب حتى نفي كل سلطة، بل حتى نفي حقيقي للرئاسة anarchie في النظام العقلي وفي النظام الاجتماعي[3]؛ أما في الصين، في المقابل، فقد تكوَّن في آن معًا، متقيدَين بخطِّ المنقول حصرًا، الشكلان المذهبيان الجديدان اللذان يُطلَق عليهما اسما الطاوية والكونفوشية.

بذا كان مؤسِّسا هذين المذهبين، لاو-تسُه وكُنگ-تسُه (الذي سمَّاه الغربيون كونفوشيوس)، متعاصرين؛ ويخبرنا التاريخ بأنهما التقيا ذات يوم. سأل لاو-تسُه صاحبه: "هل اكتشفت الـطاو؟" فأجابه كُنگ-تسُه: "بحثت عنه عشرين وسبع سنين ولم أجده." وعليه، اكتفى لاو-تسُه بإعطاء محدِّثه هذه النصائح القليلة التالية:

الحكيم يحب خمول الذِّكر، فلا يفصح عن ذاته لأيٍّ كان. إنه يدرس الأوقات والظروف؛ فإذا كانت اللحظة مواتية تكلَّم، وإلا سكت. مَن بحوزته كنزٌ لا يُره لجميع الناس؛ بذا فإن الحكيم حقًّا لا يكشف عن الحكمة للجمهور. هذا كل ما عندي لأقوله لك، فاستفدْ منه.

ولدى عودة كُنگ-تسُه من هذه المقابلة قال:

لقد رأيت لاو-تسُه؛ إنه أشبه بالتنين. أما التنين فلا أدري كيف يمكن للرياح والسحب أن تحمله فيعرج حتى أعالي السماء!

تحدِّد هذه النكتة التي رواها المؤرخ سِّهْ-مَتْسْين تحديدًا كاملاً موقع كلٍّ من المذهبين – والأصح منه قولنا: شعبتَي العقيدة الواحدة – اللذين اتفق للمنقول الشرقي الأقصى أن ينقسم إليهما: فالمذهب الأول تضمَّن أساسًا الميتافيزيقا الخالصة، التي التحقت بها سائر العلوم النقلية ذات المرمى النظري العقلي spéculative (أو "المعرفي" cognitive بالأدق)، بينما انحصر الثاني في المجال العملي، مختصًّا حصرًا بميدان التطبيقات الاجتماعية. لقد اعترف كُنگ-تسُه نفسه بأنه ليس "خليقًا بالمعرفة" البتة، أي بأنه لم يبلغ المعرفة المثلى، معرفة النظام الميتافيزيقي وما فوق العقلاني supra-rationnel؛ لقد كان مطَّلعًا على الرموز النقلية، لكنه لم ينفذ إلى معناها الأعمق. لذا كان لا بدَّ لعمله من أن يقتصر بالضرورة على مجال خاص وعَرَضي كان وحده من صلاحيته، لكنه كان على الأقل حريصًا كل الحرص على عدم إنكار ما يتخطاه. لكن التابعين وتابعي التابعين من مريديه لم يحذوا حذوه في موقفه هذا دومًا، حتى إن بعضهم، وقد وُصموا بعيب شديد الشيوع بين "أهل الاختصاص" من كل صنف، اتصفوا أحيانًا باستبداد بالرأي ضيق جلب عليهم، من جانب الشارحين الطاويين الكبار من القرن الرابع قبل الميلاد، مثل لِيه-تسُه وبالأخص تشوانگ-تسُه، بعض الردود اللاذعة السخرية. لكن النقاشات والخصومات التي وقعت من جراء ذلك في بعض الفترات يجب مع ذلك ألا تدعو إلى اعتبار الطاوية والكونفوشية بوصفهما مدرستين متزاحمتين، وهما لم تكونا قط ولا يمكن لهما أن تكونا كذلك، بما أن لكلٍّ منهما مجالها الخاص الذي تفرَّدت به تفردًا بينًا. فما ثَمَّ في تواجدهما معًا غير شيء سويٍّ ونظامي تمامًا، وتمايزُهما، من بعض الوجوه، يقابل إلى حدٍّ ما بالضبط، في حضارات أخرى، تمايُز السلطة الروحية والسلطان الزمني.

كنگ-تسه

سبق لنا أن قلنا، إلى ذلك، بأن للمذهبين جذرًا مشتركًا هو المنقول الأسبق؛ إذ إن كُنگ-تسُه، شأنه في ذلك شأن لاو-تسُه سواء بسواء، لم يكن في نيَّته قط أن يعرض لنظريات ليست غير نظرياته الخاصة، نظريات تؤول بذلك إلى التجرد من كل مرجعية ومن كل مرمى حقيقي. فقد كان من عادة كُنگ-تسُه أن يقول: "إنْ أنا إلا رجل أحبَّ الأقدمين وبذل قصارى جهده لاكتساب معارفهم"[4] – وهذا الموقف، الذي يعاكس موقف المذهب الفردي لأهل الغرب المُحدَثين وادعائهم "الابتداع" بأي ثمن، هو وحده الموقف الذي يتوافق مع تكوين حضارة نقلية. إن كلمة "إعادة تكييف" التي سبق لنا أن استعملناها هي فعلاً الكلمة المناسبة هنا إذن؛ والمؤسسات الاجتماعية التي نتجت من ذلك تتحلى باستقرار ملحوظ، بما أنها استمرت منذ خمسة وعشرين قرنًا ونجت من كل فترات القلقلة التي مرت بها الصين حتى يوم الناس هذا. ليس في نيتنا أن نتوسع في شرح هذه المؤسسات التي هي، إلى ذلك، معروفة نوعًا ما في خطوطها العريضة؛ لذا سنكتفي بالتذكير بأن سِمَتها الجوهرية أنها تتخذ الأسرة أساسًا، وتتوسع منها لتشمل العرق، الذي هو مجموع الأسَر المنتسبة إلى الذرية الأصلية نفسها. فمن الخواص التي تتفرد بها الحضارة الصينية أنها تقوم بالفعل على فكرة العرق وعلى التضامن الذي يجمع أفراده فيما بينهم، في حين أن الحضارات الأخرى، التي تضم عمومًا بشرًا ينتمون إلى عروق مختلفة أو غير محددة تحديدًا واضحًا، تقوم على مبادئ موحِّدة مختلفة تمامًا عن مبدأ العرق الصيني ذاك.

حين يجري الكلام على الصين ومذاهبها بين أهل الغرب فإن الكونفوشية هي غالبًا ما يخطر بالبال بصورة تكاد أن تكون حصرية، الأمر الذي لا يعني، إلى ذلك، أنها تؤوَّل دومًا تأويلاً صحيحًا؛ إذ يُجعَل منها أحيانًا، على حدِّ زعمهم، نوعًا من "المذهب الوضعي" positivisme الشرقي، بينما هي في الواقع أبعد ما تكون عن ذلك، أولاً بسبب خاصيتها النقلية traditionnel، ولأنها أيضًا، كما قلنا، تطبيق من تطبيقات مبادئ عليا، في حين أن الوضعية تنطوي بالعكس على إنكار مثل هذه المبادئ. أما الطاوية فيُسكَت عنها عمومًا، حتى ليبدو أن الكثيرين يجهلون وجودها، أو على الأقل يحسبون أنها اختفت منذ أمد طويل وأنها لم تعد تحظى إلا بأهمية تاريخية أو آثارية وحسب؛ وسوف نرى فيما يلي أسباب هذا الغلط.

لم يكتب لاو-تسُه إلا رسالة واحدة فقط، هي إلى ذلك شديدة الاختصار: الـطاو-ته-كِنگ Tao-te-king أو "كتاب الطريق والاستقامة"؛ والنصوص الطاوية الأخرى كافة هي إما شروح على هذا الكتاب الأساسي وإما تدوينات متأخرة نسبيًّا لبعض التعاليم المتمِّمة التي كانت قبلئذ محض شفهية. والـطاو Tao، الذي يُترجَم حرفيًّا بـ"الطريق"، والذي أطلِقَ اسمُه على المذهب ككل، هو المبدأ الأعلى، منظورًا إليه من وجهة النظر الميتافيزيقية البحتة: إنه، في آن معًا، أصل الكائنات جميعًا وغايتها، كما يدل على ذلك دلالة واضحة الرمزُ الكتابي التصويري idéogramme الذي يمثِّله. أما الـته Te، الذي نفضل تأديته بـ"الاستقامة" بدلاً من "الفضيلة" كما جرت العادة أحيانًا، وذلك لكيلا يبدو علينا أننا نضفي عليه مدلولاً "خُلُقيًّا" ليس من روح الطاوية في شيء بتاتًا – الـته، نقول، هو ما يجوز لنا أن نسميه "تخصيصًا" spécification للـطاو بالنسبة إلى كائن بعينه، كالكائن البشري مثلاً: إنه المسلك الذي يجب على هذا الكائن أن يتبعه حتى تكون حياته، في الحالة التي هو عليها في الوقت الحاضر، بحسب "الطريق"، أو بعبارة أخرى، متوافقة مع المبدأ. ومنه فإن لاو-تسُه يتخذ موقفه أولاً في النظام الكلِّي، ثم ينزل إلى تطبيق بعينه؛ لكن هذا التطبيق، مع أنه يستهدف حالة الإنسان حصرًا، لا يجري من وجهة نظر اجتماعية أو أخلاقية بتاتًا؛ فالمنظور إليه هو دومًا وحصرًا الارتباط بالمبدأ الأعلى، وبذلك، في الواقع، لا نخرج من المجال الميتافيزيقي.

tao_ideogram

كذا فليس العمل الخارجي البتة ما توليه الطاوية اهتمامَها؛ فهي تعدُّه في الحاصل مما لا يُكترَث به بحدِّ ذاته، فتذهب صراحة مذهب "اللافعل" [وُو-ويْ wou-wei]، الذي يجد الغربيون بعامة شيئًا من الصعوبة في فهم مدلوله الحقيقي، مع أن بمقدورهم أن يستعينوا على هذا الفهم بنظرية "المحرك الساكن" moteur immobile الأرسطية التي تؤدي عمقيًّا المعنى ذاته، لكنهم على ما يبدو لم يتوفروا قط على استخلاص نتائجها. "اللافعل" non-agir ليس العطالة مطلقًا، بل هو بالعكس كامل الفاعلية، لكنها فاعلية مستعلية وداخلية تمامًا، غير متجلِّية، متحدة بالمبدأ، وتتعدى بالتالي سائر التمايزات وسائر المظاهر التي يحسبها العوامُ الحقَّ بعينه، في حين أنها ليست من الحق غير مجرد انعكاس متفاوت البُعد. لا بدَّ، إلى ذلك، من ملاحظة أن الكونفوشية نفسها، التي تتخذ على غير ذلك وجهة نظر العمل، لا يفوتها أن تتكلم على "الوسط الثابت" invariable milieu، أي على حال التوازن الكامل، الخالص من تقلبات العالم الخارجي المستديمة؛ لكن هذا الأمر لا يمكن له أن يكون بنظرها غير تعبير عن مثال نظري بحت، فلا تستطيع أن تدرك على الأكثر، في مجالها العَرَضي contingent، غير مجرد صورة عن "اللافعل" الحقيقي، بينما المقصود بنظر الطاوية أمر مختلف كل الاختلاف، هو عبارة عن تحقُّق فعلي تمامًا بهذا المقام المستعلي. فالحكيم الكامل، متخذًا مكانه في المركز من العجلة الكونية، يحرِّكها تحريكًا غير مرئي، بمحض حضوره، من غير أن يشارك في حركتها ومن غير أن يضطر إلى الانشغال بممارسة عمل ما؛ فتجرُّده المطلق يجعله سيدًا على الأشياء قاطبة، لأنه لم يعد قابلاً للانفعال بشيء:

لقد بلغ مقام عدم التأثر التام؛ ولما كان لا يبالي بالحياة ولا بالموت على حدٍّ سواء فإن انهيار الكون لا يسبب له أي اضطراب. فمن فرط ما أعمل بصيرته توصل إلى الحقيقة السرمدية، معرفة المبدأ الكلِّي الأحد. إنه يدع الكائنات تتطور بحسب مصائرها، فيما يقف هو في المركز الساكن من المصائر كلِّها. […] العلامة الخارجية على هذا المقام الداخلي هي ثبات الجنان: لا ثبات جنان المقدام الذي يحمل وحده، ولَعًا بالمجد، على جيش مرصوص الصفوف في المعركة، بل ثبات الروح الذي، مستعليًا عن السماء والأرض والكائنات كلها، يقيم في جسم لا يتمسك به، ولا يقيم أي وزن للصور التي تزوده بها حواسه، ويعرف الكل على الإجمال في وحدته الساكنة. هذا الروح، المستقل استقلالاً مطلقًا، هو سيد البشر قاطبة؛ فإذا حلا له أن يستدعيهم زُرافاتٍ للمثول في حضرته لهرعوا جميعًا إليه في اليوم المحدد؛ لكنه راغب عن الاستخدام.[5]

إذا اضطر حكيم متحقق، رغمًا عنه، أن يتولى المملكة برعايته لاستعمل، بلزومه مقام اللافعل، ما يتيسر له من عدم تدخُّله في إطلاق العنان لميوله الفطرية، ولاستقامت المملكة من تفويض أمرها إلى يدَي هذا المرء. فمن غير أن يُعمِلَ جوارحَه، ومن غير أن يستعمل حواسه الجسمانية، جالسًا من غير حراك، يبصر كل شيء بعينه المستعلية؛ مستغرقًا في المشاهدة، بوسعه أن يزعزع كل شيء كما يفعل الرعد؛ والسماء الطبيعية تتكيف مطواعةً مع حركات ذهنه؛ وجميع الكائنات تتبع دافع عدم تدخُّله مثلما يتبع الغبارُ الريح. فلماذا ينصرف هذا المرء إلى التحكم بالمملكة، بينما حسبه ترك الأمور تجري مجراها؟[6]

لقد أصررنا خصوصًا على مذهب "اللافعل" هذا؛ فبالإضافة إلى أنه فعليًّا واحد من جوانب الطاوية الأهم والأخص بها، ثَمَّ لهذا الإصرار أسباب أخص سيتيح ما يلي فهمَها فهمًا أفضل. لكن سؤالاً ينطرح هنا: كيف يمكن للمرء بلوغ المقام المذكور بصفته مقام الحكيم الكامل؟ الجواب هنا، كما هو في سائر العقائد المماثلة التي نقع عليها في حضارات أخرى، جواب بيِّن للغاية: يتم بلوغ هذا المقام بالمعرفة حصرًا؛ لكن هذه المعرفة، تلك بعينها التي أقر كُنگ-تسُه بأنه لم يحصل عليها البتة، هي من رتبة أخرى تمامًا غير رتبة المعرفة العادية أو "الدنيوية"، ولا تمت بصلة بتاتًا إلى معلومات "المثقفين" الخارجية ولا، بالأوْلى، إلى العلم كما يفهمه أهل الغرب المُحدَثون. لكن المقصود هنا ليس تنافرًا، على كون العلم العادي، بحُكم الحدود التي يضعها والعادات الذهنية التي يطبع ممارسيه بها، كثيرًا ما يكون عقبة في سبيل اكتساب المعرفة الحقيقية؛ لكن كل مَن يتحصل على هذه المعرفة لا بدَّ له أن يعدَّ مما لا يؤبه له التنظيرات النسبية والعَرَضية التي تطيب لغالبية القوم، والتحليلات والبحوث التفصيلية التي يتعثرون بها، والتباينات العديدة في الآراء التي تنجم عن ذلك لا محالة:

الفلاسفة يتوهون في تنظيراتهم، وأهل السفسطة في تمييزاتهم، والباحثون في استقصاءاتهم. جميع هؤلاء القوم واقعون أسرى محدودية المكان، تعمي أبصارهم الكائنات الخاصة.[7]

أما الحكيم، بالعكس، فقد تخطى جميع التمييزات الملازمة لوجهات النظر الخارجية؛ ففي النقطة المركزية حيث يقف، يختفي كل تناقض وينحل في توازن كامل:

في الحال القديمة، كانت هذه التناقضات معدومة. فكلُّها مشتق من تكثُّر الكائنات ومن ارتباطاتها الناتجة من الدوران الكلِّي؛ ومن شأنها أن تتوقف بتوقف الكثرة والحركة. وهي تكف من فورها عن التأثير في الكائن الذي اختزل أنيَّته المميزة وحركته الخاصة إلى لاشيء تقريبًا. هذا الكائن لا يعود ينازع أي كائن آخر لأنه راسخ في اللانهاية، ممحو في اللامنتهي. لقد بلغ نقطة انطلاق التحولات وهو واقف فيها، وهي نقطة محايدة لا نزاعات فيها. فبتركيزه طبيعتَه، وبتغذيته روحَه الحيوي، وباستجماعه قدراته كلها، اتحد بمبدأ التكونات كلها. وبما أن فطرته تامة وروحه الحيوي سليم، ليس بمقدور أي كائن أن يمسَّ به.[8]

لهذا بالضبط، وليس من جراء نوع من الارتياب الذي تستبعده بالطبع مرتبةُ المعرفة التي بلغها، يقف الحكيم بالكلِّية خارج جميع النقاشات التي تبلبل عوام الناس؛ فبالفعل، جميع الآراء المتناقضة بنظره لا قيمة لها على حدٍّ سواء لأنها جميعًا، بحُكم تناقُضها نفسه، نسبية على حدٍّ سواء:

نقطة نظره نقطة يبدو منها "هذا" و"ذاك"، "نعم" و"لا"، غير متمايزين بعدُ. هذه النقطة هي محور المعيار؛ إنها المركز الساكن من محيط دائرة تجري عليه الأعراض والتمييزات والفرديات جميعًا؛ لا تُرى منه سوى لانهاية ليست "هذا" ولا "ذاك"، ليست "نعم" ولا "لا". رؤية كل شيء في الوحدة الأصلية غير المتمايزة بعدُ، أو من مسافة تجعل كل شيء يغيب في الواحد – تلكم هي الفطنة الحق. […] فلا ننشغلنَّ بالتمييز، بل فلنرَ كل شيء في وحدة المعيار؛ ولا نناقشنَّ للفوز، بل فلنستعمل مع الآخرين طريقة مربي القرود. فهذا الرجل قال للقرود التي كان يربيها: "سأعطيكم ثلاث قلقاسات صباحًا وأربع مساءً." فكانت القرود جميعًا ساخطة. فقال عندئذ: "سأعطيكم إذن أربع قلقاسات صباحًا وثلاث مساءً." فكانت القرود جميعًا راضية. هذا الرجل، فضلاً عن مزية أنه أرضاها، لم يعطِها في الحاصل كل يوم إلا القلقاسات السبع التي خصصها لهم أصلاً. هكذا يفعل الحكيم: يقول "نعم" أو "لا" من أجل خير السلام، ويبقى هادئًا في مركز العجلة الكونية، غير مبال بجهة دورانها.[9]

يكاد يكون من النافل قولنا إن مقام الحكيم الكامل، بكلِّ ما ينطوي عليه مما لا يسعنا هنا أن نتوسع فيه، لا يمكن بلوغه دفعة واحدة، وإن المراتب الأدنى منه حتى – وهي بمثابة عدد مساو من الأشواط التمهيدية – غير متاحة إلا لقاء جهود ليست في مقدور إلا قلة قليلة من البشر. والمناهج التي تستعملها الطاوية لهذا القصد مناهج اتباعها عسير بصفة خاصة، والمعونة التي تقدِّمها أقل بكثير من المعونة التي يمكن الوقوع عليها في التعليم النقلي لحضارات أخرى، كحضارة الهند مثلاً؛ إنها، على كل حال، تكاد أن تكون غير قابلة للممارسة لدى أناس ينتمون إلى عروق غير العرق الذي تكيفت معه بالأخص. إلى ذلك، فإن الطاوية، حتى في الصين، لم تحظَ قط بانتشار واسع جدًّا، وهي لم تستهدف ذلك أصلاً، ممتنعةً دومًا عن كل ترويج؛ وهذا التحفظ مفروض عليها بمقتضى طبيعتها نفسها: إذ إنها مذهب مستغلق جدًّا و"مُسارَري" initiatique أساسًا، تختص به، بما هو كذلك، النخبةُ وحدها، ولا يجوز بالتالي أن يتاح لجميع الناس من غير تمييز، لأن جميعهم ليسوا حقيقين بفهمه ولا بالأخص بـ"تحقيقه". يقال إن لاو-تسُه لم يستودع تعليمه إلا مريدين اثنين، أهَّلا بدورهما عشرة مريدين آخرين؛ وبعد أن كتب الـطاو-ته-كِنگ مضى إلى الغرب وتوارى عن الأنظار؛ وأغلب الظن أنه لجأ إلى معتزَل ما في التيبت أو الهماليا يتعذر الوصول إليه، و"لا يُعرَف أين ولا كيف صرف ما تبقى من عمره"، على حدِّ قول المؤرخ سِّه-مَتْسْين.

لاو-تسه

أما المذهب المتاح لجميع الناس، ذلك الذي ينبغي لهم جميعًا، بقدر مستطاعهم، أن يدرسوه ويضعوه موضع التطبيق، فهو الكونفوشية التي، إذ تشتمل على كل ما يخص الروابط الاجتماعية، هي كافية تمامًا لتلبية حاجات الحياة العادية. ومع ذلك، بما أن الطاوية تمثل المعرفة المبدئية التي يتفرع عنها الباقي كله، فإن الكونفوشية ليست في الواقع غير تطبيق للطاوية، إذا صح القول، على نظام عَرَضي، وهي تابعة لها بالضرورة بحُكم طبيعتها نفسها؛ لكن هذا أمر ليس لجمهور الناس أن ينشغل به، وقد يتفق له ألا يشتبه في وجوده حتى، بما أن التطبيق العملي وحده داخل في أفقه العقلي؛ و"الجمهور" الذي نتكلم عليه لا مناص من أن يشمل الغالبية العظمى من "المثقفين" الكونفوشيين أنفسهم. هذا الفصل الفعلي بين الطاوية والكونفوشية، بين مذهب الباطن ومذهب الظاهر، بصرف النظر عن مسألة الشكل، عبارة عن واحد من الفوارق المرموقة بين حضارة الصين وحضارة الهند؛ ففي هذه الأخيرة، ما ثَمَّ إلا بنية عقيدية واحدة، هي البرهمنية، المشتملة في آن معًا على المبدأ وعلى تطبيقاته كافة؛ ومن المراتب الأدنى إلى المراتب الأعلى، ليس هناك، إذا جاز القول، أي انقطاع في الصلة. هذا الفارق يعود، في جانب كبير منه، إلى الفارق بين الشروط الذهنية لكلٍّ من الشعبين؛ بيد أن من المرجح أن الاستمرار الذي حوفظ عليه في الهند – وأغلب الظن في الهند وحدها – كان قائمًا في قديم الزمان في الصين أيضًا، منذ عهد فو-هي حتى عهد لاو-تسُه وكُنگ-تسُه.

يتبين لنا الآن سبب قلة معرفة أهل الغرب بالطاوية: فهي لا تظهر في الخارج مثل الكونفوشية، التي يتجلى مفعولها تجليًا مرئيًّا في ظروف الحياة الاجتماعية كافة؛ إنها وقف حصري على نخبة، لعلها اليوم أقل عددًا مما كانت في أي يوم مضى، ولا تسعى بتاتًا إلى تبليغ العقيدة المستودَعة لديها إلى الخارج؛ أخيرًا، فإن وجهة نظرها نفسها وكيفية تعبيرها ومناهجها التعليمية هي من أغرب ما يكون عن الذهنية الغربية الحديثة. غير أن بعضهم، مع علمه بوجود الطاوية، ومع انتباهه إلى أن هذا المنقول لا يزال حيًّا، يتخيل أن تأثيرها على الحضارة الصينية جملةً، بسبب من خاصيتها المغلقة، تأثير مهمَل عمليًّا، إنْ لم يكن معدومًا تمامًا، – وذلك أيضًا غلط فادح. يبقى علينا الآن أن نفسر حقيقة الأمر بهذا الخصوص بمقدار ما يتيح المقام.

بالرجوع إلى النصوص القليلة التي أوردناها أعلاه بخصوص "اللافعل" non-agir، يصير في الإمكان، من غير كثير عناء، – من حيث المبدأ على الأقل، إنْ لم يكن من حيث كيفيات التطبيق، – فهمُ ماهية دور الطاوية، وهو دور التوجيه الخفي الذي يهيمن على الأحداث بدلاً من أن يشارك فيها مشاركة مباشرة والذي لا يحول عدمُ ظهوره واضحًا في الحركات الخارجية دون عمق فاعليته أشد العمق. فالطاوية تؤدي، كما قلنا، دور "المحرك الساكن": إنها لا تسعى البتة إلى التدخل في العمل، لا بل تزهد فيه زهدًا تامًّا، على اعتبار أنها لا ترى في العمل غير مجرد تعديل مؤقت وعابر، عنصر ضئيل من عناصر "تيار الأشكال" courant des formes، نقطة على محيط "العجلة الكونية"؛ لكنها، من ناحية أخرى، أشبه ما تكون بالمحور الذي تدور عليه هذه العجلة، المعيار الذي تنضبط عليه حركتُها، وهذا بالدقة لأنها لا تشارك في هذه الحركة، وحتى من غير أن تتدخل فيها تدخلاً صريحًا. فكل ما يُجتذَب في دورات العجلة يتغير ويدول؛ وحده يبقى ما يقف، باعتباره متحدًا بالمبدأ، ثابتًا عند المركز، سرمديَّته من سرمدية المبدأ نفسه؛ والمركز، الذي لا ينفعل بشيء في وحدته غير المتمايزة، هو نقطة انطلاق كثرة غير محددة من التعديلات التي تكوِّن التجلي الكلي.

لا بدَّ لنا من أن نضيف على الفور بأن ما قلناه لتوِّنا، فيما يخص أساسًا مقام الحكيم الكامل ودوره، بما أن هذا وحده مَن بلغ المركز فعليًّا، لا ينطبق انطباقًا صارمًا إلا على المرتبة العليا من المراتب الطاوية؛ فالمراتب الأخرى أشبه ما تكون بالوسائط بين المركز والعالم الخارجي، ومثلما تنطلق برامق العجلة من قبِّها وتصل بينه وبين المحيط، يؤمِّن هؤلاء، من غير انقطاع البتة، نقل التأثير الصادر من النقطة الثابتة حيث يقيم "الفعل غير الفاعل". إن مصطلح "تأثير" influence، وليس عمل، هو الأنسب هنا فعلاً؛ ويمكن لك أن تقول أيضًا، إذا شئت، إن الأمر عبارة عن "فعل حضور" action de présence؛ وحتى المراتب الدنيا، على كونها بعيدة للغاية عن كمال "اللافعل"، تظل تتطبع به على نحو ما. إلى ذلك، فإن كيفيات توصيل هذا التأثير خافية بالضرورة عمَّن لا يرون إلا ظاهر الأشياء؛ وهي لا تقل إبهامًا بنظر الذهنية الغربية – وللأسباب ذاتها – عن المناهج التي تتيح ارتقاء المراتب. لذا فمن غير المجدي مطلقًا التوسع فيما يسمَّى بـ"الهياكل عديمة الأبواب" و"المدارس التي لا يعلَّم فيها" أو فيما يمكن أن يكُونه تكوين تنظيمات لا تتصف بأية من خصائص "جمعية" بالمعنى الأوروبي لهذه الكلمة، وليس لها شكل خارجي معين، وليس لها أحيانًا اسمٌ حتى، والتي مع ذلك تنعقد بين أعضائها رابطة فعلية من أقوى ما يكون ومن أقل الروابط عرضةً للفسخ؛ فهذا كله ليس من شأنه أن يمثل شيئًا في المخيلة الغربية لأن المألوف لديها لا يتيح هنا أي حدٍّ يصلح للمقارنة.

على المستوى الأظهر، أغلب الظن أن ثمة تنظيمات تبدو أيسر قابلية للفهم نظرًا لأنها منخرطة في مجال العمل، على كونها هي الأخرى مغايرة من حيث "سرِّيتها" للجمعيات الغربية كافة التي تدَّعي الاتصاف بهذه الصفة بشيء من التبرير. فهذه التنظيمات ليس لها عمومًا إلا أجَل مؤقت؛ فتراها تكوَّن لغرض بعينه، ثم تختفي من غير أن تترك أثرًا حالما يتم إنجاز مهمتها؛ وهي ليست إلا مجرد تفرعات عن تنظيمات أخرى أعمق وأكثر ديمومة، تتلقى منها توجيهها الحقيقي، بينما زعماؤها الظاهرون غرباء تمامًا عن المراتب الطاوية. وبعضها مما لعب دورًا لا يُستهان به في ماض متفاوت البُعد ترك في ذهن الشعب ذكريات يعبَّر عنها تعبيرًا أسطوري الشكل: بذا سمعنا الناس يروون أن سادة جمعية سرية بعينها كانوا يأخذون في ماضي الزمان حفنة من الدبابيس ويرمونها على الأرض، ومن هذه الدبابيس كان يولد عدد مساو لها من الجنود المدججين بالسلاح! إنها بالضبط قصة قدمس زارع أسنان التنين[10]؛ ولهذه الأساطير، التي لا يخطئ العوام إلا في أخذها على محمل حرفي، تحت مظهرها الساذج، قيمة رمزية حقيقية للغاية.

إلى ذلك، قد يتفق في حالات عديدة لهذه الجمعيات التي نحن بصددها، أو لأظهرها على أقل تقدير، أن تكون على خلاف وحتى على نزاع بعضها مع بعض؛ ولن يفوت الراصدين السطحيين أن يستخلصوا من هذا الأمر اعتراضًا على ما ذهبنا إليه لتوِّنا وأن يستنتجوا منه أنه، ضمن شروط كهذه، ينتفي وجود وحدة التوجيه. هؤلاء لا يتناسون إلا أمرًا واحدًا: ألا وهو أن التوجيه المقصود "يتعدى" الخلاف الذي يعاينونه، ولا يقع قطعًا في المجال الذي يتأكد فيه هذا الخلاف والذي يصح عليه وحده. وإذا كان لا بدَّ لنا من الرد على أمثال هؤلاء المعارضين، لاكتفينا بتذكيرهم بالتعليم الطاوي في التكافؤ بين الـ"نعم" والـ"لا" في اللاتمايز الأصلي، وفيما يخص وضع هذا التعليم موضع التطبيق، لأحلناهم ببساطة إلى حكاية مربي القرود.

نظنُّنا أسهبنا في القول إقناعًا بأن التأثير الحقيقي للطاوية يمكن له أن يكون عظيمًا للغاية، مع بقائه دومًا غير مرئي ومستترًا؛ فأمور من هذا القبيل لا توجد في الصين وحدها، لكن يبدو أنها مطبَّقة فيها تطبيقًا أكثر دوامًا مما هو عليه في كل مكان آخر. ويُفهم من كلامنا أيضًا أن مَن هم على اطلاع ما على دور هذا التنظيم النقلي لا بدَّ لهم أن يحترسوا من المظاهر ويُبدوا الكثير من التحفظ في تقديرهم لأحداث كالتي تجري حاليًّا في الشرق الأقصى[11] والتي يُحكَم عليها في الغالب بالمقارنة مع ما يحدث في العالم الغربي، الأمر الذي يُظهرها على غير ما هي عليه تمامًا. لقد اجتازت الحضارة الصينية العديد من الأزمات الأخرى في الماضي، وانتهت دومًا إلى استعادة توازنها؛ وفي الحاصل، لا شيء يدل حتى الآن أن الأزمة الحالية أخطر بكثير من الأزمات السابقة؛ وحتى إذا أقررنا بأنها أخطر، ليس هذا مما يحملنا على الظن بأنها ستمس لا محالة بما هو الأعمق والأكثر جوهرية في منقول العرق الذي تكفي، إلى ذلك، ثلة صغيرة من البشر للحفاظ عليه سليمًا في فترات الاضطراب، لأن الأمور من هذه الرتبة لا تستند البتة على قوة الجمهور الفظة. يمكن للكونفوشية، التي لا تمثل إلا الوجه الظاهر للمنقول، أن تختفي حتى، إذا اتفق للشروط الاجتماعية أن تتغير بما يقتضي تكوين شكل جديد بالكلِّية؛ لكن الطاوية أبعد من تأثير هذه الأعراض الطارئة. فلا ننسينَّ أن الحكيم، بحسب التعاليم الطاوية التي نقلناها، "يبقى هادئًا في مركز العجلة الكونية"، مهما اتفق للظروف أن تتغير، وأنه حتى "انهيار الكون لا يسبب له أي اضطراب".

الترجمة عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس


* Le Voile d’Isis, 1932, pp. 485-508 ; repris dans René Guénon, Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, Gallimard, 1973, pp. 102-129.

** فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الكثيرة الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)

[1] كتاب شعائر تشِوْ.

[2] تشُنگ-يُنگ، 22.

[3] كان رونيه گينون في بدء أمره، بتأثير من ممثلي المنقول الهندوسي الذين تعرف إليهم، يرى في البوذية مجرد "تمرد على الذهنية النقلية"، من حيث إنها لا تقيم وزنًا لنظام الطوائف الأربع ولسلطة النخبة البرهمنية العقلية عليه، ولا تأخذ برأي الڤيدنتيين في وجود "ذات" (آتما ātma) دائمة في الإنسان، وتعدم أية شعائر مُسارَرة initiation باطنية لا غنى عنها لكل مَن يريد دخول مجال الباطن؛ وقد ظل على هذا الرأي حتى تعرف إلى مؤلفات الفيلسوف الهندي آنندا كوماراسوامي الذي بين له بالحجة المقنعة أن البوذية مذهب باطني خالص يستغني، بالتالي، عن أية قاعدة ظاهرية اجتماعية وأخلاقية (دور البوذا في قلب الهندوسية أشبه بدور المسيح في قلب دين إسرائيل أو بدور الحلاج في قلب الإسلام)، ويلبي شروط المُسارَرة الباطنية الأرثوذكسية، ويتيح للمريد بلوغ أسمى درجات التحقق الروحي. (المحرِّر)

[4] ليون-يو، 7.

[5] تشوانگ-تسُه، 5.

[6] تشوانگ-تسُه، 11.

[7] تشوانگ-تسُه، 24.

[8] تشوانگ-تسُه، 19.

[9] تشوانگ-تسُه، 2.

[10] قدمس أمير فينيقي هو المؤسس الأسطوري لمملكة طيبة في اليونان. (المحرِّر)

[11] المقصودة هي الأحداث التي عصفت بالصين الجمهورية في ثلاثينيات القرن العشرين في أثناء الصراع على السلطة الذي تلا القطيعة (1927) بين تشانگ كاي-تشك وبين الشيوعيين. (المحرِّر)