مَـن “أنـا”؟
ديمتري أڤييرينوس
فكري كلُّه قائم ضمنًا على افتراض وجود “ذات” منفصلة. ثمة، في أفكاري وأعمالي ونشاطاتي كلِّها، “أنا” أعزو إليها كلَّ ما أفعل؛ ويكاد تعيين ماهية هذه “الأنا” أن يكون بالفعل متعذرًا. تراني، بالطبع، أربط “أنا” باسمي، بأسرتي، بأقاربي ومعارفي، بزوجي أو زوجتي، بأطفالي وأحفادي، ناهيك عن قوميتي أو معتقدي أو ديني أو مذهبي إلخ. أعرِّف بنفسي بالرجوع إلى تواريخ وأزمنة بعينها، إلى أحداث ووقائع وذكريات إلخ. غير أن هذه جميعًا ليست إلا ما أختار أن أتذكَّره وأتماهى معه، عن وعي مني أو عن غير وعي. تراكُم من الاستعدادات الوراثية والذكريات والأوصاف والنعوت والمفاهيم والمعتقدات والمرغوبات والممقوتات والمخاوف والآمال – هذه جميعًا، إذ تتبلور، تشكِّل ما أسميه “أنا”. فهل هذه “أنا” فعلاً؟ إذا استثنيت قوة التكرار والعادة – رسوخ النماذج الذهنية –، هل ثمة بين هذه الأمور ما لا أقدر على الاستغناء عنه في حياتي؟ – هذا هو السؤال.
في سيرورة نموِّنا الطبيعي، غالبًا ما تضيِّق علينا المفاهيم والإيديولوجيات والمعتقدات والعلاقات. حياتنا في حركة دائمة، فيما نحن نتطور ونتغيَّر، نتعلَّم وننمو. وفي هذا التعلُّم والنمو، هل ترانا نبدأ بحدس طبيعة “أنا” الوهمية؟ ثمة وعي ثابت لا يتغير هو ذاتنا الأعمق، هو الأساس الذي يقوم عليه رصدنا للتغيُّر في حياتنا، فينا وفي العالم من حولنا. هذا واضح نسبيًّا: رصد التغير غير ممكن إلا على خلفية ثابتة، تمامًا مثلما لا يمكن مشاهدة فيلم (صور متحرِّكة) إلا على شاشة ثابتة. لذا يلوح لي أن “جهاز إسقاطي الذهني” يُسقِطُ دومًا صورًا متغيِّرة على خلفية وعيي الثابت. هذه الصور المتغيِّرة أبدًا هي أحاسيسي ومداركي ومشاعري؛ بيد أن أسَّها وأساسَها وعيٌ ثابتٌ ينبثق منه الإحساس والإدراك والشعور.
مع ذلك، أراني أفصل نفسي عن ذاتي الأعمق – الوعي الكلِّي الواحد غير المقيَّد – بربط نفسي إلى صورة عن نفسي، ما هي إلا مخزون من المفاهيم والأوصاف والذكريات. حسُّ الانفصال هذا، في جانب منه، من إيجاد الطبيعة، وذلك من جراء شروط مولدنا نفسها ومحدودية حواسنا؛ وهو يقوى بالتنشئة والإشراط “التربوي” القائم على مفهوم “ذات” منفصلة. بمعنى مادي يومي، هذا الانقسام بين “أنا” و”غير أنا” انقسام حتمي: الانفصال المادي بنظرنا أمر واقع – أو هكذا يبدو لنا – بحسب كيفية إدراكنا الحسِّي اليومي. كذلك فإن العالم الداخلي الذي يبنيه ذهنُ كلٍّ منا عالم فريد و”منفصل” – أو هكذا يبدو لنا. وعلى الصعيد الفكري أيضًا، تحدِّد بنيتنا الذهنية وإشراطنا المجتمعي منطلَق رصدنا للظواهر وتفسيرنا لها. فهمنا للأشياء قائم على تحيُّز مكانٍ منفصل: منفصلٍ بمعنى أن هذا الفهم، والتحليل الذي يتفرع عنه، يستبعدان بالضرورة ذاتنا من حقل الإدراك.
في كلِّ إحساس وإدراك وفكر، ثمة ضمنًا افتراض وجود “كيان” منفصل يحسُّ ويدرك ويفكِّر. أليس أساس فهمنا هذا ببساطة خاطئًا؟ أليست نظرتنا الذهنية، القائمة دومًا على ما يَرِدُنا من الحواس، مجرد خدعة إدراكية؟ ألا يؤدي تحيُّزنا مكانًا منفصلاً – مركزًا – نرصد انطلاقًا منه ما نعتبره “منفصلاً” إلى ابتلاء إدراكنا بالبلبلة؟ أليست مركزية “الأنا”، في النهاية، من اختلاق مخيِّلتنا العالقة في شباك ما تصنع؟ هل يمكن لقطعة الملح المتبلورة أن تذوب في بحر الوعي الواحد غير المقيَّد الذي نحن إيَّاه حقًّا؟
ينطوي كلُّ ما نبذل من جهد للفهم والتفسير على تحيُّز مكان منفصل، بما يقتضي حتمًا وقوعنا في وهم “أنا”. وبالاصطلاح الصوفي، ألا تطلب تعريفاتنا ونظرياتنا وعقائدنا ومذاهبنا كلُّها “الجمع” بينما تراها في واقع الأمر تحتِّم “الفرق”؟ ألا ينطوي طلب الانتقال من “الفرق” إلى “الجمع” على تعزيز مفهوم مغلوط عن “طالب” منفصل عما يطلب؟ المرغوب والممقوت، الصديق والعدو، الحب والكره، إلخ – ألا تتأسس هذه المتناقضات كلُّها على وهم نسمِّيه “أنا”؟ هل بمقدورنا أن نستأصل هذا الوهم ونتخلص منه إلى الأبد؟ هل يمكن لوعينا أن يندغم في شساعة الوعي الكلِّي الواحد وضيائه، حيث تصبح البصيرة آنيَّة ويكف النزاع؟ هل يمكن لطفرة الإدراك هذه أن تتعالى عن محدودية الفكر وعن نماذج “المجاهدة الروحية” الموروثة الهازمة للذات؟ هل بوسعنا أن نعي إستراتيجيات التهرب[1]، فنواجه أنفسنا بحقيقة ما نحن؟ هل لنا أن ندرك أننا عالقون في حفرة، فنتوقف عن الحفر؟ هل بوسع أذهاننا أن تواجه هذا الخواء واللايقين؟ هل بمقدورنا أن نستجمع همَّتنا على التحول عن المعلوم ومواجهة المجهول؟
انتباهنا ونيَّتنا هما المفتاح إلى التحرر من مفهوم “أنا”. في عقد نيَّة واضحة لا تنثني على معرفة ذاتي الأعمق، وبالاستعانة بالانتباه التام، أرصد في نفسي جميع أحاسيسي ومشاعري وخواطري وأفعالي وردود فعلي. عند كلِّ فعل وردِّ فعل أسأل نفسي: “مَن” الذي يفعل؟ “مَن” الذي يردُّ الفعل؟ أشعر بالغضب، فأدرك أني غاضب. عندئذٍ بالضبط أسأل نفسي: “مَن” الغاضب فيَّ؟ بذا أُبقي وعيي حاضرًا في عملية تقصٍّ ذاتيٍّ مستمرة محورها سؤال: “مَن أنا؟” وهكذا، في كلِّ لحظة، في أفعالنا كلِّها، في خواطرنا وإحساساتنا ومشاعرنا كلِّها، يصير وهم “الأنا” المنفصلة جليًّا من تلقاء ذاته.
لا العمل ولا الكسل، لا المنهج ولا الطريقة، لا المنطق ولا التعقل، لا الأمل ولا الخوف، لا الترغيب ولا الترهيب، يمكن له أن يقودنا إلى تلك الحال. إنها يقظة عفوية على جوهر حياتنا، على نَفَسنا بالذات، على كلِّ نبضة من نبضات قلبنا، على كلِّ ورقة شجر، على كلِّ مغيب شمس… – يقظة أبعد من كلِّ بحث ومسعى.
إنها ما نحن إيَّاه بحُكم بنوَّتنا للحقيقة.
[1] راجع: ديمتري أڤييرينوس، “الحرية وإستراتيجيات التهرب”، سماوات جديدة: http://www.samawat-jadidah.org/articles/psychological/freedom_and_avoidance_strategies-dna.