موقف ألبير كامو من اللاعنف – جان-ماري مولر

نظرة كامو الملتبسة إلى اللاعنف

جان-ماري مولر

جان-ماري مولِّر*

 

تَرِدُ فكرةُ اللاعنف مرارًا في تأمُّلات ألبير كامو في القتل. ومن اللافت للنظر أن خصومه كثيرًا ما أخذوا عليه هروبَه إلى مثالية اللاعنف، في حين أنه لم يدَّعِه قط. ففي سنة 1961، جاءت المقدمة التي عَقَدَها جان-پول سارتر على كتاب فرانتز فانون معذَّبو الأرض[1] دفاعًا عن عنف الشعوب المستعمَرة، وفيها قَصَدَ عبر تهكُّمه اللاذع أن يصارح “اللاعنفيين” برأيه فيهم: “ما أشد سذاجة اللاعنفيين: لا ضحايا ولا جلادون! لنكن جِدِّيين!” التلميح إلى كامو واضح، والإشارة إلى نصِّه الذي بعنوان لا ضحايا ولا جلادون تدلُّ دلالةً واضحةً أنه المقصود قبل غيره.

حين تكلَّم كامو على اللاعنف فعل ذلك أولاً طعنًا في صحة “اللاعنف المطلق”[2]. ولعلَّه في ذلك لم يكن مخطئًا لأن هذا المفهوم يفتقر إلى أيِّ سَداد. غير أنه، عبر عدد من حدوسه – وبالأخص رفضه جملةً لعمليات شَرْعَنَة القتل –، تراه قد تبنَّى عمقيًّا التأكيدات الجوهرية لفلسفة اللاعنف. لكنه فعل ذلك من حيث لا يدري، إذا جاز القول. فهو لم يتصوَّر اللاعنف قط، كما لم يشكِّل اللاعنف هيكليةً لتفكيره؛ وفي الحاصل، لم يكن لديه عن اللاعنف غير إدراك مبهم ومعرفة سطحية، إذ كان يفتقر إلى الوساطات الفكرية الضرورية لاعتناق مبدأ اللاعنف. أكان من الممكن له، ربما، أن يجد هذه الوساطات في فكر گاندهي وسيرته؟ لئن كان، في مناسبات عدة، يذكر محرِّرَ الهند، مُبدِيًا له تقديره، تَراه لم يقترب منه بما يكفي كي يعرفه ويفهمه. فمن البيِّن أن “اللاعنف المطلق” الذي طعن في صحَّته لم يكن لاعنف گاندهي.

يبدو لي أن ما سأسمِّيه نظرة كامو الملتبسة إلى اللاعنف لم يستوقف نظرَ مفسِّريه. ففي الملحوظات الموجزة التي اتفق لهم أن يخصِّصوها له ساهموا عمومًا في استمرار اللبس حول اللاعنف في كتابات كامو، هذا إنْ لم يساهموا في تفاقمها. والحق أن اطِّلاعهم على الموضوع لم يكن يقلُّ إبهامًا عن اطِّلاع كامو. إذ إنه لواقع فاضح أن المثقفين الفرنسيين ظلوا عمدًا على تجاهُلهم لسيرة گاندهي.

نزع الشرعية عن القتل

يتساءل كامو: “مَن هو الإنسان المتمرِّد؟ هو إنسان يقول “لا”. لكنه، وإنْ رَفَضَ، فهو لا يزهد: إنه أيضًا إنسان يقول “نعم”، منذ أولى حركاته. […] فما مضمون هذه الـ”لا”؟”[3] هذه الـ”لا” تريد التعبير عن “الرفض القاطع لتدخُّل يُعَدُّ لا يطاق”[4] وعن “النفور من الدخيل”[5]. “التدخل” هو اقتحام العنف حياةَ البشر، و”الدخيل” هو الذي يتحمل مسؤولية هذا العنف. بذا فإن التمرُّد، في آنٍ معًا، رفض وتأكيد، استنكار وإثبات: “يبدو التمرُّد سلبيًّا، بما أنه لا يخلق شيئًا، لكنه إيجابي إيجابيةً عميقةً بما أنه يكشف، في الإنسان، عمَّا يستوجب الدفاعَ عنه دومًا.”[6] فحتى يكون الإنسان المتمرِّد منسجمًا مع نفسه، وثابتًا على انسجامه هذا، عليه أن يرفض كلَّ نيل من كرامة الإنسان الآخر: “أنا أتمرَّد، إذن نحن موجودون.”[7] فهو، إذ يتغلب على كلِّ ضغينة وكلِّ حقد، لا يستطيع إلا أن يتمنَّى لأيٍّ كان ألا يشقى من جراء الشرِّ الذي يتكبَّده: “التمرُّد، من حيث مبدؤه، يتقيَّد برفض الذل، دون استجلابه على الآخر.”[8] تأمر الأخلاق باحترام إنسانية الإنسان الآخر دون انتظار المعاملة بالمثل؛ فالعلاقة مع الآخر ليست تناظرية. وفي هذا يعتنق كامو حدسًا جوهريًّا من حدوس اللاعنف.

يشدِّد كامو على أن ما يميِّز واقع النصف الأول من القرن العشرين هو أن البشر ابتنوا مذاهبَ لتبرير القتل. إنه “زمن الإيديولوجيات”[9]. فمنذ سنة 1948 نراه يؤكد: “المصيبة هي أننا في زمن الإيديولوجيات، لا بل الإيديولوجيات التوتاليتارية.” وفي الخطبة نفسها، كان يتكلَّم على “إيديولوجيات الفعَّالية”[10]، وكلُّها يدَّعي تبرئة القتل. إنها إيديولوجيات عنف، إيديولوجيات قتل، إيديولوجيات قاتلة. مذ ذاك فإن المسألة الجوهرية التي تنطرح على الإنسان الذي لا يريد أن يفرَّ من التاريخ، إنما لا يريد أيضًا أن يتنكَّر لعقله، هي أن يتساءل إن كان من الشرعية في شيء أن يبرِّر القتل: “لن نعرف شيئًا مادمنا لا نعرف إنْ كان يحقُّ لنا أن نقتل هذا الآخر أمامنا أو أن نوافق على قتله. […] فالقتل هو المسألة [التشديد من عند الكاتب].”[11] لذا فإن كلاًّ منَّا مُلزَم أن “يتخذ موقفًا حاسمًا من القتل”[12]. “إن الحرية القصوى، حرية القتل، ليست متوافقة مع أسباب التمرُّد.”[13] فما ظلَّ الإنسانُ المتمرِّد يتمرَّد على الموت لا يستطيع إلا أن يتمرَّد على القتل: “إن عاقبة التمرُّد هي رفض منح القتل شرعيَّته بما أن التمرُّد، من حيث مبدؤه، هو احتجاج على الموت.”[14] فحتى يكون الإنسان المسؤول متَّسقًا مع مبادئه لا يستطيع أن يناضل ضد الموت دون أن يصارع القتل.

تضادُّ العنف واللاعنف

وجد كامو نفسه مرغمًا على الاعتراف بأن الإنسان المتمرِّد، إذ يشتبك مع عنف التاريخ، قد يضطر، على الرغم منه وتحت إكراه الضرورة، إلى الموافقة على القتل لئلا يكون ضالعًا في القتل: “على كلِّ حال، إذا لم يكن يستطيع دومًا الامتناعَ بتاتًا عن القتل، مباشرة أو على نحوٍ غير مباشر، فهو يستطيع أن يُعمِل حَمِيَّتَه وشغفَه في التقليل من حظوظ القتل من حوله.”[15] عليه أن يجابه على الدوام تناقضًا يتمثل في تضادٍّ يبدو في الظاهر متعذر الحل: “التعارض بين العنف واللاعنف”. “تفترض القيمةُ الموجِبةُ المحتواةُ في حركة التمرُّد الأولى التخلِّيَ عن العنف المبدئي.”[16]

لكن كامو لا يشكِّك تشكيكًا مطلقًا في المسلَّمة التي تقتضي الفعاليةُ في التاريخ بموجبها الموافقةَ على العنف. فإذا أراد الفردُ أن يفرض احترامَ الهوية الإنسانية في التاريخ فلا بدَّ له من أن ينخرط، على الرغم منه، “في عمل يفترض، لكي ينجح [التشديد من عند الكاتب]، صفاقةَ العنف.”[17] لا مناص للإنسان المتمرِّد، إذن، كلما اقتضت الضرورة ذلك، أن يوافق على القتل حين تنعدم الخيارات الأخرى، وذلك لئلا يتذرَّع بالسكوت والقعود عن العمل المتَّصفين إذ ذاك بالجُبن. ويلحظ كامو أنْ “وحدها، في عالم اليوم، فلسفة للأبدية يمكن لها أن تبرِّر اللاعنف”[18]. إن إيمان المؤمن يبيح له أن يستجير بالله لينتصر للعدل؛ لكن عدلاً يتحقق فيما بعد التاريخ لن يرضي الإنسانَ المتمرِّد لأنه لا يقدر أن يفرِّج عن المقهور هنا والآن. قد يصحُّ هذا قطعًا على بعض المؤمنين، لكن التعميم هنا من قبيل قلَّة التبصُّر. فالإيمان يستطيع – ويجب عليه قطعًا – أن يضطلع اليوم بفريضة النضال في سبيل العدالة. والواقع أن اللاعنف، مفهومًا حقَّ فهمه، لا حاجة له البتة إلى فلسفة للأبدية تبريرًا لذاته؛ إذ إنه يقتضي العمل في التاريخ ويتيحه أيضًا.

ويذهب كامو إلى المزيد من تصليب التضادِّ بين اللاعنف والعنف: “يؤسِّس اللاعنف المطلق – سلبًا – للعبودية ولعنفها، فيما يدمِّر العنفُ المُمَنهَج – إيجابًا – الجماعةَ الحيَّةَ والوجودَ الذي نستمدُّه منها. فعلى هذين المفهومين، كي يكونا خصبين، أن يجدا حدودهما.”[19] لا بدَّ قطعًا من استبقاء مفهوم “الحد”، إنما هل تصوُّر “اللاعنف المطلق” تصوُّرٌ وجيه؟ إنه لا يمكن أن يعني هنا إلا “الرفض المطلق” للعنف، ومثل هذا التعريف باللاعنف، السلبي سلبيةً مطلقةً، لا يجوز أن يتمتع بأيِّ وجاهة؛ فهو لا يأخذ في حسبانه طروحات اللاعنف بتاتًا. وفي الحاصل، يتصف هذا المفهوم “للاعنف المطلق” بعدم الفاعلية وبالعقم؛ إنه لا يجدي نفعًا ولا يفيد التفكُّرَ في العنف في شيء.

غير أن تصوُّر التمرُّد الذي يعيِّنه كامو قد يُعَدُّ واحدًا من أسُس مبدأ اللاعنف. إذ إن “لا” اللاعنف هي بالدقة “لا” تمرُّدية. فالذي يعقد العزم على اللاعنف إنسان متمرِّد أمام العنف الذي يُذِلُّ الإنسانَ ويبرِّح به بانتهاك كرامة إنسانيَّته. العنف، بحسب عبارة كامو، يُعَدُّ “تدخلاً” لا يطاق، والعنيف “دخيل” يستوجب التحييد. بذا فإن مَن يأخذ بالخيار اللاعنفي هو إنسان يقول “لا”. وهو، كذلك، إنسان يقول “نعم”، منذ أولى حركاته. وهو، إذ يقول “لا” للعنف الذي يغتصب الحياة، يقول أيضًا “نعم” للحياة. إنه يؤكد أنه يمكن للحياة أن تكون ذات معنى. اللاعنف، كالتمرُّد، انتفاضة للضمير الذي يرفض أن يرتضي القتل فيحامي عن الحياة. على العكس بالضبط مما يزعم كامو، فإن اللاعنف، أبعدَ ما يكون عن الترافُع عن الاستنكاف، يقتضي العمل. سوء الفهم هنا هائل، ولم يتمكن كامو قط من التغلب عليه تمامًا. فالإنسان المتمرِّد، في واقع الأمر، ليس مخيَّرًا بين القعود عن العمل وبين العمل العنفي، بل هو مخيَّر بين القعود عن العمل وبين العمل العنفي وبين العمل اللاعنفي. فمادام كامو لا يأخذ بالحسبان وسائل العمل اللاعنفي فإن تفكُّره في العنف واللاعنف يعاني فقدانًا جسيمًا في التوازن. بين الأول والثاني تضادٌّ أكيد، لكنه ليس التضاد الذي صاغه كامو وقدَّمه.

لو كان بإمكان الإنسان المتمرِّد أن يصوغ فلسفة، يؤكد كامو، “لكانت فلسفة حدود”[20]. إن سكوت كامو عن العمل اللاعنفي يحُول بينه وبين التساؤل عن حدوده – وهي، إلى ذلك، حدود واقعية فعلاً –. فهو هنا لا يتفكَّر إلا في الحدود التي يجب على الإنسان المتمرِّد أن يضعها على عنفه، وإذ ذاك، فإن تفكُّره في منتهى السَّداد. يدرك كامو تمامًا أن الشرط الأول لفرض حدود على العنف هو عدم شَرْعَنَته أبدًا: “إذا اتفق له، بحُكم الضرورة، أن يشارك في جريمة التاريخ فلا يحقُّ له أن يُشَرْعِنَها.”[21] إن كون العنف ضروريًّا لا يجعله من ثَمَّ شرعيًّا.

من الجوهري أن يتذكر مَن يقتل أنه على “تناقُض”: “إذ إننا نعيش بالضبط في عالمٍ العنفُ فيه مُشَرْعَن، ويجب علينا أن نغيِّر ما به إذا كنَّا لا نريده. إنما يبدو أنه ليس بالوسع تغيير ما به من غير مجازفة بالقتل.”[22] إن الأثر الشاذَّ لشَرْعَنَة القتل هو بالدقة إلغاء التناقض. فما يغذي ثقافة العنف المسيطرة على مجتمعاتنا ليس العنف بحدِّ ذاته بقدر ما هي شَرْعَنَتُه. لذا فإن أول فعل من أفعال ثقافة اللاعنف هو نزع الشرعية عن العنف.

الضرورة لا تساوي الشرعية

على الإنسان، إذ يعيش في عالم القتل، أن يختار. يؤكد كامو: “من جانبي، أظنني شبه متأكد من أنني اخترت. […] لن أكون من بعدُ أبدًا ممَّن يرتضون القتل، أيًّا كانوا.”[23] كان هاجس كامو وهمُّه الدائم هو ألا يتعوَّد القتلَ، متنازلاً بذلك عن قوة سخطه – وفي هذا الهاجس عظمة ألبير كامو وشرفه ونبله. لم يَسَعْه إلا أن يعاين، في كلِّ مكان من حوله، أن العادة قتلت السخط. والمدهش ليس هذا الانتباه الاستحواذي الذي يوليه كامو للقتل؛ المدهش هو هذه اللامبالاة بالقتل التي تسود على هذا العدد الغفير من الأذهان.

والمفارقة أن كامو، على دحضه اللاعنفَ شكليًّا وعلى تأكيده استحالتَه، عاد واعتنق التأكيد الجوهري لفلسفة اللاعنف. إذ إن من خصوصية هذه الفلسفة بالفعل أن تنظر إلى العنف بوصفه دومًا غير شرعي، حتى عندما يبدو ضروريًّا في خدمة قضية عادلة. الضرورة لا تساوي الشرعية. شَرْعَنَة العنف تحت غطاء الضرورة هو جعل العنف ضروريًّا قطعًا، وهي أصلاً شَرْعَنَةٌ لكلِّ عنف مُقْبِل واحتجازٌ للمستقبل في ضرورة العنف. فحتى عندما يبدو استعمالٌ محدودٌ ومتناسبٌ للعنف ضروريًّا تظل فريضةُ اللاعنف باقية: ضرورة العنف لا تلغي فريضة اللاعنف. بذا فإن الإنسان المتمرِّد يتحاشى بناء مذهب عقلاني ما للعنف الشرعي: “العنف النَّسَقي […] يسود على نظام للأشياء، لا على نظام للبشر.”[24] وإنه بالضبط لأن الإيديولوجيات الثورية أرادت أن تُعَقْلِنَ العنفَ والقتلَ فقد صارت هي نفسها مجرمة: “الجريمة العقلانية ليست فقط غير مقبولة على صعيد التمرُّد، لكنها تعني أيضًا موتَ التمرُّد.”[25]

عدم التضحية بالحاضر في سبيل المستقبل

لا يفتأ كامو يلحُّ في التشديد على أن إيديولوجيات العنف والقتل تصرِّف فعل الرجاء في صيغة التسويف:

توسِّع [المادية المعاصرة]، بوصفها خادمةَ التاريخ، مجالَ القتل التاريخي وتتركه في الوقت ذاته من غير تبرير، إلا في المستقبل الذي يقتضي الإيمان. […] لا مناص من الانتظار، وفي هذه الأثناء، لا يفتأ البريء يموت.

أما فلسفة التمرُّد فتصرِّف فعل الرجاء في صيغة المضارع: فالتمرُّد

[…] يمنح دون إبطاء قوةَ حبِّه ويرفض الظلم دون إمهال. حسبه شرفًا أنه لا يحسب شيئًا وأنه يوزِّع كلَّ شيء على الحياة الحاضرة وعلى إخوته الأحياء. وهو بهذا يغدق كَرَمَه على البشر المقبلين. الكرم الحقيقي تجاه المستقبل هو إعطاء كلِّ شيء للحاضر [التشديد من عند الكاتب].[26]

البحث عن وسائل كريمة

يعي كامو أن الواقعية في العمل السياسي ترغم على طرح مسألة الوسائل: “المكر والعنف والتضحية العمياء بالبشر – منذ قرون وهذه الوسائل تبرهن على قدرتها، وهذه البراهين مريرة.”[27] إذ إن وسائل العنف لا تفسد أنبل الغايات وحسب، بل تمحوها وتأتي لتحلَّ محلَّها: “نحن نعلم بأيِّ سرعة تلتبس الوسائل بالغايات.”[28] عند ذاك، يُطلَبُ العنفُ لذاته، فيصير آلة عمياء للدمار والهدم والاكتساح والموت. لذا فإن كامو ممَّن يفكرون بأنه لا يجوز استعمال كلِّ شيء في سبيل تحقيق سعادة البشر: “ينبغي خدمة كرامة الإنسان بوسائل كريمة وسط تاريخ ليس كذلك.”[29] وفي الحاصل، في وقت العمل، ليس الإنسان سيدًا إلا على الوسائل التي يقرِّر أن يطبِّقها، وليس على الغاية التي تفلت منه دومًا. ويتساءل كامو: “الغاية تبرِّر الوسيلة؟ ذاك ممكن. ولكن مَن يبرِّر الغاية؟ عن هذا السؤال الذي يبقيه الفكر التاريخي غير مبتوت فيه يجيب التمرُّد: الوسائل.”[30] الغاية، في واقع الأمر، لا تبرِّر الوسيلة؛ فلا يكفي أن تكون الغاية عادلة حتى تكون الوسائل عادلة هي الأخرى. فالواقع يبيِّن أن العكس تمامًا هو الذي يحصل: الوسائل غير العادلة تجعل الغايةَ العادلةَ غير عادلة. لذا ينبغي للوسائل أن تتوافق مع الغاية وتنسجم معها.

العنف يقتل الحقيقة

لقد فهم كامو حقَّ الفهم أن وسائل النضال المعمول بها للدفاع عن القيم يجب أن تحترم هي نفسها هذه القيم. فالدفاع عن الحقيقة بواسطة العنف هو البدء بإنكار الحقيقة. فالفريضة، إذن، مزدوجة: “جاهدْ في سبيل حقيقتك واسهرْ على أنْ لا تقتلها بالسلاح نفسه الذي تدافع به عنها [التشديد من عند الكاتب].”[31] هنا أيضًا، من غير أن يبدو كامو منتبهًا إلى ذلك، تراه يعتنق بمنتهى الدقة فكرَ گاندهي. فلكي يعيِّن گاندهي أساسَ المقاومة المدنية التي يريد تطبيقها لنيل استقلال الهند تحدَّث عن “اللاعنف والحقيقة” Nonviolence and Truth. بذا فقد أكَّد في خطاب ألقاه في 11 كانون الثاني 1930:

أتحرق شوقًا إلى بلوغ الهدف ما استطعنا ذلك باللاعنف والحقيقة. فإذا لم نكن نستطيع بلوغه إلا بالتضحية باللاعنف وبالحقيقة فعندي للانتظار صبرٌ لا ينفد. هذان الموقفان نابعان من إيماني الذي لا يتزعزع بتفوُّق اللاعنف والحقيقة. قد يبدو الطريق طويلاً، لكنني أعرف أنه الأقصر.[32]

ما هي “الوسائل الكريمة” التي يتمنَّاها كامو والتي من شأنها أن تبرِّر الغاية؟ إنها حتمًا لا يمكن أن تكون غير الوسائل التي لا تطبِّق العنف القاتل، أي الوسائل التي تتيحها إستراتيجية العمل اللاعنفي. فقد جاء في رسالة مؤرخة في 12 آذار 1952 كتبها كامو إلى إتيان بنوا: “لقد درستُ […] نظريةَ اللاعنف، ولست بعيدًا عن الخلوص إلى أنها تمثِّل حقيقةً حَرِيَّةً أن يبشَّر بها بالمثال. لكنها تستلزم عظمةً لا أتصف بها.” لا نعلم، والحق يقال، ما كانت عليه دراسة كامو لگاندهي، ومن غير المستغرَب رأيُه أنه لا يتصف بـ”العظمة” التي تستلزمها نظريةُ اللاعنف كي يتم تطبيقُها. بيد أنه كتب سنة 1958: “مهما يكن من أمر، فقد برهن گاندهي أن بإمكان المرء أن يناضل من أجل شعبه، وأن ينتصر، دون أن يكفَّ يومًا واحدًا عن استحقاق التقدير.”[33]

ألبير كامو (1913-1960)

صحيح أن كامو لم يتلفظ بكلمة “لاعنف”، لكن لاعنف گاندهي هو المقصود، ما في ذلك ريب. وهذه المرة، لا يعود الأمر يخصُّ “لاعنفًا مطلقًا” لا يمكن أن يُلهِمَ غير الاستنكاف والقعود عن العمل، ذاك الذي كان كامو يؤكد أنه متعذر لأنه فرار من التاريخ. لا، فاللاعنف الذي يشير إليه هذه المرة هو بالفعل وسيلة نضال، وسيلة كريمة بمقدورها أن تنتصر. مع ذلك، لم يتصوَّر كامو مفهومَ اللاعنف هذا، وبالأدق، مفهومَ النضال اللاعنفي. أكان فَعَلَ لو أن الوقت أتيح له لذلك؟ ليس بمستطاع أحد أن يجيب عن هذا السؤال.


* فيلسوف ومناضل لاعنفي فرنسي والناطق باسم “الحركة من أجل بديل لاعنفي”. وضع كتبًا عديدة في فلسفة اللاعنف وإستراتيجية العمل اللاعنفي، بعضها مترجَم إلى العربية: إستراتيجية العمل اللاعنفي، حركة حقوق الناس (1999)، قاموس اللاعنف، معابر للنشر/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية (2007)، اللاعنف في التربية، معابر للنشر (2009)، غاندي المتمرد: ملحمة مسيرة الملح، معابر للنشر (2011)؛ آخر مؤلَّفاته: التفكير مع كامو: القتل هو المسألة (2013).

[1] Frantz Fanon, Les damnés de la terre, Maspéro, Paris, 1961 ; pp. 9-26.

[2] Albert Camus, L’homme révolté, Gallimard, coll. Idées, Paris, 1951 ; p. 349.

[3] L’homme révolté, op. cit., p. 25.

[4] Ibidem.

[5] Ibid., p. 26.

[6] Ibid., p. 32.

[7] Ibid., p. 36.

[8] Ibid., pp. 30-31.

[9] Ibid., p. 14.

[10] Albert Camus, Actuelles, Chroniques 1944-1948, Gallimard, coll. Idées, Paris, 1950 ; pp. 257, 252.

[11] L’homme révolté, op. cit., pp. 14-15.

[12] Ibidem.

[13] Ibid., p. 341.

[14] Ibid., p. 342.

[15] Ibid., pp. 342-343.

[16] Ibid., p. 343.

[17] Ibid., pp. 343-344.

[18] Ibid., p. 244.

[19] Ibid., p. 349.

[20] Ibid., p. 347.

[21] Ibidem.

[22] Ibid., p. 147.

[23] Ibid., p. 176.

[24] Ibid., p. 349.

[25] Ibid., p. 347.

[26] Ibid., pp. 364-365.

[27] Actuelles, Chroniques 1944-1948, op. cit., p. 61.

[28] Ibid., p. 60.

[29] Ibid., p. 60-61.

[30] L’homme révolté, op. cit., p. 350.

[31] Ibid., p. 24.

[32] M.K. Gandhi, Collected Works, vol. 42, pp. 389-290.

[33] L’homme révolté, op. cit., p. 17.