أرشيف التصنيف: ج. كريشنامورتي

ابدأ حيث أنت – ج. كريشنامورتي

ابدأ حيث أنت!*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

 

كنا نتحدث عن النزاع، وعما إذا كان جميع البشر الذين عاشوا على هذه الأرض، بكل كنوزها الشاسعة، في نزاع مستمر. مابرحنا في نزاع دائم، ليس خارجيًّا مع البيئة، مع الطبيعة فحسب، لكنْ مع بعضنا بعضًا، وداخليًّا، “روحيًّا”، على حدِّ زعمنا. من اللحظة التي نولد فيها حتى نموت، نحن في نزاع. ونحن نصبر عليه؛ صرنا نتعوَّده، نحتمله. ترانا نختلق أسبابًا كثيرة لتسويغ لماذا يجب أن نعيش في نزاع. نحسَب أن الصراع والكفاح المستمر يعنيان التقدم – التقدم الخارجي – أو الإنجاز الداخلي باتجاه الهدف الأسمى.

هذه البلاد الجميلة – الهند – هي التلال البديعة، الجبال الرائعة، الأنهار الهائلة التدفق. ولكنْ بعد ألوف السنين من الشقاء والصراع والطاعة والقبول وتدمير بعضنا بعضًا، هذا ما اختزلناها إليه: قفر موحش من البشر المتوحشين الطائشين، لا يبالون بالأرض، ولا بأشياء الأرض البديعة، بجمال بحيرة، بالنهر السريع الجريان. لا أحد منا يبدو عليه الاكتراث. كل ما نهتم له هي ذواتنا الصغيرة نحن، مشكلاتنا الصغيرة نحن. يود المرء لو يبكي على ما نفعله بهذه البلاد، وعلى ما تفعله البلدان الأخرى!

Continue reading

ما الذي سيغير المخ؟ – ج. كريشنامورتي

ماذا سيغيِّر المخ؟*

krishnaji_5

كريشنامورتي: أود أن أناقش نقطة قد تكون على شيء من الأهمية. في مؤتمر انعقد في نيويورك أول هذا الربيع، كان حاضرًا أستاذٌ في الفلسفة – لا أعرف اسمه – تحول إلى الجراحة العصبية. ومما قاله بدا أنه رجل ذكي نوعًا ما. (أنا لا أتعالى، رجاءً.) وعند نهاية النقاش، قلت إن الشيء المهم، الجدير بالاهتمام حقًّا، هو إنْ كان بإمكان خلايا المخ، التي طالما أشرطت، أن تُحدِث في نفسها طفرة. فقال لي هذا الجراح العصبي: "تلك هي النقطة التي أريد أن أصل إليها. لو أمكن لذلك أن يحدث لكان أروع الأشياء. فنحن نحاول، بطُرُق متنوعة، أن نغير الخلايا." وأضاف: "أود أن أتحدث معك حول الأمر." لكن ذاك كان آخر لقاء، وكان الوقت قد نفد، فافترقنا.

أود أن أناقش هذا معكم: مسألة إنْ كان بإمكان خلايا المخ التي أشرطت طوال قرون على الكاثوليكية أو الپروتستانتية، على الهندسة، على الفلسفة، إلى آخر ما هنالك، أن تصير واعية لنفسها، فتخترق بالتالي إشراطها جذريًّا – ليس عبر المصادفة، أو عبر الهندسة الوراثية، أو عبر صدمة كهربائية، عبر الاختبار من الخارج للتأثير على الداخل – فنحن نتكلم على شيء مختلف كل الاختلاف عن ذلك.

مخي ليس منفصلاً عني. فإذا أشرط مخي كهندوسي، ومن بعدُ عبر أشكال متنوعة من القَسْر، أشكال متنوعة من الضغط (ليس مخي تحديدًا، ولكنْ هَبْ أن هذا المخ قد أشرط إشراطَه عند البشرية بأسرها)، ما الذي سيجعله واعيًا بنفسه من غير ضغط من الخارج، من غير أي أزمة، من غير أي شقاء أو تضحية؟ ما الذي سيُحدِث ذلك، بحيث تعي الخلايا نفسُها وضعَها، فتتفجر من الداخل؟ – من غير ضغط، لأنك إذا مارست ضغطًا، انصاع ذلك لفعل شيء آخر؛ إذا اتكلتَ على حادث، فقد يحرِّف ذلك البنية بأسرها. إذا تعاطيتُ مخدرًا لكي أغير خلايا المخ، فذاك هو الآخر تحريف. أما وأني أرى ما يحدث في العالم، أكنت هندوسيًّا أو كاثوليكيًّا أو مهما كنت، أقول لنفسي: "هل من الممكن تغيير خلايا المخ تلك – من دون أي باعث؟" إذا وُجِدَ باعث، إذ ذاك يكون هناك اتجاه، ومن ثم يكون…

فلنتحدث عن ذلك قليلاً. هَبْ أنني مشروط ككاثوليكي أو بوذي (أنا في منطقة أكثر أمانًا هناك). أنا بوذي، ومنذ الطفولة قيل لي يومًا بعد يوم، يومًا بعد يوم، أن أكرر عبارات بعينها. وهكذا مافتئت أكرر؛ وذلك التكرار، ذلك البرنامج أشرط خلايا المخ، العملية كلها. والآن، تظهر أنت وتقول إن كون المرء بوذيًّا أو مسيحيًّا أو مهما كان هو منظار ضيق جدًّا إلى الحياة، إنه يحدُّ الذات. فأرى، من غير مجادلة مسهبة، أنك على حق. تراني أتقبل الأمر لفظيًّا، لكنه لم يغير في الأمر شيئًا؛ لم يجعل المخ يقول: "بحق الآلهة، لا بدَّ من طفرة." وأنا أسأل: "ما الذي سيُحدِث هذه الطفرة؟" – من دون انضباط ذاتي، إلى ما هنالك.

أنا آخذ كمثال مخًّا متوسطًا. هَبْ أنك وإياي مخَّان متوسطان، أصابا حظًّا طيبًا من التعليم، من الذكاء، من التيقظ لأحداث العالم، إلخ. لنقل إنك وإياي عانينا الكثير من المشكلات، الأسرة، دوامة الحياة؛ وأنت وأنا بتنا ندرك أننا مشروطان، أنت كمسيحي، أنا كبوذي، أو كعالِم مسيحي[1]، أو شيء ما. ثم تراه يظهر ويقول: "انظرا إلى ما تفعلان. هذه السيرورة المحدِّدة للذات شديدة التخريب." وهو يورد لك الأسباب كافة، فيبسط بذلك خريطة التركيز الخادع للنفس برمتها. وتراني أرى حقيقة الأمر، لكن هذا لم يؤثر في الخلايا تأثيرًا جذريًّا؛ جذريًّا – لم يُحدِث انقلابًا كليًّا [في السيرورة]. ما فعله هو أني سطحيًّا تحولتُ عن البوذية، وتحولت أنت عن الشيء الذي أنت متعلق به، وترانا نشعر أننا أفضل حالاً نوعًا ما – وكلمة "أفضل" تلك، هي الأخرى، شيء رهيب بنظري. لكني أسأل: "كيف يمكن لك وكيف يمكن لي أن نُحدِثَ فعلاً أو عدم فعل من شأنه أن يغير الخلايا؟"

س: إنها طاقة…

ك: إياك. ألا ترين أنك لا تتقصين؟ إذا قلتِ إنها طاقة، فأنت تضعين نفسك في موقف يُشعِرُكِ بأنك لا تستطيعين أن تفعلي شيئًا. على العكس، قد يكون بمقدوركِ أن تفعلي شيئًا خارقًا! يقع التلف على خلايا المخ عندما يكون هناك أي نوع من الإجهاد، أي نوع من النزاع، أي نوع من محاولة أن تكوني شيئًا، فتخفقين ثم تتباكين على ما فاتك.

والآن، أقول لك إن فعل ذلك ممكن. لكنك لا تقبل قولي. تراك تقول: "بيِّنْه لي، برهنْ لي عليه." فأقول: "لا أستطيع أن أبرهن عليه بطريقة البرهان العلمي"، بمعنى وضع فرضية، ثم تجريبها على الأرانب – الأرانب البشرية والأرانب العادية –، فالقول: "هو ذا، لقد حصلنا على النتيجة!" فالنتيجة عملية مأخوذة من الخارج – من الخارج. أقول إن ذلك العمل من الخارج بالذات هو أحد عوامل التلف، لأنك عندئذ متكل على الخارج. وإذن، ليس هناك اتكال على الخارج: الإرادة، الأمل، الصلاة، الاسترشاد، كما تعلمون، الأشياء كلها التي نلهو بها نحن السخفاء! فما الذي سيجعل خلايا المخ تتغير، فتُحدِثَ تغييرًا في نفسها إذ تقطع كل نوع من أنواع التأثير الآتي من الخارج؟ فهل قطعتموه يا ترى؟ هَبْ أنكم قطعتموه. هَبْ أنني قطعتُه، بحيث لا يكون ثمة اعتماد على المخدرات، على الإرادة، على وسيط خارجي، الله أو سواه. القيام بهذا كله يستلزم انتباهًا هائلاً. إذ ذاك، ماذا يحدث؟

قبل كل شيء، هل ذاك ممكن؟ هل هو ممكن بنظرك؟ وأعني الفعل الآن، صحيح؟ أنت ترى أن أي شكل من أشكال الوساطة الخارجية يتدخل في خلايا المخ إنما هو تحريف. والتحريف هو إشراطنا لأنه سُكِبَ فينا برمته: أنك كاثوليكي، أنك هندوسي، أنك يجب ألا تفعل هذا، يجب ألا تفعل ذاك، يجب أن تنجح، يجب أن تشقى، أو لا تشقى. أي أن الخارج قد أشرط المخ – الخبرة الخارجية، الحوادث الخارجية، الپروپاگاندا [الدعاية] الخارجية – والإشراط تحريف. ومنه، يجب على الاتكال على الخارج أن ينعدم – وهذا مُتناسى تناسيًا تامًّا…

س: أصعب ما في الأمر هو أنك قد تفهم، لكنْ قد يظل هناك عنصر أمل فيه. تلك هي المشكلة…

ك: فكأنك تستأصل سرطانًا، تزيله تمامًا.

س: بلا باعث مطلقًا.

ك: بلا باعث مطلقًا.

س: قد يكون ذلك هو الشيء الذي لا أستطيع أن أتتبَّعه.

ك: لا، لا، أنت لا تتتبَّعه. إنه جزء منك، لا تقدر أن تتبعه. إنه يلفت النظر إلى شيء، وأنت تفهم، أنت ذاك. اسمع، سيدي: يقول ك[2] إن الشقاء يجب أن ينتهي. صحيح؟ ذاك ليس تعليمًا. إنه يجب أن ينتهي. الأمر منوط بك، أنت لا تتبع ك. أنت تقول: "نعم، ما يقوله صائب. بوسعي أن أرى ذلك. ما لم ينتهِ الشقاء تنعدم المحبة. أرى ذلك." فهو عندئذ جزء منك؛ وأنت لا تتبع ذلك الرجل المسكين ولا تعليمه. ذاك جزء منك. هل أوضحتُ الأمر؟

ومنه، هل أستطيع، هل يستطيع إنسان أن يكون بهذه الحرية التامة من الوساطة الخارجية؟ أجل، سيدي، ذاك هو الشيء الأهم – وإلا فأنت تلهو بألعاب!

س: اهتمامنا منصبٌّ أكثر على بناء المدارس والقيام بالعمل في اللجان وأمور من هذا القبيل…

ك: آ، تلك قضية جانبية وحسب. عندما تكون هذه [الرؤية] موجودة فإن ذاك [العمل] أيضًا يتم. تراني أصرف معظم وقتي متجولاً، مكلمًا المدارس، مكلمًا الطلاب، مكلمًا العلماء – وهذا لاشيء.

س: عدم اتكالي على أي شيء من الخارج، ألا يعني أنني أصير سلبيًّا؟

ك: آه، لا، لا. على العكس! أنت لا تتكل على شيء البتة. دعنا، سيدي، ننظر في الأمر. سيدي، ما هو الإيجاب وما هو السلب؟ وكيف تصل إلى الإيجاب؟ لنقل، على سبيل المثال: الحب ليس الغيرة؛ الحب ليس الغضب؛ الحب ليس وطني، وطنك… وهكذا أكشح الكره تمامًا؛ أنفي الكره، أبعده. ثم أقول أيضًا: الحب ليس الطمع، فأكون قد أبعدت الطمع. ومنه، عبر السلب تصل إلى الإيجاب. نبدأ بالنفي وننتهي بالإثبات.

فهل باستطاعة المخ البشري أن ينفي الاتكالية كليًّا، أي نوع من الاتكالية؟ هَبْ أنه يستطيع، فماذا يحدث عندئذ؟ مخي لا ينفك يُشرَط من الخارج؛ ومن الخارج كذلك يوجِد ردَّ فعله الخاص، وردُّ الفعل ذاك بعينه يُشرط المخ جزئيًّا. وإذن، فمن الخارج، وكذلك من ردود فعلي، تراه مشروطًا. إنها حركة ذهاب وإياب، فعل وردُّ فعل. الآن، هل يمكن لذاك أن يتوقف؟ تكرهني، فأكرهك؛ تركلني، فأركلك. ذاك هو الفعل وردُّ الفعل. والآن هل من الممكن للفعل/رد فعل أن ينعدم؟ قد تركلني، لكنْ ليس هناك ردُّ فعل. عندما لا يوجد ردُّ فعل فإن ركلتك لا أهمية لها، والأمر ينتهي. إذا قبَّلتني، قبَّلتك؛ إذا فعلتَ شيئًا، أردُّ عليك. ولكنْ ماذا لو فعلتَ بي شيئًا ولم أرد فعلك بتاتًا؟ أنا حساس، حي، لست ميتًا، لست مشلولاً، لكني لا أرد.

س (إيطاليا): ماذا يحدث فلا أرد؟

ك: لأنني أرى عبثية الأمر؛ أرى غباوته. لقد ركلني الناس فعليًّا، ضربوني فعليًّا، ولا أردُّ الفعل. بذا ماذا يحدث؟ إذا رددتُ الركلة… لكني، إذا لم أرد، لم أعد أنتمي إلى عنفك. الأمر، الآن، أشبه بمدٍّ داخل وبمدٍّ خارج، فعل منك وردُّ فعل مني. الفعل منك مثيل ردِّ فعلي عليك. هذا واضح. الفعل منك وردُّ فعلي عليك متماثلان.

س (إيطاليا): بعبارة طبية، ما هو العلاج الذي يجعلني لا أردُّ الفعل؟

ك: العلاج هو ذكائي الذي يقول: "لا تكن سخيفًا!" ليس هناك علاج، إنه يقول فقط: "انظر كيف تستمر الحروب." أنا بريطاني وأنت فوكلاندي، أرجنتيني؛ أنت تريد تلك الجزيرة وأنا أريد تلك الجزيرة، فنتصارع عليها[3]. ترانا لا نجلس ونقول: "انظر، كرمى لله، لنكن عاقلَين، لنتكلم في الأمر. إذا كنت تريدها، خذها، فأنت أقرب إليها بكثير مني." تستطيعان أن تناقشا الأمر، لكنكما إذا هرعتما إلى الأسلحة فات الأوان.

هل سمعتم بتلك القصة الظريفة؟ أرجو ألا تمانعوا أن أكررها. تعرفون الكاتب الأرجنتيني، ڤارغاس[4]. لقد قال إن حكاية الفوكلاند عبارة عن رجلين هرمَين أصلعين يقتتلان على مشط!

فلنواصل… إن حجتي، سيدي، كما ترى، هو أن الفعل وردَّ الفعل متماثلان؛ ومفادها: تصفعني، فأردَّ بالتالي الصفعة، وكلا الفعلين مثيل الآخر. فعلك هو صفعي، فأردُّ فعلك بصفعك؛ وإذن، ففعلك وردِّي عليه متماثلان: فعلك قائم على ردِّ الفعل، وكذلك فعلي. فماذا يحدث إذا لم أرد الفعل؟ تصفعني فلا أردُّ الفعل عندئذ – ليس لأنني فاضل، أمارس اللاعنف، تلك المهزلة كلها. لا أردُّ وحسب. أرى عبثية ردِّ الفعل.

أنا ألفت النظر إلى شيء شديد البساطة: فعلك كان قائمًا على ردِّ الفعل، وفعلي كذلك قائم على ردِّ الفعل. وإذن، لا فارق ثمة، ثمة ردُّ الفعل فقط. إذا كنت في پولونيا وكان أناس بغيضون يتسلطون علي، مانعين الحرية، أردُّ الفعل. بطبيعة الحال، يجب أن أرد الفعل. لا أستطيع أن أقول: "طيب، لن أرد!" عليك أن ترد الفعل.

س: لكن ذاك عنف!

ك: سيدي، كما هي حال الأمور، حيث تحاول روسيا أن تسيطر على پولونيا، تقول پولونيا: "إليكم عني إلى الجحيم!" كما هي حال الأمور، عليهم أن يقولوا: "إليكم عنا إلى الجحيم". لكنني إنسان. نحن نتكلم على بشر، لا على پولونيا أو روسيا!

الآن، دعونا ننظر في الأمر. الفعل وردُّ الفعل من طبيعة واحدة. ذاك اكتشاف هائل بنظري. إذن، أرى العبثية، وبذلك ينعدم الفعل/رد فعل. مخي أشرط على ردِّ الفعل – فعل/رد فعل، فعل/رد فعل –؛ فهل يمكن لذاك أن يتوقف؟ تمتدحني، فأشعر بأني عملاق؛ تسبُّني، فأقول: "ما أبشع ذلك!" عدم ردِّ الفعل إطلاقًا. لست مشلولاً، لست في حال غيبوبة أو شيء من هذا القبيل، أنا حي، لكني لن أردَّ الفعل. ينعدم ردُّ الفعل. وإذا انعدم ردُّ الفعل، ألا تكون قد غيرتَ بنية خلايا المخ؟ الأمر بهذه البساطة.

س: لم أعد محدودًا.

ك: لا، لا تختزل الأمر إلى ذلك. نحن نتكلم على طفرة في خلايا المخ. وخلايا المخ قد أشرطت على الفعل/رد الفعل، فعل/رد فعل. تقول إني متوحش، فأنعتك بأسوأ؛ أو تنعتني بالتوحش، فأقول إني يجب ألا أكون متوحشًا. إنه الشيء نفسه. وإذن، فخلايا المخ قد أشرطت على الفعل وردِّ الفعل. وخلايا المخ ترى أن كليهما قائم على ردِّ الفعل. لحظة تعي ذلك، تكون خلايا المخ قد تحركت في اتجاه مختلف كل الاختلاف.

إن واحدة من صعوباتنا هي أننا نملك ذهنًا شديد التعقيد، مخًّا شديد التعقيد، فلا نبدأ بأشياء بسيطة. كن بسيطًا. إذا كنتُ طماعًا، فأنا طماع! أقول ذلك، فأكون بسيطًا للغاية. لا أقول إنني يجب ألا أكون طماعًا، أو إنني هذا أو ذاك. أنطلق من الـما هو – وهو انطلاق من البساطة. وفيما أنت تتقدم، يصير الأمر أعقد فأعقد. والتعقيد لا ينحل إلا عبر البساطة.

زانن، 23 تموز 1983 (2)


* From the transcript of the tape recording of the International Committee Meeting at Saanen, 23 July, 1983 ©2000 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd., pp. 14-21.

[1] نسبة إلى "العلم المسيحي" Christian Science: مذهب ديني أسَّسته ماري بيكر إدي في العام 1866 ووضعت قواعده في كتابها العلم والصحة مع مفتاح الكتاب المقدس (1875)؛ ومفادها أن الإنسان والكون ككل من طبيعة روحية وأن الحق والخير حقيقيان، بينما الشر والباطل ليسا حقيقيين. ويعتقد "العلماء المسيحيون" أن كل شيء ممكن في سبيل الخير، عبر الله، بالصلاة والعلم والفهم، بما ذلك الشفاء من الأمراض المستعصية. (المحرِّر)

[2] كان من عادة كريشنامورتي أن يشير إلى نفسه بحرف "ك" تجنبًا لاستعمال ضمير المتكلم. (المحرِّر)

[3] إشارة إلى الحرب التي نشبت في العام 1982 بين إنكلترا والأرجنتين على جزر الفوكلاند (المالڤينا) في عهد رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. (المحرِّر)

[4] لعله الكاتب الپيروڤي ماريو ڤارغاس يوسا. (المحرِّر)

ماذا يحاول أن يقول لي؟ – ج. كريشنامورتي

ماذا تراه يحاول أن يقول لي؟*

krishnaji_4

كريشنامورتي: أنا إنسان عادي. أصادف كتابًا من كتب ك[1]، فيصعقني تصريح أو تصريحان مما جاء في الكتاب، فأرغب في معرفة المزيد عن الأمر. أرى أنه يعارض – أو أنه لا يؤيد – المؤسسات والمنظمات "الروحية" المزعومة. وهو يحدِّثني عن مشكلاتي. إنه يدل على ماهية مشكلاتي وعلى حلِّ تلك المشكلات. وهَبْ أن عندي مشكلة – لست سعيدًا في عملي، لست سعيدًا في علاقتي مع الآخرين، تراني برمًا نوعًا ما بالحياة ككل لأني وجدت أن معناها فعليًّا ضئيل جدًّا. أذهب إلى العمل، أتعاطى الجنس، عندي أسرة، أو لا أسرة عندي، وتراني أشرب، وغير ذلك. إذا كنت في الهند، فأنا مقيد بالتراث، وأرى أنه "ضد التراث"، إذا جاز لي أن أستعمل هذا التعبير. وهو لا يعطيني أي توجيهات؛ سواء كنت غربيًّا، أوروبيًّا، أو شرقيًّا، هنديًّا، فهو لا يعطيني أي توجيهات، وتراني أريد توجيهات، فأنا متعود ذلك. ولأنه لا توجد [عنده] توجيهات، قد أطرح الكتاب وأقول: "أي هراء هذا الذي يتحدث عنه!"

أما إذا كنت محبًّا للبحث بعض الشيء، فأسأل: "لماذا ليس عنده توجيهات؟ لماذا لا يأمرني بما يجب أن أفعل؟" وأبدأ بالاستفسار وقراءة المزيد. أكتشف أن التوجيهات تجعل المرء أكثر آلية، أكثر غفلة بنفسه فحسب، فأواصل التقصي. أرى أنه مصيب تمامًا. أرى حماقة التوجيهات. وأرى كذلك أنه كانت هناك توجيهات من قبلُ لأني درست الأمور الدينية بعض الشيء، فأقول: "والآن، ماذا أنا فاعل؟" ذلك هو سؤالي الأساسي. ماذا أنا فاعل؟ – أنا الذي يعيش حياة عادية: أذهب إلى المكتب أو المصنع، أو أمارس نوعًا من العمل – ماذا أنا فاعل؟ من خلال قراءتي للكتاب، هل يأمرني بما يجب أن أفعل؟ وأجد أنه لا يفعل ذلك بتاتًا. فماذا يحاول أن يقول لي يا ترى؟ إنه يحاول أن يقول لي: "كن واعيًا بنفسك، تعرَّفْ إلى شرطك، انظرْ ما هي الفخاخ وتقصَّ تلك الفخاخ – الفخ الديني، الاقتصادي"، إلخ، إلخ.

إن ما يحاول أن يقوله لي أساسًا هو أن أوقظ ذكائي – لا ذكاءه أو الذكاء الذي يتجلَّى في الكتاب؛ إنه يحاول أن يقول لي: "كُرمى للحق، أيقظْ ذكاءك، أشهرْه، تساءلْ، حاججْ، ناقشْ، شكِّكْ." إنه يقول لي ذلك كله. لذا أبدأ باكتشاف أني نوعًا ما شخص غبي، فظ، جلف. لكني لست عديم الحساسية تمامًا، وهو يقول لي: "استيقظ، إنها حياتك، أحلِل النظام فيها في حذاقة." لكن تنشئتي كلها قامت على "مُرني بما أفعل"؛ لذا تراني أقاوم هذا، فأرتد إلى تلك الـ"مُرني بما أفعل". ومع ذلك فهو يقول: "لا تسلْ عما أنت فاعل، بل غُصْ في الأمر، ناقشْ." ومن ثَمَّ تنشأ فيَّ المقاومة في مقابل ما قرأت. وهكذا يوجد نزاع بين ما قرأت وبين مقاومتي.

ثم أصل إلى مأزق، بسبب كسلي، بسبب حياتي الأسرية وسائر تلك المشكلات، فأنصرف عن الأمر مدة، قد تكون عامًا أو ستة أشهر أو يومًا واحدًا. أنصرف عنه مدة ما. لكن البذرة زُرعت فيَّ، بذرة أن "المسئول عن أفعالك هو أنت ولا أحد سواك!" ذاك ما يقوله لي وأوافق عليه. أرى منطقيته، فأقبل ذلك. لكن عندي عملاً، أذهب إلى المكتب أو المصنع، أنا نجار أو عالِم أو ما شاكل، وأرى أكثر فأكثر التناقض في حياتي بين ما قرأت وبين ما أنا عليه. وهكذا يجري نشاط فصامي: تقبُّل لفظي للكتاب ولما قرأت من ناحية، وحياتي اليومية من ناحية ثانية.

فأنا الآن مهتم بالنزاع. أعي فجأة بأن حياتي ككل قائمة على النزاع. والآن أقول مجددًا: "مُرني، أرجوك، بما أفعل حيال هذا النزاع الرهيب عندي." فهناك فيَّ من جديد هذا التناقض الواقع: "مُرني، دعني أتقبَّل أفكارك." ومن ثَمَّ أعي تدريجيًّا بأني أنشئ سلطة. أصير تدريجيًّا واعيًا بأن ما أريده حقًّا هو السلطة، شخصًا يرشدني. وهو ذا يقول: "لا تفعل ذلك، كن نورًا لنفسك." وأستسلم – فالأمر على غاية من الصعوبة. فتراني تائهًا بلا أمل. أنا تائه، ولعلي مكتئب، فأقول: "طيب، الأمر لا يستحق الجهد، فلننسَه. ليس عندي الطاقة، ليس عندي الحافز، ولعلي أصل ذات يوم إلى مكان ما أو سواه."

هذا ما يحدث عمومًا مع غالبيتنا، كما أفهمه – وقد أكون مخطئًا. هناك الذين بلغوا هذه النقطة ويستمرون، لا يستسلمون، لا يقرون بالهزيمة – ولعل تلك هي حال غالبيتنا. ثم أرى أهمية إيقاظ الذكاء والتيقظ لواقع أني يجب أن أكون نورًا لنفسي. أنا لست شديد الفطنة؛ أنا فعال إلى حدٍّ ما في نشاطي الدنيوي؛ لكن هذا الأمر يستدعي نوعًا مختلفًا تمامًا من الذكاء، نوعًا مختلفًا تمامًا من التفتح.

فأين أنا الآن؟ عليَّ أن أعيش في هذا العالم. عليَّ أن أجني المال. عندي عائلة، وعليَّ أن أعيلها. زوجتي غير مهتمة بهذا كله. أولادي يذهبون إلى المدرسة، يزدادون جلافة وفظاظة وقلة حساسية، وليس بيني وبينهم علاقة. فأرى اللخبطة الرهيبة التي افتعلتها لنفسي وللآخرين. والآن، كيف لي أن أوقظ ذلك الذكاء بحيث يكون بوسعي التعامل مع هذا كله؟ لقد سبق لي أن قرأت كتبًا عديدة، لا [كتب] ك وحسب بل كتب أخرى أيضًا؛ أصبت قليلاً من الفلسفة الهندية ومما قاله البوذيون. لست مهتمًّا بصفة خاصة بالمسيحية لأنها لا تتأسس على فلسفة، بل تقوم على الاعتقاد والإيمان والسلطة، بحيث إنها لا تستهويني كثيرًا. وهكذا بتُّ أدرك بأني أتخبط في هذه الفوضى وأسأل نفسي عما أنا فاعل. كيف لي أن أوقظ ذاك الذكاء الذي سيتعامل في وضوح مع قضايا العلاقة هذه كلها، إلخ، إلخ؟ فهو يقول: "كن واعيًا… كن واعيًا بالعالم الخارجي، بما يحدث فيه، انظر إليه من دون أي تحيُّز." أجد ذلك صعبًا نوعًا ما، لكني أسعى في وعي أحكامي المسبقة، إشراطي. وأصير واعيًا بأفعالي، بخواطري، بمشاعري، بالمجالات التي أعدم فيها الحساسية: أنا تافه نوعًا ما، أنا طَموح، إلى ما هنالك. وإذن فأنا أكتشف في نفسي عوامل، مصادرَ انعدام حساسيتي وبدايةَ هذا الذكاء الذي ينسلُّ انسلالاً طفيفًا. إنه ليس كامل الإزهار بعدُ، لكنه في بدايته. وأبدأ فعليًّا برؤية الأشياء التي ليست حقيقية في حياتي، الأشياء الزائفة، النفاقية نوعًا ما، فأبدأ أقول: "هل من الممكن ألا أكون منافقًا، ألا أدَّعي، ألا أضع أقنعة بحسب البيئة، بحسب الناس الذين أقابلهم؟" أرى أنه ممكن فعلاً، وأبدأ بنبذ هذا كله. لقد بدأت أدرك أن الذكاء ليس إنكار الزيف، بل هو بالأحرى وعي الزائف.

لقد بدأت أدرك أن الأشياء التي ظننتها قيِّمة، أو ذات مغزى ما، لا معنى لها فعليًّا على الإطلاق. القيم، المُثُل التي اتخذتها، لا قيمة لها فعليًّا، لا عمق فيها. وذاك الإدراك بالذات بأنها عديمة العمق يجعل الزائفة منها أو التي لا مغزى لها تتلاشى. لم أصارعها، لم أقل بأنها صحيحة أو خاطئة، بل إن مجرد إدراك عدم معناها، عدم صحتها، مجرد ذاك الإدراك يبدأ في كشح ما ليس حقيقيًّا. فأنا صائر – لا، لست صائرًا؛ بلى، سأستعمل كلمة "صيرورة" – أنا صائر أكثر فأكثر وعيًا، أكثر فأكثر تنبهًا، أكثر فأكثر يقظة.

وهو يقول أيضًا في ذلك الكتاب شيئًا غريبًا نوعًا ما، لا أفهمه تمامًا. يقول: "لا تخضْ تلك السيرورة كلها، اقفزْ إليها! لا تمض خطوة فخطوة فخطوة، فتلك مضيعة للوقت. ففي عملية الخطوة فخطوة هذه يمكن لك أن تستمر إلى ما لا نهاية مكتشفًا مختلف أشكال خداع النفس وهكذا دواليك." ومن ثَمَّ يقول: "لا تسمح بمرور زمن بين الرؤية والفعل." وذاك بنظري مسرف في الخروج من مجال إدراكي. بذا أجدني أتقصى: ماذا يعني بذلك؟

وإذن فهل أنا بادئ برؤية أهمية الإدراك وعلاقته بالفعل؟ ذاك هو موقفي. ذاك ما سأقرِّره. ذاك ما سيقوله شخص عادي – هو أنا – وقد بلغ تلك النقطة وعلق فيها. أدور وأدور في دوائر، لكني على نحو ما غير قادر على كسر تلك الدائرة. فأسألك، أنت الذي كتب ذلك الكتاب أو صرح بهذه الأقوال: "ماذا أنا فاعل؟" فتراه يكرر الشيء نفسه: "لا تتكلْ على سواك." إنه لا ينفك يحيلني إلى نفسي. وإذن، تراني أسأم ذلك بعض الشيء، وقد أقول: "أواه، اذهب إلى الجحيم، أنا عالق وأنت لا تساعدني!" فيقول: "ما من أحد يستطيع أن يساعدك، ما من مؤسسات، ولا منظمات، ولا سلطة أو ضغوط خارجية من أي نوع تستطيع أن تساعدك." فهل تراني أصغي إليه؟ أم أن جزعي من كسر الدائرة من الهول بحيث إني لا أصغي حتى إلى ما يقول؟

وإذن، فأنا هاهنا. لست مصغيًا. وتراك تأتي وتقول لي بأن أصغي. عندما تكون عندي مشكلة خطيرة مع نفسي، فأريد جوابًا، فأكون عميق الاهتمام بالمشكلة للغاية، أجد نفسي عاجزًا عن الإصغاء. المشكلة لاذعة للغاية، عميقة الإزعاج للغاية، وأنت تقول لي: "أصغ"، فلا أستطيع. لا أعرف كيف أصغي. لكنك أخبرتني عن فعل الإصغاء، وتلك البذرة قد زُرعت. وهكذا أصغي، أتعلم. وأجدني أفعل الشيء الذي حذرني منه بالذات: "لا تسمح بمرور زمن…" أظنني سأتعلم الإصغاء، أتعلم كل شيء عنه، تدريجيًّا، ببطء، على راحتي. وهو يقول: "تلك مضيعة للوقت فحسب." وإذن فقد بلغتُ تلك النقطة. تابعوا الآن.

زانن، 23 تموز 1982 (1)


* From the transcript of the tape recording of the International Committee Meeting at Saanen, 23 July, 1982 ©2000 Krishnamurti Foundation Trust, Ltd., pp. 5-9.

[1] كان من عادة كريشنامورتي أن يشير إلى نفسه بحرف "ك" تجنبًا لاستعمال ضمير المتكلم. (المحرِّر)

فكر في هذه الأمور 16 من 27 – ج. كريشنامورتي

16

تجديد الذهن*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

ذات صباح، منذ بضعة أيام، رأيت جثمانًا محمولاً في طريقه إلى المحرقة. كان ملفوفًا بقماش أرجواني زاه، يترنح على إيقاع الفانين الأربعة الذين يحملونه. تُرى ما نوع الانطباع الذي يتركه مشهد الجثمان فيك؟ ألا تتساءل لماذا يوجد التلف أصلاً؟ تراك تشتري محركًا جديدًا من الوكالة، وفي غضون بضع سنين يبلى. والبدن أيضًا يبلى؛ ولكن هل تُراك تستفسر أكثر قليلاً لتكتشف لماذا يتلف الذهن؟ الجسم ميت لا محالة، عاجلاً أو آجلاً، لكن أغلبنا أصحاب أذهان ميتة سلفًا؛ لقد جرى عليها التلف سلفًا – فلماذا يتلف الذهن؟ الجسم يتلف لأننا نستعمله دومًا، فيبلى الجهاز العضوي: المرض، الحوادث، الشيخوخة، الطعام الرديء، البنية الوراثية الضعيفة، – هذه هي العوامل التي تسبب تلف الجسم وموته. لكن لماذا يتعين على الذهن أن يتلف، يشيخ، يتثاقل، يتبلد؟

حين ترون جثمانًا، ألم تتساءلوا يومًا حول هذا الأمر؟ فمع أن أجسامنا فانية لا محالة، لماذا يتعين على الذهن أن يتلف أصلاً؟ ألم يخطر ببالكم هذا السؤال قط؟ إذ إن الذهن يتلف فعلاً – لا نرى الأمر عند كبار السن وحسب، بل عند الشباب أيضًا: نرى عند الشباب سلفًا كيف يصير الذهن متبلدًا، ثقيلاً، عديم الحساسية؛ ولو استطعنا معرفة سبب تلف الذهن لربما اكتشفنا عندئذ شيئًا لا يمسُّه الفناء حقًّا؛ وقد نفهم ما هي الحياة الأبدية، الحياة التي لا نهاية لها، الحياة التي لا تدخل في نطاق الزمن، الحياة التي لا تفسد ولا تتفسخ كالجثة التي تُحمل إلى الـگْهَتْ [أرصفة مخصصة لحرق الجثث على ضفاف الگنْگا]، فتُحرق ويُلقى بالبقايا في النهر.

والآن، لماذا يتلف الذهن؟ هل سبق لك أن تفكرت في الأمر يومًا؟ بما أنك في ريعان الصبا – على افتراض أن والديك والمجتمع والظروف لم تصيِّرك بليدًا سلفًا – فإن لديك ذهنًا نضرًا، متلهفًا، محبًّا للاستفسار. تراك تريد معرفة لماذا وُجدت النجوم، لماذا تموت الطيور، لماذا تتساقط أوراق الشجر، كيف تطير الطائرة النفاثة، – وما أكثر الأشياء التي تريد معرفتها! – لكن ذلك الدافع الحيوي إلى الاستقصاء، إلى الاكتشاف، سرعان ما يُخمَد، أليس كذلك؟ يُخمِده الخوف، عبء الموروث، عجزنا الشخصي عن مواجهة هذا الشيء الخارق الذي يسمى الحياة. ألم تلحظ بأية سرعة تتحطم لهفتك بكلمة جارحة، بإيماءة استخفاف، بالخوف من امتحان، أو بتهديد من أحد الوالدين؟ – ما معناه أن الحساسية تُنحَّى سلفًا والذهن يُصيَّر بليدًا.

والتقليد سبب آخر من أسباب البلادة. فالتراث يجعلك تقلِّد، عبء الماضي يدفعك إلى الانصياع، إلى التقيد بالقواعد؛ وعبر الانصياع، يشعر الذهن بالطمأنينة، بالأمان، فيستقر في أخدود جيد التشحيم بحيث يستطيع أن يجري جريانًا سلسًا من غير إزعاج، من غير أدنى رعشة شك. راقب الراشدين من حولك، وسوف ترى أن أذهانهم لا تريد أن يكدِّرها شيء؛ إنهم يريدون السلام، وإنْ يكن سلام الموت. لكن السلام الحقيقي شيء مختلف كل الاختلاف.

ألم تلحظوا أن الذهن، حين يستقر في أخدود، في قالب جاهز، مدفوع دومًا بالرغبة في الأمان؟ لذلك فإنه يتبع مثالاً، قدوة، گورو [معلمًا روحيًّا]. إنه يريد أن يكون مطمئنًّا، لا يكدِّره شيء، ولهذا يقلِّد. عندما تقرؤون في كتب تاريخكم عن قادة عظام، قديسين، محاربين، ألا تجدون أنفسكم راغبين في محاكاتهم؟ – لا بمعنى أنه لا يوجد في العالم أناس عظماء، لكننا نندفع بالغريزة إلى تقليد العظماء، فنحاول أن نتمثل بهم؛ وذلك عامل من عوامل التلف لأن الذهن عندئذ يضع نفسه في قالب.

وفوق ذلك، فإن المجتمع لا يريد أفرادًا أيقاظًا، متوقدين، ثوريين، لأن أمثال هؤلاء لن ينصاعوا للقالب الاجتماعي الموضوع، وقد يحطمونه. ولذلك فإن المجتمع يسعى في احتجاز ذهنك في قالبه، وتشجعك تربيتك المزعومة على التقليد، على الاتِّباع، على الانصياع.

والآن، هل بوسع الذهن أن يكف عن التقليد؟ بعبارة أخرى، هل بوسعه أن يكف عن تشكيل عادات؟ وهل بوسع الذهن، الواقع سلفًا في شَرَك العادة، أن يتحرر من العادة؟

الذهن هو نتاج العادة، أليس نتاجها؟ إنه نتاج الموروث، نتاج الزمن – الزمن بوصفه التكرار، بوصفه استمرارًا للماضي. فهل بوسع الذهن – ذهنك أنت – أن يتوقف عن التفكير بلغة ما كان، وبلغة ما سوف يكون، الذي هو حقًّا إسقاط لما كان؟ هل بوسع ذهنك أن يتحرر من العادات ومن ابتكار عادات؟ لو تعمقت متبحرًا في هذه المشكلة ستجد أن بوسعه ذلك؛ وعندما يتجدد الذهن من غير أن يشكل أنماطًا وعادات جديدة، من غير أن يقع مرة أخرى في أخدود التقليد، يبقى عندئذ نضرًا، فتيًّا، بريئًا، وبالتالي قادرًا على فهم لانهائي.

إن ذهنًا كهذا لا يعرف الموت لأنه لم تعد فيه سيرورة تراكُم. إن سيرورة التراكم هي التي تنشئ العادة، التقليد؛ والذهن الذي يُراكِم ذهن يتلف، يموت. لكن ذهنًا لا يُراكِم، لا يلملم، بل يموت كل يوم، كل دقيقة، – ذهنًا كهذا لا يعرف الموت. إن حاله حال فضاء لانهائي.

وإذن، فلا بدَّ للذهن من أن يموت عن كل ما لملم – عن العادات كلها، عن الفضائل المزيفة، عن كل ما اتكل عليه ليكفل له شعوره بالأمان. إذ ذاك لا يعود واقعًا في شباك تفكيره. فالذهن، إذ يموت عن الماضي من لحظة للحظة، يصبح نضرًا، وبالتالي لا يمكن له أن يتلف أبدًا أو أن يطلق موجة الظلام.

سؤال: كيف يمكن لنا وضع ما تقوله لنا موضع التطبيق؟

كريشنامورتي: تراك تسمع شيئًا تظنه صحيحًا، فتريد أن تطبِّقه على حياتك اليومية؛ وبذا توجِد فجوة بين ما تعتقد وبين ما تفعل، ألا توجِد؟ تعتقد شيئًا، فتفعل شيئًا آخر. لكنك تريد تطبيق ما تعتقد، فتحصل هذه الفجوة بين العمل والفكر؛ ومن ثَمَّ تسأل عن كيفية سدِّ الفجوة، عن كيفية الربط بين تفكيرك وعملك.

والآن، عندما تتحمس لفعل شيء ما، تراك تهبُّ لفعله، ألا تفعل؟ حين تريد الذهاب للَّعب بالكرة أو تفعل شيئًا آخر ما يهمك حقًّا، تراك تجد السبل والوسائل لفعله؛ إنك لا تسأل أبدًا عن كيفية تطبيقه. إنما تفعله لأنك متقد، لأن كيانك كله – ذهنًا وقلبًا – يكون فيه.

لكنك بخصوص هذه القضية الأخرى صرت ماكرًا للغاية، تعتقد شيئًا وتفعل شيئًا آخر. تراك تقول: "هذه فكرة ممتازة، أوافق عليها عقليًّا، لكنى لا أدري ما أفعل حيالها، فرجاءً قل لي كيف أضعها موضع الممارسة" – ما معناه أنك لا تريد أن تفعلها بتاتًا. ما تريده حقًّا هو تأجيل العمل، لأنك تستحب كونك حسودًا بعض الشيء، أو شيئًا من هذا القبيل، فتراك تقول: "الناس غيري كلهم يحسدون، فلم لا أكون مثلهم؟"، وتواصل حياتك كما في السابق وحسب. لكنك إذا كنت حقًّا لا تريد أن تكون حسودًا وترى حقيقة الحسد مثلما ترى حقيقة كوبرا [أفعى سامة]، إذ ذاك تكف عن الحسد وتنتهي منه، ولا تسأل أبدًا عن كيفية التحرر من الحسد.

وإذن، فالمهم هو رؤية حقيقة الشيء، وليس التساؤل عن كيفية تنفيذه – لأن سؤالك معناه حقًّا أنك لا ترى حقيقته. عندما تصادف كوبرا على الطريق لا تسأل: "ماذا علي أن أفعل؟" إنك تفهم جيدًا خطورة الأفعى فتتفاداها. لكنك لم تفحص أبدًا عن كل مضامين الحسد حقًّا، إذ لم يكلمك عنه أحدٌ قط أو تعمق معك فيه. لقد قيل لك إنك يجب ألا تكون حاسدًا، لكنك لم تمعن النظر في طبيعة الحسد، لم ترصد أبدًا كيف أن المجتمع وجميع الأديان المنظمة قائمة عليه، على الرغبة في أن تصير شخصًا مرموقًا. لكنك لحظة تتعمق في الحسد وترى حقيقته حقًّا، تراه يتلاشى على الفور.

سؤالك: "كيف لي أن أقوم بذلك؟" سؤال أرعن، لأنك عندما تكون مهتمًّا حقًّا بشيء لا تعلم كيف تقوم به، تراك تُعمِل ذهنك فيه، وسرعان ما تبدأ بالاكتشاف. أما إذا تقاعست وقلت: "دلَّني، أرجوك، على طريقة عملية للتخلص من الطمع"، ستظل على طمعك. لكنك لو تحريت عن الطمع بذهن يقظ، من دون أي حكم مسبق، وإذا أعملت كيانك كله في الأمر، ستكتشف بنفسك حقيقة الطمع – والحقيقة هي التي تحرِّرك، لا بحثك عن طريق للتحرر.

سؤال: لماذا لا تتحقق رغباتنا تحققًا تامًّا أبدًا؟ لماذا توجد دومًا عقبات تمنعنا من فعل كل ما نتمنى؟

كريشنامورتي: لو كانت رغبتك في فعل شيء ما رغبة تامة، وأعملت فيه كيانك برمته من دون أن تطلب نتيجة، من دون أن تريد إشباعًا – أي دون خوف –، إذ ذاك تنعدم العقبات. توجد العقبة، التناقض، فقط حين تكون رغبتك ناقصة، مشتتة: تريد فعل الشيء، وفي الوقت نفسه تخشى أن تفعله، أو تريد مناصفةً فعل شيء آخر. عدا عن ذلك، هل باستطاعتك يومًا تحقيق رغباتك تحقيقًا كاملاً؟ هل تفهم؟ سوف أشرح.

المجتمع – وهو العلاقة الجماعية بين الإنسان والإنسان – لا يريدك أن تكون لديك رغبة تامة لأنك، لو كانت لديك مثل هذه الرغبة، لغدوتَ مصدر إزعاج، خطرًا على المجتمع. إنما يُسمح لك برغبات "محترمة"، كالطموح والحسد، – فهذه لا ضير منها بتاتًا! فلأن المجتمع مؤلف من بشر حاسدين، طَموحين، يصدِّقون ويقلِّدون، يقبل المجتمع الحسد والطموح والتصديق والتقليد، على الرغم من أن هذه كلها تشي بالخوف. فمادامت رغباتك تتناسب مع النمط السائد فأنت مواطن "محترم"؛ لكن لحظة تكون لديك رغبة تامة، ليست من النمط السائد، تراك تصير خطرًا. وإذن، فالمجتمع يتربص بك على الدوام ليمنعك من أن تكون لديك رغبة تامة، رغبة تكون تعبيرًا عن كلية وجودك، فتُحدِث عملاً ثوريًّا.

العمل النابع من الوجود مختلف كل الاختلاف عن العمل الناتج عن الصيرورة. العمل النابع من الوجود هو من الثورية بحيث إن المجتمع ينبذه ويهتم حصرًا للعمل الناتج عن الصيرورة، وهو عمل "محترم" لأنه يتناسب مع النمط السائد. لكن أية رغبة تعبر عن نفسها في العمل الناتج عن الصيرورة – وهو شكل من أشكال الطموح – لا إشباع لها. لذا فإنها عاجلاً أو آجلاً تُخذَل، تعرقَل، تحبَط، فننتفض على هذا الإحباط بطرق مؤذية.

هذه مسألة من المهم جدًّا أن تتعمق فيها لأنك، وأنت تتقدم في العمر، ستجد أن رغباتك لا تُشبَع في الواقع أبدًا. ففي الإشباع ثمة دومًا ظل من الإحباط، وفي قلبك لا توجد أغنية بل صرخة. إن الرغبة في الصيرورة – في أن تصير رجلاً عظيمًا، قديسًا عظيمًا، هذا الشخص العظيم أو ذاك، – لا نهاية لها، وبالتالي لا إشباع؛ إن ما تطلبه أبدًا هو "الأكثر"، ومثل هذه الرغبة مولدة دومًا للكرب، للبؤس، للحروب. ولكنْ عندما يتحرر المرء من كل رغبة في الصيرورة، تستتب حالة وجود يكون العمل النابع منها مختلفًا كل الاختلاف. إنها موجودة؛ والموجود لا زمن له. إنه لا يفكر بلغة الإشباع؛ فوجوده بالذات هو إشباعه.

سؤال: أراني بليدًا، لكن آخرين غيري يقولون إني ذكي. فأيهما يجب أن يؤثر في: رؤيتي أم قولهم؟

كريشنامورتي: الآن، أصغ إلى السؤال في حرص شديد، في هدوء تام، لا تحاول أن تجد إجابة. إذا قلتَ لي إني رجل ذكي، بينما أعلم في قرارة نفسي جيدًا أنني بليد، هل سيؤثر فيَّ ما تقول؟ سيؤثر إذا كنت أحاول أن أكون ذكيًّا، ألن يؤثر؟ عندئذ سأعجب بنفسي، متأثرًا بملاحظتك. لكني إذا رأيت أن الشخص البليد ليس بوسعه أبدًا أن يكف عن بلادته بمجرد محاولته أن يكون ذكيًّا، ماذا يحدث عند ذاك؟

قطعًا، إذا كنت غبيًّا، وحاولت أ ن أكون ذكيًّا، سأظل على غبائي، لأن محاولتك أن تكون أو أن تصير شيئًا هي جزء من الغباء. قد يتفق للشخص الغبي أن يكتسب زركشة النباهة، وقد ينجح في بضعة امتحانات، فيحصل على وظيفة، لكنه بذلك لا يكف عن أن يكون غبيًّا. (تابعوا هذا، أرجوكم، فهو ليس بيانًا على سبيل التهكم.) لكن لحظة يعي المرء أنه بليد، غبي، وبدلاً من أن يحاول أن يكون ذكيًّا يبدأ بالفحص عن غبائه ويفهمه – في تلك اللحظة بالذات تكون يقظة الذكاء.

دونك الطمع. هل تعلم ما هو الطمع؟ إنه أكلك من الطعام أكثر من حاجتك، إرادتك أن تبزَّ الآخرين في الألعاب، إرادتك الحصول على مزيد من الأملاك، كسيارة أفخم من سيارة غيرك. ثم تقول إنك يجب أن لا تكون طماعًا، فتتمرس على اللاطمع – وهو أمر سخيف حقًّا، لأن الطمع لا يمكن له أن يتوقف بأن يحاول أن يصير لاطمعًا. لكنك إذا بدأت تفهم جميع منطويات الطمع، وبذلت ذهنك وقلبك لإيجاد حقيقته، فأنت عندئذ حرٌّ من الطمع ومن نقيضه على حدٍّ سواء. إذ ذاك تكون حقًّا إنسانًا ذكيًّا، لأنك تتصدى لـماهو ولا تقلد ما يجب أن يكون.

وإذن، إذا كنتَ بليدًا، لا تحاولْ أن تكون ذكيًّا أو نبيهًا، بل افهمْ ما الذي يجعلك بليدًا: التقليد، الخوف، محاكاة أحدهم، اتباع قدوة أو مثال، – هذه كلها تجعل الذهن بليدًا. أما عندما تكف عن التبعية، عندما تتخلص من الخوف، عندما تكون قادرًا أن تفكر بنفسك تفكيرًا واضحًا، – أفَلستَ عندئذ ألمع البشر؟ لكنك إذا كنت بليدًا، وحاولت أن تكون نبيهًا، فستنضم إلى صفوف أولئك المتبلِّدين في نباهتهم.

سؤال: لماذا نتشاقى؟

كريشنامورتي: إذا سألت نفسك هذا السؤال وأنت تتشاقى يكون السؤال عندئذ ذا مغزى، ذا معنى. لكنك حين تغضب، على سبيل المثال، تراك لا تسأل أبدًا لماذا أنت غاضب، أم أنك تفعل؟ إنك لا تسأل هذا السؤال إلا لاحقًا وحسب. فبعد أن تغضب تقول: "ما أغباني! ما كان علي أن أغضب." في حين أنك، لو كنت واعيًا، حاضر البديهة لحظة الغضب، دون أن تدينه، لو كنت حاضرًا بكليتك عندما يطرأ الهيجان على ذهنك، سترى عندئذ بأية سرعة يتلاشى.

يتشاقى الأطفال في سن معينة – ويجب أن يتشاقوا – لأنهم مفعمون طاقةً وحيويةً ونشاطًا، ولا بدَّ لهذه من أن تتفجر في شكل ما أو آخر. ولكن هذه المسألة، كما ترون، مسألة معقدة حقًّا، لأن سبب التشاقي قد يكون الطعام الخاطئ أو قلة النوم أو الشعور بعدم الأمان وما إلى ذلك. فإذا لم تُفهم جميع العوامل الداخلة في المسألة حق فهمها، إذ ذاك فإن الشقاوة من جانب الأطفال تصير تمردًا ضمن المجتمع، ليس لهم فيه من متنفَّس.

هل تعلمون من هم الأطفال "الجانحون"؟ إنهم أطفال يفعلون أشياء مريعة من شتى الصنوف؛ إنهم في حال تمرُّد ضمن سجن المجتمع لأنهم لم يساعَدوا أبدًا على فهم مشكلة الوجود في كليتها. ما أشد حيويتهم، وبعضهم خارق الذكاء، وتمردهم هو طريقة للقول: "ساعدونا على الفهم، على اختراق هذا الإكراه، هذا الانصياع الرهيب." لذلك فإن هذه مسألة هامة للغاية بنظر المربي، الذي تفوق حاجته إلى التربية حاجة الأطفال إليها.

سؤال: تعودت شرب الشاي. يقول أحد المدرسين إنها عادة سيئة، بينما يقول مدرس آخر إنها لا ضير منها.

كريشنامورتي: ماذا ترى أنت؟ نحِّ مؤقتًا ما يقوله غيرك من الناس – فقد تكون أقوالهم من قبيل الحكم المسبق – وأصغ للسؤال. ما رأيك في فتى "يتعود" شيئًا سلفًا؟ – سواء كان شرب الشاي أو التدخين أو التنافس على الأكل، إلى ما هنالك. قد لا يكون هناك ضير من الوقوع في شَرَك عادة فعل شيء وأنت في السبعين من عمرك أو الثمانين، وإحدى قدميك في القبر؛ أما وأنك في مستهل عمرك، فإن تعوُّدك شيئًا سلفًا هو أمر فظيع، أليس كذلك؟ تلك هي المسألة المهمة، لا مسألة وجود ضير من شربك الشاي أو لا.

تراك حين تتعود شيئًا، يكون ذهنك في طريقه سلفًا إلى المقبرة. إذا فكرت كهندوسي أو كشيوعي أو ككاثوليكي أو كپروتستنتي، فإن ذهنك في طريقه سلفًا إلى الانحطاط والتلف. أما إذا كان ذهنك يقظًا، مستفسرًا ليكتشف لماذا أنت واقع في شَرَك عادة معينة، لماذا تفكر بطريقة بعينها، إذ ذاك فإن المسألة الثانوية حول وجود ضير من تدخينك أو شربك الشاي تغدو يسيرة المعالجة.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 117-124.

فكر في هذه الأمور 3 من 27 – الحرية والمحبة

۳

الحرية والمحبة*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

ربما لم يفهم بعضكم كل ما قلت حول الحرية كل الفهم؛ ولكن، كما سبق لي أن أشرت، من المهم جدًّا أن تكونوا عرضة لأفكار جديدة، لشيء لعلكم لم تتعوَّدوه. رؤية أشياء الحياة الجميلة أمر حسن، لكنكم يجب كذلك أن ترصدوا أشياءها القبيحة أيضًا، ينبغي لكم أن تكونوا متيقظين لكل شيء. بالمثل، ينبغي لكم أن تكونوا عرضة لأشياء لعلكم لا تفهمونها بعدُ تمام الفهم؛ فكلما تفكرتم في هذه الأمور التي قد تصعب عليكم نوعًا ما وتدبرتموها، زادت قدرتكم على عيش حياة غنية.

لا أدرى إنْ كان أحدكم قد لحظ، في الصباح الباكر، ضوء الشمس على سطح المياه: أية لطافة خارقة هي لطافته، وكيف تتراقص المياه الداكنة، ونجمة الصبح تطل من فوق الأشجار، تلك النجمة الوحيدة في السماء. أتراكم تلحظون أي شيء من ذلك أبدًا؟ أم أنكم من الانهماك، من الانشغال بروتينكم اليومي، بحيث إنكم تنسون، أو لم تعرفوا قط، كم هو غني جمال هذه الأرض؟ – هذه الأرض التي علينا أن نعيش عليها جميعًا. فسواء سمينا أنفسنا شيوعيين أم رأسماليين، هندوسًا أم بوذيين، مسلمين أم مسيحيين، سواء كنا عُميًا، عُرجًا، أم أصحاء وسعداء، فهذه الأرض لنا. هل تفهمون؟ إنها أرضنا، لا أرض سوانا؛ إنها ليست أرض الغني فقط، ولا هي ملك للحكام ذوي النفوذ أو لأشراف الإقطاعيين حصرًا، بل هي أرضنا جميعًا، أرضكم وأرضي. نحن نكرات، لكننا نحن أيضًا نعيش على هذه الأرض، وعلينا جميعًا أن نعيش سوية. إنها عالم الفقراء بقدر ما هي عالم الأغنياء، عالم الأميين وعالم المتعلمين على حدٍّ سواء؛ إنها عالمنا، وأرى أنه لفي غاية الأهمية أن نشعر بهذا وأن نحب الأرض، لا في بعض المناسبات وحسب، كأنْ نحبها في صباح رائق، بل طوال الوقت. ولا يمكن لنا أن نشعر بأنها عالمنا فنحبها إلا حين نفهم ماهية الحرية.

ليس هناك في الوقت الحاضر شيء يليق به اسمُ "حرية"؛ فنحن لا نعرف ما تعنيه الحرية. نود أن نكون أحرارًا، لكن جميع الناس، إذا لحظتم، – المدرس، الوالد، المحامي، الشرطي، الجندي، السياسي، رجل الأعمال، – يفعلون شيئًا ما، كلٌّ في زاويته الضيقة، للحيلولة دون تلك الحرية. الحرية ليست مجرد فعل ما يحلو لك، ولا هي القطيعة مع الظروف الخارجية التي تقيدك، بل فهم مشكلة الاتكال في كليتها. هل تدرون ما هو الاتكال؟ أنت متكل على أبويك، ألست كذلك؟ أنت تتكل على مدرِّسيك، تتكل على الطباخ، على ساعي البريد، على الرجل الذي يأتيك باللبن، وهكذا دواليك. ذاك النوع من الاتكال بوسع المرء أن يفهمه بسهولة إلى حدٍّ ما. لكن هناك نوعًا من الاتكال أعمق بكثير لا بدَّ للمرء من فهمه قبل أن يقدر أن يكون حرًّا: إنه اتكال المرء على سواه من أجل سعادته. هل تدري ما يعنيه اتكالك على أحدهم من أجل سعادتك؟ إن مجرد اتكالك المادي على سواك ليس هو ما يقيد بقدر ما هو اتكالك الداخلي، النفساني، الذي تستمد منه سعادة مزعومة؛ فحين تتكل على أحدهم بتلك الطريقة تصير عبدًا. إذا ظللت، وأنت تتقدم في العمر، متكلاً عاطفيًّا على أبويك، على الزوجة أو الزوج، على گورو [معلم روحي]، أو على فكرة ما، فبداية العبودية تكون موجودة سلفًا. نحن لا نفهم هذا – مع أن غالبيتنا، ولاسيما في ريعان الشباب، تتوق إلى الحرية.

لكي نكون أحرارًا لا بدَّ لنا من التمرد على صنوف الاتكال الداخلي كافة؛ وليس بوسعنا أن نتمرد إذا لم نفهم لماذا نحن متكلون. فما لم نفهم صنوف الاتكال الداخلي كلها، ونفلت منها حقًّا، لا نستطيع أن نكون أحرارًا أبدًا، لأن في ذلك الفهم وحده يمكن للحرية أن توجد. لكن الحرية ليست مجرد ردة فعل. هل تعرفون ما هي ردة الفعل؟ إذا قلت لك شيئًا جارحًا، إذا نعتُّك بصفة قبيحة فغضبت مني، فتلك ردة فعل – ردة فعل ناجمة عن الاتكال؛ والاستقلال هو الآخر مزيد من ردِّ الفعل. لكن الحرية ليست ردة فعل، وما لم نفهم ردة الفعل ونتجاوزها، لن نكون أحرارًا أبدًا.

هل تدري ما يعنيه أن تحب أحدهم؟ هل تدري معنى أن تحب شجرة، أو عصفورًا، أو حيوانًا أليفًا، بحيث تعتني به، تغذيه، ترعاه، مع أنه قد لا يعطيك شيئًا في المقابل، مع أنها قد لا تقدم لك الظل، مع أنه قد لا يتبعك، أو يتكل عليك؟ أغلبنا لا يحب على ذلك النحو، ونحن لا نعرف ما يعنيه ذلك بتاتًا لأن حبَّنا مطوَّق دومًا بالقلق، بالغيرة، بالخوف، – ما مضمونه أننا نتكل داخليًّا على سوانا، نريد أن نكون محبوبين. نحن لا نحب وحسب، ونكتفي بذلك، بل نطلب شيئًا لقاءه؛ وبمجرد أن نطلب نصير متكلين.

وإذن فالحرية والمحبة متلازمتان. المحبة ليست ردة فعل: إذا أحببتك لأنك تحبني فهي مجرد مقايضة، سلعة تُشترى في السوق؛ إنها ليست محبة. أن تحب هو أن لا تطلب شيئًا في المقابل، ولا أن تشعر حتى بأنك تعطي شيئًا – ووحدها محبة كهذه تستطيع أن تعرف الحرية. لكنكم، كما ترون، لا تربَّون على هذا: تعليمكم يقتصر على الرياضيات والكيمياء والجغرافيا والتاريخ فحسب، لأن شغل آبائكم الشاغل هو مساعدتكم على نيل وظيفة مناسبة وعلى إصابة النجاح في الحياة. وإذا اتفق لهم أن يكونوا من أصحاب المال فقد يرسلونكم إلى الخارج، لكن كل قصدهم، مثلهم كمثل باقي الناس في العالم، هو أن يوفروا لكم الغنى والحصول على مكانة محترمة على سلَّم المجتمع؛ وكلما أمعنتم في الصعود تسببتم في مزيد من البؤس للآخرين، لأن بلوغ تلك المكانة يضطركم إلى المنافسة، إلى عدم الشفقة. وهكذا يرسل الآباء أبناءهم إلى مدارس فيها الطموح والتنافس، لكنها تخلو تمامًا من المحبة؛ ولذلك فإن مجتمعًا كمجتمعنا يتدهور تدهورًا مستمرًّا، يعاني صراعًا دائمًا. ومع أن رجال السياسة والقضاة ونخبة القوم المزعومين يتكلمون على السلام، فإن كلامهم لا معنى له البتة.

و الآن، علينا، أنتم وأنا، أن نفهم مشكلة الحرية هذه في كلِّيتها. لا بدَّ لنا من أن نكتشف بأنفسنا ما تعنيه المحبة؛ لأننا ما لم نحب لن نستطيع أبدًا أن نكون مهتمين، منتبهين، لن نستطيع أبدًا أن نكون مبالين. هل تعرفون ما تعنيه المبالاة؟ كأنْ ترى حجرًا حادًّا على درب تطؤه أقدام حافية كثيرة فتزيله، لا لأن أحدهم طلب منك أن تفعل، بل لأنك تشعر بشعور سواك – لا همَّ مَن يكون، ولعلك لن تصادفه أبدًا؛ كأنْ تزرع شجرة وترعاها، تنظر إلى النهر وتستمتع بامتلاء الأرض، ترصد طائرًا يحلِّق وترى جمال طيرانه، تتصف بالحساسية وتكون منفتحًا على هذه الحركة الخارقة المسماة بالحياة – لحصول هذا كله لا بدَّ من الحرية؛ ولتكون حرًّا لا بدَّ لك من أن تحب. من دون محبة لا توجد حرية؛ من دون المحبة، تكون الحرية مجرد فكرة لا قيمة لها بتاتًا. وإذن، فوحدهم الذين يفهمون الاتكال الداخلي ويفلتون منه، ويعرفون، بالتالي، ما هي المحبة، – وحدهم هؤلاء بوسعهم أن يكونوا أحرارًا؛ وعلى أيديهم وحدهم سوف تقوم حضارة جديدة، عالم مختلف.

سؤال: ما أصل الرغبة، وكيف أقدر أن أتخلص منها؟

كريشنامورتي: إنه شاب يسأل السؤال – ولِمَ عليه له أن يتخلص من الرغبة أصلاً؟ أتفهمون؟ إنه لا يزال شابًّا، مفعمًا بالحياة، بالحيوية؛ فلِمَ عليه أن يتخلص من الرغبة؟ لقد قيل له إن التحرر من الرغبة من أعظم الفضائل، وإنه بالتحرر من الرغبة سيحقق الله أو ذلك الشيء الأسمى، مهما تكن تسميته؛ لذا تراه يسأل: "ما أصل الرغبة، وكيف يمكن لي أن أتخلص منها؟" لكن الدافع إلى التخلص من الرغبة بعينه لا يزال جزءًا من الرغبة، أليس كذلك؟ فالخوف في الواقع هو الذي يحض عليه.

ما هو أصل الرغبة، مصدرها، بدايتها؟ ترى شيئًا جذابًا، فتريده؛ ترى سيارة، أو قاربًا، فتريد امتلاكه؛ أو تراك تريد أن تبلغ منزلة رجل ثري، أو تصير سنِّياسي [ناسكًا زاهدًا]. هذا هو أصل الرغبة: الرؤية، التَّماس، ومنه ينشأ الإحساس، ومن الإحساس تتولد الرغبة. والآن، حالما تقر بأن الرغبة تجلب النزاع، تسأل: "كيف أقدر على التحرر من الرغبة؟" وإذن فإن ما تريده حقًّا ليس التحرر من الرغبة، بل الخلاص من الهمِّ، القلق، الوجع الذي تسببه الرغبة. تراك تريد التحرر من ثمار الرغبة المُرَّة، لا من الرغبة ذاتها – وهذا شيء هام جدًّا لا مناص لك من فهمه. فلو أمكن لك أن تنتزع من الرغبة الوجع، العذاب، الصراع، وسائر صنوف القلق والمخاوف المصاحبة لها، بحيث لا يبقى منها إلا اللذة، أتراك كنت تريد عندئذ أن تتحرر من الرغبة؟

مادامت باقيةً الرغبةُ في الكسب، في الإنجاز، في الصيرورة، على أي مستوى كانت، فهناك حتمًا القلق، الأسى، الخوف. فالطموح إلى الغنى، إلى أن نكون هذا أو ذاك، لا يتلاشى إلا عندما نرى نتانة الطموح ذاته وطبيعته المُفسدة. ولحظة نرى أن الرغبة في النفوذ، أيًّا كان شكله، – سواء كانت في نفوذ رئيس وزراء أو قاض أو كاهن أو گورو [معلم روحي]، – هي شر من حيث الأساس، تزول رغبتنا في أن نصير أصحاب نفوذ. لكننا لا نرى أن الطموح مُفسِد، أن الرغبة في النفوذ شريرة، بل نقول، على العكس، إننا سوف نستعمل النفوذ للخير – وهذا كله محض هراء. فالوسيلة الطالحة لا يمكن لها أن تُستعمل أبدًا لبلوغ غاية صالحة: إذا كانت الوسيلة شريرة فالغاية ستكون شريرة هي الأخرى. الخير ليس نقيض الشر؛ إنه يوجد فقط حين يبطل ما هو شرير تمامًا.

وإذن، إذا لم نفهم مدلول الرغبة بكلِّيته، بنتائجها وعواقبها، فإن مجرد محاولة التخلص من الرغبة لا معنى له.

سؤال: كيف نقدر أن نتحرر من الاتكال مادمنا نعيش في المجتمع؟

كريشنامورتي: هل تعلم ما هو المجتمع؟ المجتمع هو العلاقة بين الإنسان والإنسان، أليس كذلك؟ لا تعقِّد الأمر، لا تقتبس من كتب كثيرة؛ فكِّر فيه ببساطة شديدة، وسوف ترى أن المجتمع هو العلاقة بينك وبيني وبين الآخرين. العلاقة الإنسانية هي التي تصنع المجتمع؛ ومجتمعنا الحالي مبني على علاقة استحواذ، أليس كذلك؟ أغلبنا يريد المال، النفوذ، الأملاك، السلطة؛ على هذا المستوى أو ذاك، نريد المكانة والجاه، وبذا بنينا مجتمعًا استحواذيًّا. ومادمنا استحواذيين، مادمنا نريد مكانة وجاهًا ونفوذًا وما إلى ذلك، فإننا ننتمي إلى هذا المجتمع، وبالتالي، نتكل عليه. لكن المرء، إذا لم يكن يريد أيًّا من هذه الأشياء، وبقي ببساطة على ما هو عليه بتواضع عظيم، يكون عندئذ خارجه؛ إذ ذاك يتمرد المرء على المجتمع ويفلت منه.

التربية حاليًّا – لسوء الحظ – تهدف إلى جعلك تنصاع لهذا المجتمع الاستحواذي، تدخل في قالبه، وتتكيف معه. ذاك كل ما يشغل بال أبويك ومدرسيك وما تنص عليه كتبك. فمادمت تنصاع، مادمت طَموحًا، استحواذيًّا، تفسد الآخرين وتحطمهم في سعيك لتحصيل المكانة والنفوذ، فأنت تُعتبر مواطنًا "محترمًا". إنك تُربى على الدخول في قالب المجتمع؛ لكن ذلك ليس تربية، بل مجرد عملية تُشرطك على الانصياع لنموذج ما. لكن الدور الحقيقي للتربية ليس أن تحولك إلى موظف أو قاض أو رئيس وزراء، بل أن تساعدك على فهم بنيان هذا المجتمع العفن في كلِّيته وتتيح لك فسحة النمو في حرية، بحيث تفلت منه وتخلق مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا. لا مناص من وجود مَن يتمردون، ليس تمردًا جزئيًّا، بل تمرد كلِّي على القديم البالي؛ فوحدهم أمثال هؤلاء الناس بوسعهم خلق عالم جديد – عالم لا يقوم على الاستحواذ، على النفوذ والجاه.

بوسعي أن أسمع كبار السن بينكم يقولون: "هذا ليس بالمستطاع أبدًا. فالطبيعة البشرية هي ما هي، وأنت تقول كلامًا فارغًا." لكننا لم نفكر قط في إبطال إشراط الذهن الراشد، ولا في عدم إشراط الطفل. التربية قطعًا علاج ووقاية في آن معًا. أنتم، الطلاب الأكبر سنًّا، مُقَولَبون سلفًا، مشروطون سلفًا، طَموحون سلفًا؛ تراك تبتغي النجاح مثل أبيك، مثل الحاكم، أو أي واحد آخر. وإذن فدور التربية الحقيقي ليس مساعدتك على إبطال إشراطك وحسب، بل وعلى فهم سيرورة الحياة هذه من يوم ليوم في كلِّيتها، وذلك لكي تتمكن من النمو في حرية وتخلق عالمًا جديدًا – عالمًا يجب أن يكون مختلفًا كل الاختلاف عن العالم الحالي. لسوء الحظ، فإن آباءكم غير مهتمين لهذا، ولا أساتذتكم، ولا عموم الجمهور. لذا لا بدَّ للتربية من أن تكون سيرورة تربية للمربي وللطالب على حدٍّ سواء.

سؤال: لماذا يتعارك البشر؟

كريشنامورتي: لماذا يتعارك الصبية الصغار؟ أنت أيضًا تتعارك أحيانًا مع شقيقك، أو مع الصبية الآخرين هنا، ألا تفعل؟ لماذا؟ أنت تُعارك على لعبة. ربما أخذ صبي آخر كرتك، أو كتابك، ولهذا تُعارك. والراشدون يتعاركون للسبب نفسه بالضبط، إلا أن لعبتهم هي المكانة أو الغنى أو النفوذ. إذا كنت تريد النفوذ، وكنت أنا أيضًا أريد النفوذ، ترانا نتعارك، ولذلك تنشب الحروب بين الأمم. الأمر على هذا القدر من البساطة، إلا أن الفلاسفة والساسة ورجال الدين المزعومين يعقِّدونه. أتعرف، إنه لفنٌّ عظيم أن تتمتع بوفرة من المعرفة والخبرة، – أن تعرف غنى الحياة، جمال الوجود، الصراعات، البلايا، الضحك، الدموع، – وتحتفظ مع ذلك بذهنك بسيطًا للغاية؛ وليس بوسعك أن تتمتع بذهن بسيط إلا حين تعرف كيف تحب.

سؤال: ما هي الغيرة؟

كريشنامورتي: تتضمن الغيرة السخط على أنت عليه وحسد الآخرين، ألا تتضمنهما؟ عدم قناعتك بما أنت إياه هو بالذات بداية الحسد. تريد أن تكون مثل واحد آخر يفوقك معرفة أو جمالاً، أو عنده بيت أكبر، نفوذ أكثر، أو مكانة أفضل من مكانتك. أو لعلك تريد أن تكون أكثر فضيلة، تريد أن تعرف كيف تتأمل تأملاً أفضل، تريد أن تصل إلى الله، تريد أن تكون شيئًا مختلفًا عما أنت عليه؛ لذا تراك تحسد، تغار. إن فهمك ما أنت إياه أمر على قدر هائل من الصعوبة، لأنه يتطلب تحررًا تامًّا من كل رغبة في تغيير ما أنت إياه إلى شيء آخر. فالرغبة في تغيير نفسك تولد الحسد والغيرة؛ في حين أن فهمك ما أنت إياه يُحدث تحولاً في ما أنت إياه. ولكنْ، كما ترى، تربيتك كلها تحثك أن تحاول أن تكون مختلفًا عما أنت إياه. عندما تغار يقال لك: "لا تكن غيورًا، فالغيرة شيء فظيع." فتراك تجاهد كي لا تكون غيورًا؛ لكن تلك المجاهدة بعينها هي جزء من الغيرة، لأنك تريد أن تكون مختلفًا.

الوردة البديعة، كما تعلم، وردة بديعة؛ لكننا، نحن بني البشر، وُهبنا القدرة على التفكير، وترانا نسيء التفكير. معرفة كيف نفكر تتطلب قدرًا عظيمًا من النفاذ والفهم، لكن معرفة ماذا نفكر فيه سهلة بالمقارنة. تربيتنا الحالية تملي علينا ماذا نفكر فيه، لكنها لا تعلِّمنا كيف نفكر، كيف نتعمق، نستكشف؛ وفقط حين يعرف المدرس، ناهيك عن التلميذ، كيف يفكر، تكون المدرسة جديرة باسمها حقًّا.

سؤال: لماذا لا يرضيني شيء أبدًا؟

كريشنامورتي: طفلة صغيرة تسأل هذا السؤال، وأنا واثق من أنه لم يحضها على سؤاله أحد. إنها في ريعان عمرها، وتريد أن تعرف لماذا لا تشعر بالرضا أبدًا. فما قولكم، أيها الراشدون؟ هذا جنى أيديكم: لقد أوجدتم هذا العالم الذي تسأل فيه طفلة صغيرة لماذا لا يرضيها شيء أبدًا. يُفترَض فيكم أنكم مربون، لكنكم لا ترون مأساة هذا الأمر. إنكم تمارسون التأمل، لكنكم بليدون، منهكون، أموات في الداخل.

لماذا لا يرضى البشر أبدًا؟ أليس لأنهم يطلبون السعادة، ظانِّين أنهم، عبر التغيير الدائم، سيكونون سعداء؟ إنهم يتنقلون من عمل لآخر، من علاقة لأخرى، من ديانة أو إيديولوجيا لأخرى، ظنًّا منهم أنهم، عبر حركة التغيير الدائمة هذه، سوف يجدون السعادة – وإلا فإنهم يختارون بقعة حياة منعزلة وينتنون فيها. القناعة قطعًا شيء مختلف تمامًا. إنها توجد فقط حين ترى نفسك كما أنت من دون أية رغبة في التغير، من دون أية إدانة أو مقارنة، – الأمر الذي لا يعني أن تكتفي بتقبُّل ما ترى وتذهب للنوم. لكن الذهن، حين يكف عن المقارنة والحكم والتقييم، فيكون بالتالي قادرًا على رؤية الـماهو من لحظة للحظة دون أن يريد تغييره – في ذلك الإدراك بالذات يوجد الأبدي.

سؤال: لماذا يجب علينا أن نقرأ؟

كريشنامورتي: لماذا يجب عليك أن تقرأ؟ أصغ بهدوء وحسب. أنت لا تسأل أبدًا لماذا يجب أن تلعب، لماذا يجب أن تأكل، لماذا يجب أن تنظر إلى النهر، لماذا فيك قسوة، – أم أنك تسأل؟ أنت لا تتمرد وتسأل لماذا يجب عليك أن تفعل شيئًا ما إلا عندما لا تستحب أن تفعله. لكن القراءة، اللعب، الضحك، القسوة، الطيبة، رؤية النهر، السحُب، – هذه كلها جزء من الحياة؛ وإذا كنت لا تجيد القراءة، إذا لم تكن تحسن المشي، إذا لم تكن قادرًا على تقدير جمال ورقة الشجر، فأنت لست حيًّا. لا بدَّ لك من فهم الحياة في كلِّيتها، لا مجرد جزء صغير واحد منها. لذلك يجب عليك أن تقرأ، لذلك يجب أن تنظر إلى السماوات، لذلك يجب أن تغني، وترقص، وتكتب القصائد، وتتألم، وتفهم، – فتلك كلها هي الحياة.

سؤال: ما هو الحياء؟

كريشنامورتي: ألا تشعر بالحياء حين تقابل شخصًا غريبًا؟ ألم تشعر بالحياء وأنت تسأل ذلك السؤال؟ أما كنت ستشعر بالحياء لو اضطررت إلى الجلوس على هذه المنصة، مثلي، وإلى مخاطبة جمهور؟ ألا تشعر بالحياء، ألا تشعر بشيء من الارتباك، فتود الوقوف ساكنًا، حين تقع عيناك فجأة على شجرة بديعة، أو زهرة رقيقة، أو عصفور جاثم على عشِّه؟ ألا ترى أنه أمر حسن أن تكون حَييًّا؟ لكن الحياء بنظر أغلبنا ينطوي على خجل بالنفس. عندما نقابل رجلاً مرموقًا – إنْ وُجد مثل هذا الشخص أصلاً – نصير خجلين بنفسنا. فترانا نفكر: "كم هو مهم، كم هو مشهور، وأنا نكرة!" وبذا نستحي، بمعنى أننا نخجل بنفسنا. لكن هناك نوعًا مختلفًا من الحياء، وهو أن يكون المرء لطيفًا حقًّا، حَييًّا؛ وفي ذلك ليس هناك أي خجل بالنفس.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 23-31.

فكر في هذه الأمور 2 من 27 – ج. كريشنامورتي

۲

مشكلة الحرية*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

أود أن أناقش معكم مشكلة الحرية. إنها مشكلة معقدة للغاية، تحتاج إلى دراسة وفهم عميقين. إننا نسمع كلامًا كثيرًا يقال حول الحرية، الحرية الدينية وحرية فعل المرء ما يحلو له أن يفعل. لقد كتب البحاثة في هذا كله مجلدات ضخمة. لكني أظن أننا نستطيع مقاربة الموضوع مقاربة بسيطة جدًّا ومباشرة، ولعل ذلك سيوصلنا إلى الحل الحقيقي.

أتساءل فيما إذا توقفتم يومًا لرصد الوهج الرائع في الغرب عند غروب الشمس، وهلال القمر الخجول يطل من فوق الأشجار؟ في تلك الساعة غالبًا ما يكون النهر هادئًا جدًّا، فينعكس عندئذ كل شيء على سطحه: الجسر، القطار الذي يسير فوقه، القمر الحنون، وكما هي الحال الآن، مع اشتداد الظلمة، النجوم أيضًا. هذا كله جميل للغاية. ولرصد شيء جميل ومشاهدته وإعطاء انتباهك كاملاً إليه، لا بدَّ لذهنك من أن يكون خاليًا من الانشغالات، أليس كذلك؟ يجب على الذهن ألا يكون مشغولاً بمشكلات أو هموم أو تخمينات. إذ فقط حين يكون الذهن هادئًا للغاية تستطيع أن ترصد حقًّا، لأن الذهن يكون عندئذ حساسًا للجمال الخارق. ولعل هاهنا دليلاً إلى مشكلتنا مع الحرية.

والآن، ما معنى أن يكون المرء حرًّا؟ هل الحرية هي قضية أن تفعل ما يتفق له أن يلائمك، أن تذهب إلى حيث يحلو لك، أو أن تفكر فيما تشاء؟ هذا ما تفعلونه في كل الأحوال. مجرد الحصول على الاستقلال، هل يعني ذلك الحرية؟ أناس كثيرون في العالم مستقلون، لكنْ قليلون جدًّا أحرار. الحرية تقتضي ذكاءً عظيمًا، ألا تقتضيه؟ أن تكون حرًّا هو أن تكون ذكيًّا؛ لكن الذكاء لا يوجد بمجرد تمني الحرية، بل يوجد فقط عندما تبدأ بفهم بيئتك كلها، بفهم المؤثرات الاجتماعية والدينية وتأثيرات الأبوين والتقاليد التي تضيِّق عليك الخناق باستمرار. لكن فهم هذه المؤثرات المختلفة – تأثير أبويك، حكومتك، المجتمع، الثقافة التي تنتمي إليها، تأثير معتقداتك، آلهتك وخرافاتك، تأثير التقاليد التي ترضخ لها من دون تفكير – إن فهم هذه المؤثرات كلها والتحرر منها يتطلب نفاذ بصيرة عميق؛ لكنك في الغالب تستسلم لها لأنك داخليًّا مرعوب: تراك تخشى عدم الحصول على منصب جيد في الحياة؛ تخشى ما سوف يقوله رجل الدين؛ تخشى عدم اتِّباع التقليد وعدم فعل الصواب. لكن الحرية في الحقيقة حالة ذهنية لا خوف فيها ولا إكراه، ولا دافع إلى الشعور بالأمن.

ألا يريد أغلبنا أن يشعروا بالأمان؟ ألا نريد أن يقال لنا: كم نحن أناس رائعون، كم نبدو محبَّبين، أو أي ذكاء خارق هو ذكاؤنا؟ – فلولا ذلك لما وضعنا ألقابًا قبل أسمائنا. تلك الأشياء من هذا النوع تمنحنا ثقة بالنفس، إحساسًا بالأهمية. نريد جميعًا أن نكون أناسًا مشهورين – وبمجرد أن نريد أن نكون ذوي شأن لا نعود أحرارًا.

أرجوكم أن تدركوا هذا، لأنه الدليل الحقيقي إلى فهم مشكلة الحرية. فسواء في عالم رجال السياسة والنفوذ والمناصب والسلطة هذا، أو فيما يُسمى "العالم الروحي"، حيث تتشوق إلى اكتساب الفضيلة أو النبل أو القداسة، بمجرد أن تريد أن تكون شخصية مرموقة لا تعود حرًّا. لكن الرجل أو المرأة الذي يرى عبثية هذه الأشياء كلها ويكون قلبه بالتالي بريئًا، وبالتالي غير مدفوع بالرغبة في أن يصبح شخصية مرموقة – شخص كهذا إنسان حر. إذا فهمتم بساطة الأمر سوف تدركون أيضًا جماله وعمقه الخارقين.

وفي الحاصل، وُضعت الامتحانات لذاك الغرض بعينه: لمنحك منصبًا، لجعلك شخصية مرموقة. الألقاب والمناصب والمعرفة تشجعك أن تكون ذا شأن. ألم تلحظ أن أبويك ومدرسيك يقولون لك إنك يجب أن تحصِّل شيئًا ما في الحياة، إنك يجب أن تكون ناجحًا مثل عمك أو جدك؟ أو تراك تحاول أن تقتدي ببطل ما، أن تكون مثل السادة المعلِّمين أو القديسين؛ ومنه فأنت لست حرًّا أبدًا. فسواء حذوت حذو سيد معلِّم أو قديس أو مدرس أو أحد أقاربك، أم التزمْتَ تقليدًا معينًا، ينطوي هذا كله على طلب من جانبك بأن تكون ذا شأن؛ وفقط عندما تفهم هذا الأمر حق فهمه توجد الحرية.

دور التربية، إذن، هو مساعدتك منذ الطفولة على أن لا تقلد أحدًا، بل أن تكون نفسك طوال الوقت. وهذا شيء فعلُه صعب للغاية: سواء كنت قبيحًا أو جميلاً، سواء كنت حسودًا أو غيورًا، أن تكون ما أنت إياه دومًا – على أن تفهمه. أن تكون نفسك هو شيء صعب جدًّا، لأنك تظن أن ما أنت إياه خسيس، وأنك إذا استطعت وحسب أن تغيِّر ما أنت إياه إلى شيء نبيل سيكون هذا رائعًا؛ لكن ذلك لا يحدث أبدًا. في حين أنك إذا نظرت إلى ما أنت إياه فعليًّا، وفهمته، فإن في ذلك الفهم بعينه تحولاً جذريًّا. وإذن فالحرية لا تكمن في محاولتك أن تصير شيئًا مختلفًا، ولا في فعل كل ما يتفق لك أن تشتهي فعله، ولا في اتِّباع سلطة التقاليد أو أبويك أو معلِّمك الروحي [گورو]، بل في فهم ما أنت إياه من لحظة للحظة.

وكما ترى، أنت لا تربَّى لهذه الغاية: فتربيتك تشجعك أن تصير هذا الشيء أو ذاك – لكن ذلك ليس فهم نفسك. إن "نفسـ"ـك شيء معقد جدًّا؛ إنها ليست فقط الكيان الذي يذهب إلى المدرسة، يتشاجر، يلعب ألعابًا، يخاف، لكنها أيضًا شيء خفي، ليس ظاهرًا. إنها ليست مركَّبة من كل الأفكار التي تفكر فيها وحسب، ولكن أيضًا من كل الأشياء التي وضعها الآخرون والكتب والجرائد والقادة في ذهنك؛ ومن الممكن فهم ذلك كله فقط عندما لا تريد أن تصبح شخصية مرموقة، عندما لا تقلد، عندما لا تتبع أحدًا – ما يعني، حقًّا، عندما تكون متمردًا على التقليد برمته الذي يحثك على أن تصير ذا شأن. تلك هي الثورة الحقيقية الوحيدة التي تؤدي إلى حرية خارقة. إن تنمية هذه الحرية هي دور التربية الحقيقي.

آباؤكم ومدرسوكم ورغباتكم الخاصة يريدونكم أن تتماهوا مع هذا الشيء أو ذاك من أجل أن تكونوا سعداء، آمنين. لكنكم، لكي تكونوا أذكياء، ألا يجب عليكم أن تخترقوا كل المؤثرات التي تستعبدكم وتسحقكم؟

الأمل في عالم جديد يكمن في أولئك منكم الذين يبدؤون في رؤية ما هو زائف ويتمردون عليه، ليس لفظيًّا وحسب، بل فعليًّا. ولذلك عليكم أن تطلبوا التربية الصحيحة؛ لأنه فقط عندما تنمون في حرية تستطيعون أن تخلقوا عالمًا جديدًا ليس قائمًا على التقاليد ولا مشكَّلاً بحسب رغبة الفيلسوف الفلاني أو مزاجية مفكر مثالي ما. ولكن لا مجال للحرية مادمت تحاول فقط أن تصير شخصية مرموقة أو تقلد مثالاً نبيلاً.

سؤال: ما هو الذكاء؟

كريشنامورتي: فلنغُصْ في المسألة بتأنٍّ وصبر، ولنكتشف. الاكتشاف ليس التوصل إلى نتيجة. لا أدري إنْ كنتم تدركون الفرق. لحظة تتوصل إلى نتيجة حول ماهية الذكاء تكف عن كونك ذكيًّا. ذلك ما تفعله غالبية الناس الأكبر سنًّا: لقد توصلوا إلى نتائج، وبالتالي كفوا عن كونهم أذكياء. وإذن فقد اكتشفتم في الحال شيئًا واحدًا: وهو أن الذهن الذكي ذهن يتعلم تعلمًا مستمرًّا، ولا يستنتج أبدًا.

ما هو الذكاء؟ أغلب الناس يكتفون بتعريف بماهية الذكاء. فهم إما يقولون: "هذا تفسير جيد"، وإما يفضلون تفسيرهم الخاص؛ وذهنٌ يكتفي بتفسير ما ذهنٌ سطحي للغاية، وبالتالي ليس ذكيًّا.

لقد بدأتم تدركون أن ذهنًا ذكيًّا ذهن لا يكتفي بالتفسيرات، بالاستنتاجات؛ ولا هو ذهن يسلِّم بمعتقد ما، لأن الاعتقاد هو أيضًا شكل آخر من الاستنتاج. الذهن الذكي هو ذهن دائم التقصي، ذهن يراقب، يتعلم، يدرس. ما يعني ماذا؟ ما يعني أن الذكاء يوجد فقط عندما ينعدم الخوف، عندما تكون مستعدًّا للتمرد، لمعارضة البنية الاجتماعية برمتها، لكي تكتشف ما هو الله، أو لتكتشف حقيقة أي شيء.

الذكاء ليس المعرفة. فحتى لو استطعت أن تقرأ كتب العالم كلها لما أعطاك هذا ذكاء. الذكاء شيء حاذق للغاية، وليس له مكان يرسو فيه. إنه يوجد فقط عندما تفهم سيرورة الذهن بكلِّيتها – لا الذهن بحسب رأي فيلسوف أو معلم ما، بل ذهنك أنت. فذهنك نتاج للبشرية جمعاء، وحين تفهمه، لست بحاجة لأن تدرس كتابًا واحدًا حتى، لأن الذهن يشتمل على معرفة الماضي بأسرها. وإذن، يوجد الذكاء مع فهمك نفسَك؛ وتستطيع فهم نفسك فقط في علاقتك مع عالم الناس والأشياء والأفكار. الذكاء ليس شيئًا تستطيع اكتسابه، كالتعلم؛ إنه ينبثق مع التمرد العظيم، أي عندما ينعدم الخوف – ما يعني، حقًّا، عندما يكون هناك شعور بالمحبة. فحيثما ينعدم الخوف توجد المحبة.

إذا كنت مهتمًّا بالتفسيرات وحسب، أخشى أنك ستشعر بأني لم أجبْ عن سؤالك. فالسؤال عن ماهية الذكاء كالسؤال عن ماهية الحياة. الحياة هي الدراسة، اللعب، الجنس، العمل، الشجار، الحسد، الطموح، الحب، الجمال، الحقيقة – الحياة هي كل شيء، أليست كذلك؟ ولكن، كما ترى، فإن غالبيتنا ليس لديهم الصبر الجاد والدءوب لمتابعة هذا التقصي.

سؤال: هل يمكن للذهن الفج أن يصبح حساسًا؟

كريشنامورتي: أصغ إلى السؤال، إلى المعنى وراء الكلمات. هل يمكن لذهن فج أن يصير حساسًا؟ إذا قلت إن ذهني فج وأحاول أن أصير حساسًا، فالجهد لأصير حساسًا بحدِّ ذاته هو الفجاجة بعينها. أرجوك أن تدرك هذا. لا تتعجب، بل عاينْه! في حين أنني، إذا أدركتُ أنني فج من غير أن أريد التغير، من غير أن أحاول أن أصير حساسًا، إذا بدأت أفهم ماهية الفجاجة، ورصدتها في حياتي من يوم ليوم، – الطريقة النهمة التي آكل بها، الفظاظة التي أعامل بها الناس، الغرور، التكبر، خشونة عاداتي وأفكاري، – عندئذ فإن هذا الرصد بعينه يحوِّل الـماهو جذريًّا.

بالمثل، إذا كنت غبيًّا وقلت في نفسي إن علي أن أصير ذكيًّا، فالجهد لأصير ذكيًّا هو مجرد شكل أعظم من أشكال الغباء؛ لأن المهم هو فهم الغباء. فمهما حاولت أن أصير ذكيًّا فإن غبائي سيبقى. قد أكتسب طلاء الثقافة السطحي، قد أتمكن من اقتباس الكتب أو ترديد مقاطع من كتَّاب عظام، لكني سوف أظل من حيث الأساس غبيًّا. لكني إذا رأيت الغباء وفهمته كما يعبِّر عن ذاته في حياتي اليومية، – كيف أتعامل مع خادمي، كيف أنظر إلى جاري، إلى الرجل الفقير، إلى الرجل الغني، إلى الموظف، – إذ ذاك فإن ذلك الوعي نفسه يجلب تحطيم الغباء.

جرِّب هذا بنفسك: راقب نفسك وأنت تكلم خادمك، لاحظ الاحترام البالغ الذي تُعامِل به مسؤولاً حكوميًّا وقلة الاحترام التي تبديها للرجل الذي ليس لديه شيء يعطيكه. عندئذ تبدأ باكتشاف مقدار غبائك؛ وفي فهم ذلك الغباء ذكاء، حساسية. لستَ مضطرًّا لأن تصير حساسًا. فالمرء الذي يحاول أن يكون ذا شأن امرؤ قبيح، غير حساس؛ إنه شخص فج.

سؤال: كيف يستطيع الطفل اكتشاف ما هو دون مساعدة أبويه ومدرِّسيه؟

كريشنامورتي: هل قلتُ إنه يستطيع، أم أن هذا تأويلك أنت لما قلتُ؟ سيكتشف الطفل أمورًا عن نفسه إذا كانت البيئة التي يحيا فيها تساعده على فعل ذلك. إذا كان الأبوان والمدرسون مهتمين حقًّا بأن يكتشف الشخص الفتي ما هو، لن يجبروه على شيء، بل سيوجِدون له بيئة يتوصل فيها إلى معرفة نفسه.

لقد سألتَ أنت هذا السؤال؛ لكن هل هي مشكلة حيوية بنظرك؟ لو كنت تشعر شعورًا عميقًا أن من المهم للطفل أن يكتشف أمورًا عن نفسه، وأنه لا يستطيع أن يفعل هذا مادامت تسيطر عليه سلطة ما، ألن تساعد في إيجاد البيئة الصحيحة؟ إنه مرة أخرى الموقف القديم إياه: قل لي ماذا أفعل وسأفعله. نحن لا نقول: "هيا نتشارك في حل الأمر معًا." مشكلة كيفية إيجاد بيئة يستطيع الطفل فيها تحصيل معرفة عن نفسه قضية تخص الجميع – الآباء والمدرسين والأطفال أنفسهم. لكن معرفة الذات لا يمكن فرضُها، الفهم لا يمكن الإجبار عليه؛ وإذا كانت هذه مسألة حيوية بنظرك وبنظري، بنظر الآباء وبنظر المدرسين، فإننا معًا سوف ننشئ مدارس من النوع الصحيح.

سؤال: أخبرني الأطفال أنهم رأوا في القرى بعض الظواهر العجيبة، كالتلبُّس، وأنهم خائفون من الأشباح والأرواح وما شابه. وهم يسألون أيضًا عن الموت. فماذا ينبغي أن يقال في هذا كله؟

كريشنامورتي: في الوقت المناسب سنتقصى ماهية الموت. ولكن، كما ترون، الخوف شيء عجيب. لقد أخبركم، أيها الأطفال، آباؤكم وكبار السن عن الأشباح – ولولا ذلك على الأرجح لما رأيتم أشباحًا. لقد أخبركم أحدهم عن تلبُّس الأرواح. أنتم أصغر من أن تدروا بتلك الأمور. إنها ليست خبرتكم الشخصية، بل هي انعكاس لما أخبركم به الكبار. والكبار أنفسهم غالبًا ما لا يفقهون شيئًا عن هذه الأمور؛ لقد قرأوا عنها في بعض الكتب وحسب، ويظنون أنهم فهموها. وهذا يثير سؤالاً مختلفًا تمامًا: هل هناك خبرة لا يشوبها الماضي؟ إذا كانت الخبرة مشوبة بالماضي فهي مجرد استمرار للماضي، وبالتالي ليست خبرة أصيلة.

المهم هو أن على أولئك منكم الذين يتعاملون مع الأطفال ألا يفرضوا عليهم أضاليلهم، مفاهيمهم الشخصية عن الأشباح، أفكارهم وخبراتهم الخاصة. هذا شيء من الصعب تفاديه، لأن الكبار يطيلون الكلام على كل هذه الأمور غير الجوهرية التي لا أهمية لها في الحياة؛ وبذا يلقنون الأطفال تدريجيًّا قلقهم ومخاوفهم وخرافاتهم، وبالطبع يكرِّر الأطفال ما سمعوه. من المهم للكبار، الذين عمومًا لا يفقهون شيئًا عن هذه الأمور، ألا يتكلموا عنها أمام الأطفال، بل أن يساعدوا، بدلاً من ذلك، في إيجاد مناخ يستطيع فيه الأطفال أن ينموا في حرية وبلا خوف.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 16-22.

فكر في هذه الأمور 1 من 27 – ج. كريشنامورتي

۱

دور التربية*

ج. كريشنامورتي

ج. كريشنامورتي

أتساءل فيما إذا سألنا أنفسنا يومًا عن معنى التربية. لماذا نذهب إلى المدرسة، لماذا نتعلم مواد متنوعة، لماذا نجتاز امتحانات ونتنافس فيما بيننا على درجات أفضل؟ ماذا تعني هذه التربية المزعومة، وما هو أساسها؟ هذه حقًّا مسألة هامة للغاية، ليس للطلاب وحسب، بل وللأهل والمدرسين أيضًا، ولكل مَن يحب هذه الأرض. لماذا نحتمل كل هذه المشقة في سبيل التعليم؟ هل نفعل لمجرد النجاح في بعض الامتحانات والحصول على وظيفة؟ أم أن دور التربية هو تأهيلنا، مادمنا في ريعان الصبا، لفهم سيرورة الحياة بأسرها؟ إن الحصول على وظيفة وكسب العيش أمر ضروري – ولكن هل ذلك كل شيء؟ هل نتربى من أجل ذلك فقط؟ الحياة ليست قطعًا مجرد وظيفة أو صنعة؛ الحياة شيء خارق الاتساع والعمق؛ إنها سرٌّ عظيم، مجال شاسع، نؤدي فيه دورنا كبشر. فإذا كنا نستعد لمجرد كسب العيش، سيفوتنا معنى الحياة ككل؛ وفهم الحياة أهم بكثير جدًّا من مجرد الاستعداد للامتحانات لنصير بارعين جدًّا في الرياضيات أو الفيزياء أو ما شئتم.

إذن، سواء كنا مدرسين أم طلابًا، أليس من المهم أن نسأل أنفسنا لماذا نربي الآخرين أو نتربى؟ وماذا تعني الحياة؟ أليست الحياة شيئًا خارقًا؟ الطيور، الأزهار، الأشجار المزدهرة، السماوات، النجوم، الأنهار وما تحويه من أسماك – هذه الأشياء كلها هي الحياة. والحياة هي الفقراء والأغنياء؛ الحياة هي المعارك المستمرة بين الجماعات والأجناس والأمم؛ الحياة هي التأمل؛ الحياة هي ما نسميه الدين، كما أنها تشمل أيضًا تلك الأشياء الدقيقة الخفية للذهن – الحسد، الطموح، الأهواء، المخاوف، الإنجازات، القلق. هذه كلها وأكثر منها بكثير هي الحياة. لكننا عمومًا نستعد لفهم زاوية واحدة صغيرة منها فقط. نجتاز بعض الامتحانات، فنجد وظيفة، ثم نتزوج، وننجب أطفالاً، ومن ثَمَّ نصير أكثر فأكثر أشبه بالآلات. نظل خائفين، قلقين، مرعوبين من الحياة. إذن، هل دور التربية أن تساعدنا على فهم سيرورة الحياة بأسرها، أم مجرد تأهيلنا على مهنة، على أفضل وظيفة يمكن لنا أن نحصل عليها؟

ماذا سيحدث لنا جميعًا عندما ننمو لنصير رجالاً ونساء؟ هل سألتم أنفسكم يومًا ماذا ستفعلون عندما تكبرون؟ على الأرجح ستتزوجون، وقبل أن تعرفوا أين أنتم، ستجدون أنفسكم آباءً وأمهات؛ وعندئذ ستتقيدون بوظيفة ما، أو بالمطبخ، حيث ستذوون تدريجيًّا. أهذا ما ستكون عليه حياتكم أنتم؟ هل سألتم أنفسكم يومًا هذا السؤال؟ ألا يجب عليكم أن تسألوه؟ إذا كانت أسرتك ثرية فقد تضمن لنفسك سلفًا منصبًا جيدًا نوعًا ما، أو قد يدبِّر لك أبوك وظيفة مريحة، أو قد تصاهر أسرة غنية؛ لكنك هناك أيضًا ستتعفن وتفسد. أتدركون ذلك؟

بالتأكيد، لا معنى للتربية بتاتًا ما لم تساعدكم على فهم مدى الحياة الشاسع، بكل دقائقها، بجمالها الخارق، بأحزانها وأفراحها. قد تنالون شهادات، وقد يكون اسمكم مسبوقًا بسلسلة من الألقاب، فتتصيدون وظيفة مرموقة – لكن ماذا بعد؟ ما فائدة هذا كله إذا صار ذهنكم من جراء ذلك بليدًا، خاملاً، غبيًّا؟ وإذن، ألا يجدر بكم، مادمتم في ريعان الصبا، أن تبحثوا لتكتشفوا ما هو جوهر الحياة؟ ثم أليس دور التربية الحقيقي أن ينمي فيكم الذكاء الذي سيحاول أن يجد الإجابة عن هذه المسائل كلها؟ هل تعلمون ما هو الذكاء؟ إنه قطعًا القدرة على التفكير الحر، من غير خوف، من غير صيغة جاهزة، بحيث تبدأ بالاكتشاف بنفسك ما هو حقيقي، ما هو صحيح؛ لكنك إذا كنت خائفًا فلن تكون ذكيًّا أبدًا. إن أي شكل من أشكال الطموح، روحانيًّا كان أم دنيويًّا، يولد القلق والخوف؛ لذا فإن الطموح لا يساعد على إيجاد ذهن واضح، بسيط، مباشر، ومن ثَمَّ ذكي.

حقًّا إنه من المهم للغاية، كما تعلمون، أن تحيوا، مادمتم في ريعان الصبا، في بيئة لا خوف فيها. فأغلبنا، كلما تقدم بنا العمر، نصير خائفين: نخاف من العيش، من فقدان الوظيفة، نخاف من التقاليد، نخاف مما قد يقوله الجيران أو الزوجة أو الزوج، نخاف من الموت. أغلبنا لديه خوف بشكل ما أو بآخر؛ وحيثما يوجد الخوف لا يوجد ذكاء. أفليس من الممكن لنا جميعًا، مادمنا في ريعان الصبا، أن نكون في بيئة لا خوف فيها، بل بالأحرى في جوٍّ من الحرية – الحرية، لا مجرد حرية أن نفعل ما يحلو لنا، بل حرية فهم سيرورة الحياة بأسرها؟ الحياة حقًّا جميلة جدًّا، وهي ليست هذا الشيء القبيح الذي صنعناه نحن بها؛ ولا يمكن لك أن تقدِّر غناها، عمقها، فتنتها الخارقة، إلا عندما تثور على كل شيء – على الدين المنظم، على التقاليد، على المجتمع الحالي العفن – بحيث تكتشف بنفسك أنت، كإنسان، ما هو حقيقي. لا أن تُقلِّد، بل أن تكتشف – تلك هي التربية، أليست كذلك؟ من السهل جدًّا أن تمتثل لما يأمرك به مجتمعك أو والداك ومدرسوك. هذه طريقة آمنة وسهلة للعيش؛ لكن هذه ليست الحياة، لأن فيها خوف، تحلُّل، موت. الحياة هي أن تكتشف بنفسك ما هو حقيقي، وتراك لا تستطيع أن تفعل هذا إلا عندما توجد حرية، عندما توجد ثورة داخلية مستمرة، في داخلك.

لكنكم لا تشجَّعون على فعل هذا؛ لا أحد يقول لكم أن تتساءلوا، أن تكتشفوا بأنفسكم ما هو الله، لأنكم إذا اتفق لكم أن تتمردوا صرتم خطرًا على كل ما هو زائف. أهلكم والمجتمع يريدونكم أن تعيشوا عيشة آمنة، وأنتم أيضًا تريدون عيشة آمنة. والعيشة الآمنة تعني عمومًا أن تعيشوا مقلِّدين، ومن ثَمَّ في خوف. دور التربية قطعًا هو مساعدة كلٍّ منا أن يعيش في حرية ومن غير خوف، أليس هذا دورها؟ وإيجاد جوٍّ لا خوف فيه يتطلب قدرًا كبيرًا من التفكر من جانبكم، كما ومن جانب المعلم أو المربي.

أتعرفون ماذا يعني هذا – أي شيء خارق هو إيجاد جوٍّ لا خوف فيه؟ ويجب علينا أن نوجِد مثل هذا الجو، لأننا نرى أن العالم مشتبك في حروب لا تنتهي؛ إنه عالم يقوده رجال سياسة يسعون دومًا إلى النفوذ؛ إنه عالم من المحامين ورجال الشرطة والجنود، عالم من الرجال والنساء الطموحين، كلهم يطلب المنصب ويتقاتل للحصول عليه. ثم هناك القديسون المزعومون، الـگورو [المعلمون] الدينيون مع أتباعهم؛ وهم أيضًا يطلبون النفوذ والمنصب، سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة. إنه عالم مجنون، مشوش تمامًا، يحارب فيه الشيوعيُّ الرأسمالي، ويقاوم الاشتراكيُّ كليهما، وكل واحد يعادي أحدًا آخر، كادحًا للوصول إلى مكان آمن أو منصب نافذ أو رخاء. العالم تمزِّقه معتقدات متنازعة، تمييزات طائفية وطبقية، انقسامات قومية، وسائر أشكال الحماقة والقسوة – وهذا هو العالم الذي تُربَون على التكيف معه. إنكم تشجَّعون على التكيف ضمن إطار هذا المجتمع الكارثي؛ أهلكم يريدونكم أن تفعلوا ذلك، وأنتم أيضًا تريدون التكيف معه.

والآن، هل دور التربية هو مجرد مساعدتكم على الامتثال لقالب هذا النظام الاجتماعي العفن، أم هو منحكم الحرية – الحرية المطلقة لتنموا وتخلقوا مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا؟ نحن نريد نيل هذه الحرية، ليس في المستقبل، بل الآن – وإلا فقد ندمَّر جميعًا. لا بدَّ لنا فورًا من إيجاد جوٍّ من الحرية، بحيث يمكن لكم أن تحيوا وتكتشفوا بأنفسكم ما هو حقيقي، بحيث تصبحون أذكياء، بحيث تستطيعون مواجهة العالم وفهمه، وليس مجرد الامتثال له، بحيث تكونون داخليًّا، عمقيًّا، نفسيًّا، في ثورة دائمة؛ لأن أولئك الثائرين دومًا وحدهم يكتشفون ما هو حقيقي، وليس المرء الذي يمتثل أو يتبع تقليدًا ما. فقط حين تكون دائم الاستفسار، دائم الرصد، دائم التعلم، تراك تجد الحقيقة أو الله أو المحبة؛ لكنك لا تستطيع الاستفسار والرصد والتعلم، لا تستطيع أن تكون واعيًا وعيًا عميقًا، إذا كنت خائفًا. لذا فإن دور التربية، قطعًا، هو استئصال الخوف – داخليًّا وخارجيًّا على حدٍّ سواء –، هذا الخوف الذي يدمِّر الفكر الإنساني والعلاقة الإنسانية والمحبة.

سؤال: إذا ثار جميع الأفراد، ألا ترى أن ذلك قد يؤدي إلى تفشي الفوضى في العالم؟

كريشنامورتي: أصغوا إلى السؤال أولاً، لأن من المهم جدًّا فهم السؤال، لا مجرد انتظار إجابة. السؤال هو: إذا ثار جميع الأفراد، ألا يؤدى ذلك إلى حدوث فوضى في العالم؟ ولكن هل نظام المجتمع الحالي كامل أصلاً بحيث تنجم الفوضى إذا ثار جميع الناس عليه؟ أليست هناك فوضى الآن؟ هل كل شيء جميل، غير فاسد؟ هل يعيش الجميع حياة سعيدة، ممتلئة، غنية؟ أليس الإنسان معاديًا للإنسان؟ أليس هناك طموح وتنافُس لا يرحم؟ إذن فالعالم أصلاً في فوضى – ذلك أول شيء لا بدَّ من إدراكه. لا تأخذوا قضية أن هذا المجتمع مجتمع منظَّم كقضية مسلَّم بها؛ لا تنبهروا بالكلمات. فسواء هنا أو في أوروبا، في أمريكا أو في روسيا، العالم داخل في طور انحطاط. فإذا كنتم ترون هذا الانحطاط فأمامكم تحدٍّ: والتحدي أمامكم هو أن تجدوا طريقة لحلِّ هذه المشكلة العاجلة. وكيفية استجابتكم لهذا التحدي هامة، أليست كذلك؟ إذا استجبتَ للتحدي كهندوسي أو كبوذي، كمسيحي أو كشيوعي، تكون استجابتك عندئذ محدودة للغاية – وهى مثل عدمها. تستطيع الاستجابة استجابة تامة وملائمة فقط عندما لا يكون فيك خوف، فقط عندما لا تفكر كهندوسي، كشيوعي أو رأسمالي، بل كإنسان كلِّي يحاول أن يحل هذه المشكلة؛ وأنت لا تستطيع حلها ما لم تكن أنت نفسك في ثورة على الوضع كله، على الجشع الطَّموح الذي يقوم عليه هذا المجتمع. عندما تكون أنت نفسك غير طموح، غير جشع، وغير متمسك بأمانك الشخصي، عندئذ فقط تستطيع أن تستجيب للتحدي وتخلق عالمًا جديدًا.

سؤال: الثورة، التعلم، المحبة – هل هذه ثلاث سيرورات منفصلة أم أنها تتم في آنٍ واحد؟

كريشنامورتي: بالطبع ليست ثلاث سيرورات منفصلة؛ إنها سيرورة متكاملة. من المهم، كما ترون، اكتشاف ما يعنيه السؤال. هذا السؤال قائم على التنظير، لا على الخبرة؛ إنه مجرد سؤال لفظي، عقلي، ومن ثَمَّ فلا يصلح. إنسان لا يعرف الخوف، ثائر حقًّا، مجاهد لاكتشاف ما يعنيه التعلم والمحبة – إنسان كهذا لا يسأل إنْ كانت سيرورة واحدة أو ثلاث سيرورات. إننا حاذقون جدًّا في استعمال الكلمات، ونظن أننا بمجرد تقديم تفسيرات نكون قد حللنا المشكلة.

هل تعرفون ما يعنيه التعلم؟ عندما تتعلمون حقًّا، فأنتم تتعلمون طوال حياتكم، ولا يوجد أستاذ خاص بعينه تتعلمون منه. إذ ذاك تتعلمون من كل شيء – من ورقة شجر ميتة، من طائر يحلق، من رائحة، من دمعة، من الأغنياء والفقراء، من الباكين، من ابتسامة امرأة، من غطرسة رجل. إنكم تتعلمون من كل شيء، ومن ثَمَّ ليس هناك مرشد، ولا فيلسوف، ولا گورو [معلم روحي]. الحياة نفسها تغدو معلِّمكم، وأنتم في حال تعلُّم دائم.

سؤال: صحيح أن المجتمع الحالي قائم على الجشع والطموح؛ ولكن إذا لم يكن عندنا طموح ألن نضمحل؟

كريشنامورتي: هذا سؤال هام للغاية حقًّا، وهو يحتاج إلى انتباه كبير.

هل تعرفون ما هو الانتباه؟ فلنكتشف معًا. في غرفة الصف، حين تحدق خارج النافذة أو تشد شعر أحدهم، يأمرك المدرس أن تنتبه. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنك لست مهتمًّا بما تدرس، فيرغمك المدرس على الانتباه – وهذا ليس انتباهًا بتاتًا. الانتباه يأتي عندما تكون مهتمًّا بشيء ما اهتمامًا عميقًا، لأنك عندئذ تحب اكتشاف كل شيء عنه؛ عندئذ يكون ذهنك كله، كيانك كله، حاضرًا. بالمثل، فإنك لحظة تدرك أن هذا السؤال – إذا انعدم طموحنا ألن نضمحل؟ – سؤال هام للغاية حقًّا، تراك تهتم وتريد اكتشاف حقيقة الأمر.

والآن، أليس الإنسان الطَّموح مدمرًا نفسه؟ ذلك أول شيء لا بدَّ من اكتشافه، وليس السؤال عما إذا كان الطموح صوابًا أم خطأ. أنظر حواليك، لاحظ جميع الناس الطموحين. ماذا يحدث عندما تكون طَموحًا؟ تفكِّر في نفسك فقط، أليس كذلك؟ تكون عديم الرأفة، تنحِّي غيرك من الناس لأنك تسعى في تحقيق طموحك، تسعى في أن تصير شخصًا مهمًّا، فتوجِد بذلك في المجتمع النزاع بين الناجحين وبين المتخلِّفين عن الركب، فتنشب معركة دائمة بينك وبين الآخرين الساعين هم أيضًا في الحصول على ما تريد. فهل هذا النزاع منتج لحياة مبدعة؟ هل تفهم، أم أن هذا أصعب من أن تفهمه؟

هل تكون طَموحًا حين تحب أن تفعل شيئًا من أجل ذاته؟ حين تفعل شيئًا بكيانك كله، لا لأنك تبتغي الوصول إلى منصب ما، ولا لتحقق مزيدًا من الربح، أو نتائج أعظم، بل ببساطة لأنك تحب أن تفعله – في ذلك، لا وجود للطموح، أليس كذلك؟ في ذلك، لا وجود للتنافس: فأنت لا تصارع أحدًا على المركز الأول. ألا ينبغي للتربية أن تساعدك على اكتشاف ما تحب حقًّا أن تفعله، بحيث إنك، من بداية حياتك إلى نهايتها، تعمل على شيء تشعر أنه يستحق العناء وله بنظرك مغزى عميق؟ – وإلا فستكون بائسًا بقية عمرك. فما لم تكن تعرف ما تريد فعله حقًّا، يسقط ذهنك في رتابة بحتة ليس فيها إلا الضجر والاضمحلال والموت. لذلك فمن المهم للغاية أن تكتشفوا، مادمتم في ريعان صباكم، ما هو الشيء الذي تحبون حقًّا أن تفعلوه؛ وهذا هو السبيل الأوحد إلى خلق مجتمع جديد.

سؤال: في الهند، كما في معظم البلدان الأخرى، تخضع التربية لرقابة الحكومة. فهل من الممكن، في ظل ظروف كهذه، تنفيذ تجربة من النوع الذي تصفه؟

كريشنامورتي: إذا لم تكن هناك مساعدة من الحكومة، ترى هل من الممكن لمدرسة من هذا النوع أن تنجو؟ ذاك ما يسأله هذا السيد. إنه يرى أن كل شيء في العالم بأسره يصير أكثر فأكثر خضوعًا لرقابة الحكومات، رجال السياسة، أو الناس من ذوي النفوذ الذين يريدون تشكيل أذهاننا وقلوبنا، يريدوننا أن نفكر بطريقة معينة. الميل السائد، سواء في روسيا أو في أي بلد آخر، هو نحو الرقابة الحكومية على التربية؛ وهذا السيد يسأل عما إذا كان ممكنًا لمدرسة من النوع الذي أتكلم عليه أن تنشأ من دون دعم حكومي.

الآن، ماذا تقول أنت؟ أتدري، إذا اعتقدتَ أن شيئًا ما مهم، أنه يستحق العناء حقًّا، فإنك ستنذر له قلبك، بصرف النظر عن الحكومات وأحكام المجتمع – وعندئذ سوف ينجح. لكن أغلبنا لا ينذرون قلوبهم لأي شيء، ولهذا نطرح هذا النوع من الأسئلة. إذا كنا – أنت وأنا – نشعر شعورًا حيويًّا أن عالمًا جديدًا يمكن له أن يوجد، عندما يكون كل واحد منا في حالة ثورة تامة، داخليًّا ونفسيًّا وروحيًّا، – إذ ذاك سننذر قلوبنا وأذهاننا وأجسامنا في سبيل إنشاء مدرسة ليس فيها شيء يسمَّى الخوف، بكل منطوياته.

سيدي، إن أي شيء ثوري حقًّا يخلقه قلة يرون ما هو حقيقي وينذرون أنفسهم للحياة وفقًا لتلك الحقيقة. لكن اكتشاف ما هو حقيقي يتطلب التحرر من التقليد، ما يعني التحرر من المخاوف كلها.


* J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 9-15.